قــال ديــكــســون عــن الــدويــش :
قال ديكسون في كتابه (عرب الصحراء) عن فيصل الدويش ما نصه :
{ومن أشهر معارفي من كبار المغيرين فيصل بن سلطان الدويش الشيخ السابق لعموم
قبائل مطير والذي
كان ملكاً حقيقياً بين البدو وهو الرجل الذي فعل مالم يفعله عربي آخر لمساعدة
ابن سعود ,,
للوصول إلى السلطة والشهرة وهو نفسه الذي فتح المدينة لإبن سعود وربما يكون
بعد ابن سعود ,,
نفسه أعظم رجال الإستراتيجية البدو الذين أنجبتهم الجزيرة العربية في هذا القرن ,
أما من حيث المظهر فقد كان رجلاً قصيراً عريض المنكبين كبير الأنف والرأس بشكل
ملحوظ ,,
وكان رجلاً صارماً سكوتاً ،
ونادراً ما كان يتكلم مع من يحيطون به ، ومع ذلك فإن رجال عشيرته
الدوشان يحبونه حباً يشبه العبادة ،
وكذلك رجال قبيلة مطير في جميع مناطق سكناهم فقد كانوا
يعتبرونه بطلاً عظيماً وقائداً فذاً ،
وعندما كان ينهض للسير كان يخيل للناظر أنه محدوب الظهر
قليلاً ولكنه يعرج بشكل ملحوظ من جراء جرح أصيب به في رجله ،
وقد مات سجيناً في الرياض عام 1932م ، تغمده الله برحمته,
وكان أول لقاء لي به في 31من شهر أغسطس عام 1929م ، خلال تمرد الإخوان
في ذلك العام على ابن سعود عندما اجتاز الحدود مع جميع القوات المتمردة من مطير
والعجمان وخيموا حول آبار الصبيحية في الأراضي الكويتية ،
وكان جيشه جائعاً ويفتقر إلى
المؤن وكان يأمل أن يسمح له بشراء الطعام من ميناء الكويت ،
وبلغ عدد خيامه ثلاث آلاف خيمة
تقريباً ، أما عدد الإبل المرافقة للقوة فلم يكن يقل عن مائة ألف ،
وكان منظراً مهيباً لن أنساه ما حييت ,
وبعد أن أبلغت الجهات المسئولة بعبور هذه القوة الهائلة حدود دولة الكويت ,
أمرني ممثل التاج البريطاني في الخليج أن أرسل تحذيراً ,
لفيصل الدويش العظيم بالإنسحاب من حدود الكويت خلال ,
48 ساعة وإلا فإن قوات الطيران الملكية البريطانية المرابطة في الشعيبة (البصرة)
ستمطره هو ورجاله بالقنابل ،
فركبت سيارتي واتجهت إلى (ملح) حيث طلبت من فيصل الدويش ,
أن يقابلني (وكان أمير الكويت قد حذرني بشدة من الذهاب للقائه خشية أن يغدر بي)
وفي اللحظة الأخيرة تبعني شيخ الكويت مع أربعة من عبيده ،
حتى إن أصابني شر ، كما قال يصيبه ما يصيبني ،
وصل فيصل الدويش إلى المكان الذي تواعدنا فيه على اللقاء بمصاحبة كبار رجال
الإخوان وهم فئة من الرجال المتعصبين الأشداء الذين كان يسيطر عليهم سيطرة تامة
وبعد أن أطلعته على الإنذار الذي أحمله أضفت بأنني قد أقنعت قائد القوات الجوية
البريطانية أن يتوقف عن الضرب لمدة يومين ,
خوفاً على حياة النساء والأطفال الذين كانوا يرافقونهم ، ورجوت
فيصل الدويش أن يعطيني كلمة شرف بأن ينسحب عبر الحدود
خلال المدة المحددة حرصاً على سلامة النساء والأطفال ،
ظل فيصل الدويش متردداً ساعة كاملة ، محتجاً بأنه لا يوجد أي خلاف
بينه وبين الحكومة البريطانية وأنه هو وقومه كانوا من رعايا دولة الكويت السابقين وأنهم
يرغبون بتجديد ولائهم لأمير الكويت ،
وأنهم كانوا يعانون من نقص شديد في المؤن ، وبالرغم
من تأثري الشديد لم أتزحزح عن موقفي وتمكنت من إقناعه أخيراً أن يعدني بتنفيذ
طلبي ،
وعندما وعدني بذلك كان قرص الشمس الأحمر يغيب وراء تلال المناقيش البعيدة
ويضفي على
الأفق حلة من المهابة ، وعندها قال فيصل بأنه ينوي الصلاة ، وأذن هو نفسه للصلاة
وأم الصلاة
هو نفسه أيضاً ، وكلهم يصطفون وراءه على طريقة الإخوان ، وقد وضع كلم منهم
بندقيته أمامه
على الأرض بحيث تلمس فوهة البندقية وعقبها فوهة وعقب البندقية المجاورة وهكذا ،
وعند
إنتهاء الصلاة استدار فيصل وهو لا يزال على ركبتيه وقال : أعد بشرفي أن أفعل ما
طلبته مني ،
اذهب بسلام ، وكان يعني أنه سوف ينسحب خلال ثمان وأربعين ساعة ، وأكدت له أنا
بدوري
عندما نهض من الصلاة واقترب مني ، أن طائرة ستمر خلال الفترة المحدودة لإستطلاع
قواته ،
حافظ فيصل الدويش على وعده ، وكان وداعنا لحظة مشهودة ، فقد شعرت عندها أنني
كنت في
حضرة زعيم حقيقي للصحراء ، ولم أعد أرى فيصل الدويش ثانية إلى حين استسلامه
في
الجهراء بعد خمسة أشهر في الثامن من يناير 1930م ، عندما شققت طريقي من خلال
قنابل
القوات الجوية البريطانية التي كانت تنفجر من حول مخيمه ورجوته أن يستسلم خلال
ساعتين
للقوات الجوية الملكية البريطانية وأن لا يحاول اختراق طوق الحصار كما كان ينوي أن
يفعل
ويحاول التفاهم مع القوات السعودية التي كانت تربض في إنتظاره على الحدود الجنوبية
للكويت
وكان موقفه يائساً فقد كانت طائرات السلاح الجوي البريطاني والقوات البرية تطارده
لعبوره
حدود الكويت مخالفاً بذلك أوامر ممثل صاحب الجلالة ملك بريطانيا ، وكان أمله بالنجاة
ضئيلاً ،
أطاع فيصل نصيحتي (مع أن أحداً غيري وغيره لم يكن يعرف الدور الذي لعبته في
الموضوع )
وانطلق بعد وداع مؤثر إلى معسكر قائد السلاح الجوي الملكي البريطاني وقائد القوات
المرابطة
في العراق نائب مارشال سلاح الجو الملكي البريطاني (السير س.س. بيرنت) الذي كان
يدير
العمليات وسلمه سيفه ، وقبل نقل فيصل إلى البصرة بالطائرة كسجين (في آخر النهار)
عهد لي
بزوجته وأخواته الثلاث وطفليه الصغيرين وسبعة وعشرين من قريباته الإناث وهو
يوصيني بهم
قائلاً : أهلي في ذمتك يا أبا سعود ، فاضطلعت بمسئولية إحدى وثلاثين سيدة عربية
شريفة
وأطفالهن ونزل الجميع ضيوفاً علي في الكويت ما يزيد عن شهر كامل إلى أن أرسل
الملك
عبدالعزيز آل سعود الشاحنات والخدم لنقلهم إلى عاصمته ، وقد قدر لي الملك صنيعي
وأرسل
يشكرني بحرارة على ما فعلته أنا وزوجتي لهؤلاء السيدات الشريفات ، إذ أن ابن سعود
في هذه الأمور كان في غاية الشهامة والمروءة ,
وقد وجه لفيصل الدويش الكثير من النقد الجارح وأحيانا عبارات الذم المريرة وبخاصة من
الناس الذين قاسوا على يديه من سكان العراق ، وخوفاً من أن لا ينصفه المؤرخون من
بعدي ،
فإني أسجل هنا بأنني شخصياً لم أرى منه سوى كل ما جميل ، وكنت أحد اثنين من
الإنجليز (على
ما أعتقد) الذين قابلاه وكان لهما اتصال مباشر معه قبل استسلامه ، وكان لي شرف
التحدث معه حديثاً ودياً مرتين مما مكنني من تفهم شخصيته,
ومما لا شك فيه أن فيصل كان من كبار قادة الصحراء ، وكان قومه يحبونه إلى درجة
العبادة وكان
يحمل أفكاراً عظيمة لمستقبل الجزيرة العربية ،
وقد وقع الخلاف بينه وبين ملكه وسيده ابن سعود لأنه كان يحمل
أفكاراً جادة ولم يستطع أن يرى الأمور من وجهة النظر السياسية ، وكان
يلعب لعبة خطرة ومزدوجة بإقامة علاقات ودية مع الإنجليز الكفرة ،
ولم يستطع التوفيق بين سياسة ملكه وبين العقيدة الوهابية الصارمة كما
يفهمها ويدعو إليها الإخوان ، ومع أن فيصل الدويش في الفترة الأخيرة عارض ابن سعود
إلا أنني أعتقد جازماً بأن الملك سيظل لذكراه ويحترمه أكثر من إحترامه لأي شخص آخر
في مملكته إلى أن يموت ، وسيظل يتذكر الصبي الذي كان فيصل في أيام طفولته في
الكويت ، والمحارب العظيم والقائد الفذ الذي صار إليه فيما بعد ، وبالإضافة إلى الأنصار
الثلاثة والعشرين الكبار الذين ساعدوا ابن سعود في استعادة عاصمته الرياض ، فإن
فيصل الدويش كان في الحقيقة صديقه المخلص ومستشاره الأمين وقائده الفذ في
عشرات المهمات العسكرية التي مكنت ابن سعود من العودة إلى مملكته ,
والحق أن فيصل الدويش كان قائداً أعظم من أن ينسى,
وربما كانت أشهر غزوات فيصل الدويش تلك الغزوة التي وصل فيها إلى البحر الأحمر من
عاصمته الأرطاوية ، وقد قص علي تفاصيل هذه الغزوة ابن مسيلم شيخ الرشايدة في
الكويت في السابع والعشرين من يناير 1935م ، وكنا حينئذ نتحدث عن الغزوات طويلة
المدى وسألته إن كان قد قام بشيء مميز في هذا الميدان فأجاب بالنفي ، ولكنه أشار
إلى رجل في خيمته وأمره أن يخبرني بأمر غزوة فيصل الدويش العظيمة التي قام بها
منذ ثمان سنوات واستغرقت أربعة أشهر ، فإستجاب الرجل بسرور وأخبرنا كيف غادرت
جماعته الأرطاوية بقيادة فيصل الدويش على البحر الأحمر ، ثم إتجهت جماعة الغزاة
شمالاً وهاجمت تجمعاً لقبيلة بلى ، وهاجمت بعض مضارب بني عطية ، وعادت أخيراً
بمقدار عظيم من أسلاب الإبل عن طريق لينة عن طريق لينة الرخيمية وحفرالباطن
والصمان ، وقد إستغرقت الغزوة أربعة أشهر بالضبط من بدايتها إلى نهايتها ، قطعوا
خلالها مالا يقل عن ألف خمسمائة ميل ..
(ولكن هذا كان في أيام الإخوان العظيمة) أضاف الرجل وعيناه تلمعان بالفرح .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ
المصدر :
كتاب (عرب الصحراء) لديكسون ، ترجمة سعود الجمران ، الطبعة الأولى ،عام 1997م