فقيد جلاجل سليمان الواصل البدراتي الدوسري
ستقف العبارات عاجزة، ويعجم على اللسان أن ينطق متواصلاً، لا تعجب أخي فهاهي أسطري وأحرفي بين يديك عن فقيد جلاجل، بل لا أبالغ إذا قلت إن لفظ فقيد الجميع ينبغي ألا يطلق إلا على أمثاله.
سليمان بن عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عمر الواصل البدراني الدوسري من مواليد 1335هـ في جلاجل بسدير توفي والده وعمره سنتان، فتربى مع أمه وكفله عمه حمد بن عمر الواصل رحم الله تعالى الجميع.
رزقه الله تعالى بخمسة من الأبناء في أول حياته لم يكتب الله لهم حياة ثم عوضه الله بذرية مباركة بفضله تعالى خمسة من الذكور، وهم: محمد، وعبد الله، وعبد الرحمن، وحمد، وناصر، وثلاث بنات وفقهم الله وجمع شملهم.
عاش في بيئة مسلمة وعقيدة نقية تربى عليها، وربى ذريته على ذلك، قلبه معلق بالمساجد، والصلاة، والقرآن الكريم، إذا فقدته يوماً ما فستجده في المسجد بلا ريب، إذا سافر في رحلة ونزل منزلاً همه الأول والأخير الصلاة، مسجده جزء من فكره وتفكيره، لا يتركه أبداً ما دام مستطيعاً قريباً، النوافل في قلبه كالفرائض، يقرأ القرآن الكريم ولا غير القرآن، حتى في صلاة الضحى يصلي ويطيل ويقرأ من المصحف! هكذا هو نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً والناس في هذا الجانب بتوفيق الله تعالى يتفاوتون، فتجد أحدهم لا يُغلب في جانب النوافل من الصيام، وأحدهم في جانب النوافل من الصلاة، وآخر في باب الكرم والسخاء وهكذا..
منذ نشأ ومجلسه لا يخلو من أصحاب وأضياف، بساطة في المأكل والمشرب والمجلس، كريم على طول اليوم، كل وقت وحين، وعلى قلة ذات اليد إلا أنه من أكرم الرجال، وعلى كثرة الناس الذين يتوافدون يومياً على مزرعته ومجلسه إلا أنه لا يكلّ ولا يملّ، لا يبتغي الوافد إليه وساطة ولا منصباً ولا مالاً مع أنه لا يملك أياً منها!! بل هي المحبة لله وفي الله تعالى، لم نسمعه يوماً يذكر أحداً بسوء، بل ينهى أن يكون الناس فاكهة لمجلسه ومُجالسه، وأما حمل همّ المسلمين فلا يُغلب في أقرانه ومَن حوله، يسأل يومياً إذا علم وعرف مصاباً وقع على المسلمين أو أحد منهم، سواء من مرض، أو حرب، أو كارثة، أو ابتلاء وغيرها، ولا يكفي السؤال فحسب! بل يسعى جهده للزيارة والمتابعة.
ومما يتميز به واشتهر بذلك أنه رحمه الله تعالى كان رحيماً عطوفاً على الأطفال، ولا ينفر منهم، يأكل معهم في صحفة واحدة، بل وينهى عن إبعادهم إلا من باب التربية والتوجيه السليمين، لذا أحبه الصغير والكبير.
ولا يقتصر حب الناس ومودتهم له على مَن هم من بني جلدته، فالأجانب أياً كان عملهم ووظيفتهم يحبونه ويقدرونه.
وحدثني بعد وفاته أحد الأحبة الذين يعملون في قسم النظافة في البلدية أنه إذا أتى لجهة مزرعة أبي محمد ليقوم بعمله فإنه لا يتركه يذهب حتى يقوم بضيافته وإكرامه يومياً على هذه الحال!
وإن أنسى فلن أنسى ولن ينسى الجميع ذلك الراعي للأغنام (علي) الذين كان يعمل في رعي غنم أهل شمالية جلاجل لسنوات مديدة، كان لأبي محمد معه مواقف نبيلة مشرّفة يعرفها من سبرها.
وأيضاً مما عرف عنه معرفته للوقت وهو لا يحمل في يده ساعة، فلا يكاد يخطئ الساعة توقيتاً، وأحياناً كثيرة يعطيك الوقت بالتمام، كذلك معرفته للنجوم والطوالع فكان يرجع له من لا يعرف.
الحديث عن أبي محمد لا نبالغ فيه، ففي الأمة خير، لكن هي أحرف فرضها علي واقعه المنير، وحياته الساطعة في سماء جلاجل لسنوات عديدة، فكانت حياته كغيره مليئة بالأفراح والأحزان، فكان مثالاً للجيل الحاضر والماضي.
أُصيب رحمه الله تعالى في شهر جمادى الآخرة 1429هـ وهو في صحبة ابنه ناصر وفقه الله وهم في مكة المكرمة، بوعكة صحية شديدة، نُقل على أثرها لمستشفى أجياد بمكة ثم إلى مستشفى النور ليفاجأ الجميع بأنه مصاب في قلبه؛ ما استدعى إجراء عملية عاجلة وتركيب منظم، وقد أجرى له العملية الاستشاري د. عبد الله الجبور جزاه الله خيراً ونفع به عاد بعدها لجلاجل وحالته تتفاوت يوماً عن يوم حتى عادت له الحال بألم أشد مما كان؛ ليقوم أبناؤه جزاهم الله تعالى خيراً ببذل ما يستطيعون في علاجه متنقلين ما بين المجمعة والرياض، وعند إجراء الفحوصات اكتشف أن لديه تعطلاً في أحد صمامات القلب فأعطي العلاج اللازم فاستقرت حاله حتى وافاه أجله الساعة الثالثة ظهر يوم الثلاثاء 18 12 1429هـ، فانتشر خبر وفاته في كل مكان، وعمّ الحزن الجميع، مؤمنين بقضاء الله تعالى وقدره، وفي ضحى الغد كان الموعد في مغسلة الأموات في جلاجل لتجهيز الجثمان، فشاركني في ذلك أبناؤه وأحد الأحبة الكرام، فكنا نغسل جنازة مضيئة مشرقة، من رآه يظن أنه نائم، لا ترى في وجهه إلا البشاشة والسرور، تبدو على محياه ابتسامته المشرقة التي نراها في حياته، وهو بين أيدينا لم نحس بوحشة، ولا جفاء، فكان سهلاً في كل شيء، حتى انتهينا من غسله وتكفينه، ففتحنا المجال لأقاربه وأحبابه الذين كانوا ينتظرون هذه اللحظة! لحظة الوداع في هذه الدنيا، وداع المحب، وكل منهم يقبله ويذرف الدمع ويدعو ربه أن يجمعه به في الفردوس.
ثم نقل الجثمان إلى جامع الشعيبة في جلاجل للصلاة عليه بعد صلاة ظهر الأربعاء 19 12 1429هـ فتوافد الناس من كل حدب وصوب على اختلاف أجناسهم وجنسياتهم، تعلوهم السكينة والطمأنينة، والإيمان بما كتب الله تعالى على الجميع، وبعد صلاة الفريضة تقدم ابنه ناصر للصلاة عليه، فانهالت الدموع، وارتفعت الدعوات لرب الأرض والسماوات، بأن يتغمده الله بواسع رحمته ويسكنه الفردوس الأعلى، وأن يرزق الجميع الصبر والسكينة، ويخلف خيراً في الدارين.
وهكذا انتقل الناس إلى المقبرة حاملين فقيدهم على الأكتاف ليوارى في مقبرة جلاجل، ويتلقى الجميع فيه العزاء.
خواطر ورسائل:
> لأبي محمد رحمه الله تعالى (حكاية): أبا محمد ذهبتَ بجسدك، وبقي أثرك وذكرك، وذريتك من بعدك، أتدري مَن شاركنا الحزن على فقدك؟ مصحفك، محراب مسجدك، مزرعتك العامرة بنخيلها الشامخة، مجلسك العامر بالأصحاب، صحاري جلاجل وأوديتها وجبالها الشامخة التي طالما مشت عليها قدماك ورأتها عيناك.
> لأبنائه وذريته: أنتم نحسبكم والله حسيبكم امتداد لسيرة ومسيرة والدكم رحمه الله تعالى في كثير من السجايا، فأجمعوا أمركم، وسيروا على بركة ربكم، أنتم بإذن الله تعالى خير خلف لخير سلف، فبابٌ فتحه والدكم لا يُغلق، ونار كرم أشعلها والدكم لا تُطفأ، وعطاء بسخاء يبذله لا ينقطع، إنما هي ذكرى وإلا فواقعكم يشهد لكم ولله الحمد، وتذكروا قول الرسول المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، وتذكروا أمام مصاب فقده تلكم الجموع، وتلكم الدموع، وتلكم المحبة الصادقة من الناس طراً بفضل الله تعالى وكرمه.
> لمحبيه: الوفاء لأبي محمد رحمه الله تعالى يكمن في الدعاء له وللجميع، وفاء لا يُحد، وتواصل لا ينقطع، صلة مع أبنائه، وإعمار لمجلسه، فهو لم يذهب إلا بجسده، ولم يمت إلا بروحه.
وأخيراً: هذه كلمات مكلومات، وأحرف سبقتها عبرات، أبتغي بها وجه رب الأرض والسماوات، هي وفاء لمن يستحق الوفاء، ونبراس لمن ابتغى المكرمات.
ما كنتُ أحسب قبل دفنك في الثرى
أن الكواكب في التراب تمور
إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا أبا محمد لمحزونون.
عبدالله بن سليمان الوكيل
خطيب وإمام جامع الشعيبة في جلاجل
Jljly4@hotmail.com