رحلة استكشافية في وسط الجزيرة العربية(6-الإقامة في نجران ) - ::: مـنتدى قبيلـة الـدواسـر الـرسمي :::

العودة   ::: مـنتدى قبيلـة الـدواسـر الـرسمي ::: > :::. أقسام ( دغــش الــبـطــي) الأدبـيـة .::: > :: قسم القـــصص والروايـــات ::

إضافة رد
انشر الموضوع
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 04-05-2005, 09:48 PM   #1
 
إحصائية العضو








العماني غير متصل

العماني is on a distinguished road


افتراضي رحلة استكشافية في وسط الجزيرة العربية(6-الإقامة في نجران )


تقع نجران قي المنطقة المحاذية للحدود الشمالية الشرقية لليمن. وقد كنا نحن سابع أو ثامن أوربيين وصلوا إليها باستثناء الرومان طبعا الذين كانوا قد غزوا نجران تحت قيادة الجنرال أيلوس غالوس سنة 34 قبل الميلاد.
تعد نجران مركزا اقتصاديا واداريا لقبيلة يام، وفيها يسكن الحاكم الذي يعينه الملك. عرضها حوالي أربعين كيلومتر، وواحتها يسكنها حوالي 8000 نسمة من السكان الحضر، وهي تشكل حزاما طويلا من النخيل يمتد في الوسط على طول وادي نجران من الشرق إلى الغرب.
كان جاك يبحث هناك عبثا عن نقش كان قد أشار إلى وجوده على جنبات بئر الخضراء المستكشف الفرنسي Halevy الذي دخل نجران سنة 1870م. كان هالفي يهودياً يتكلم العبرية، وكان يبرر حضوره لهذه المنطقة بكونه أخا في الدين لعدد من اليهود الذين كانوا يعيشون في نجران في الماضي. وكان يلبس لباسهم ويشاركهم نمط العيش، وبذلك نجح في القيام برحلة استكشافية ممتازة جعلت منه رجلا شجاعا لأنه كان وحيدا معرضا حياته لأخطار متعددة. كان أول من أثار انتباه المستكشفين لوجود كثير من النقوش التي ترجع إلى فترة ما قبل الإسلام في هذه المناطق التي تقع في جنوب الجزيرة العربية، ومن بعده جاء فيلبي سنة 1936-1937م الذي يعد ثاني رحالة مستكشف أوربي يزور نجران.
لقد التحق بي بعض الأطفال حول البئر، كانوا هادئين وقد ألفوا بعد مهلة وجيزة الجلوس معي وخاصة بعدما أطلعتهم على بعض اللآلئ ودمية من البلاستيك وحصان من الرصاص. كانت فرحتهم كبيرة، وكانوا يستحوذون بشراسة على كل واحدة من هذه الأشياء ويذهبون بها لإطلاع من هم أكبر منهم سناً عليها وهم يضحكون.
كان رجالنا الأربعة عشر فرحين بفكرة إقامتنا في إحدى الواحات وأخذ قسط من الراحة بها. لقد أرهق حب استطلاعهم كثرة اصطيادنا للنقوش خلال الأسابيع الماضية، وأصبحوا لا يطلبون سوى تأمل إبريق الماء وهو يغلي على النار ولو لمدة يوم واحد. وفوق مرتفع من الجرانيت الواقع على علو نحو أربعين مترا كان يوجد أحد أبراج الحراسة الذي كنا نشاهد من فوقه أشجار النخيل البعيدة التى تقع في المزارع ذات لون يشبه لون الأسد. حيث تظهر بعض أطراف وادي نجران الذي يتابع رحلته البعيدة متوجها نحو الاندثار البطيء في رمال الربع الخالي.
وكما قال لنا مخلف، فإننا كنا نمر هنا بجانب أولى طلائع أشجار النخيل بعد اجتيازنا صفا من الجمال التي ربطت ببعضها بحبل يقبض الواحدة بذيل التي قبلها.
كان النساء والأطفال يخرجون بهدوء من حقول الذرة البيضاء التي يبلغ علوها حوالي مترين. وبين الفينة والأخرى كان أحد الحراس ينظر إلينا من داخل الحقل وهو واقف في خيمته المصنوعة من أعواد الذرة وسط المحصول.
كانت هناك بقرة صهباء اللون مشدودة بين حيوانين آخرين من فصيلتها وهي تسير فوق النباتات الصغيرة المكونة من القمح والأعشاب الأخرى. كما كان هناك جمل جسور يسير طول اليوم فوق طريق طوله 20 مترا ساحبا الماء من البئر مخرجا القرب الواحدة بعد الأخرى لتصب في قناة من الخشب لتتجه بعد ذلك إلى الحقول لتسقيها. وكانت الحقول محاطة بعدد من الأسوار القصيرة لحماية محصولها من الحيوانات التي قد ترعاها.
أما النساء فكن يقمن بسك الذهب المرصع فوق سجاد أخضر ويقمن بتسريح طبقاته الأربع أو الخمس إلى أن يبلغن طبقته العليا. أما السكان فلا يتنقلون إلا بعد سقوط الأمطار، لأن التناسل القوي للحشرات التي تتطاير خلف بعضها تنشر الحمى بقوة في هذه الواحات. توقفت القافلة في مدخل قصر الأمير، و كان الأمير غائبا فاستقبلنا ولده الذي يبلغ من العمر 15 سنة، وقد شرع مباشرة في تطبيق مبادئ الكرم العربي. وكانت الوجبة التي قدمت لنا ساخنة جدا لدرجة أن أصابعنا كانت تحترق. الكلمة الأخيرة كانت لجاك الذي كان يقارن نفسه بمدخن تاركا بين شفتيه عود سيجار مكسور.
وبعد الزوال واجهت القافلة أكبر كومة رملية لاقتها خلال هذه الرحلة في مجرى وادي نجران، عرضها كيلومتران. ولم تتمكن سيارة الجيب من الإفلات منها إلا بعد ساعتين، بينما قضت بها السيارات الأخرى يومين كاملين تحت مراقبة الخفر المسلحين.
وقد خيمنا بأقل ما يمكن من المتاع على ضفة الوادي قرب أطلال مدينة سبئية غريبة كان قد تخلى عنها أهلها، تسمى الأخدود. لقد التحق بنا مجموعة قليلة من الخدم المشمئزين والمذعورين وهم يحملون الحقائب على ظهر جمل. بينما تركنا بقية الخدم يخلدون للراحة في الواحة وحراسة المتاع المتخلف في الشاحنات. قضيت ليلة جميلة فوق الرمال داخل فراشي الذي يعرف بحقيبة النوم.
أما جبال اليمن التي تبعد عنا بعدة كيلومترات تمتد على قمة جبلية مهمة كانت تشرف على مخيمنا من جهة الجنوب. وقد نصبنا خيمتنا في منتصف الطريق الرابطة بين المستنقع الوحيد الذي شاهدناه في المملكة العربية السعودية وأطلال مدينة الأخدود.
وهذا الصباح سينتصر في داخلي الصياد على عالم الآثار حين أيقظني فجراً صوت بط كان قد وصل إلى ضفة المستنقع الذي يقع على مساحة تفوق الهكتار بقليل. وبذلك استمعت إلى أصوات جميع الطيور التي جاءت إلى المستنقع. كما كانت تتقاسم الضفة الأخرى للمستنقع بعض القطاقيط (الطير الذي يبشر بسقوط المطر) وإحدى دجاجات الماء التي كانت تتقاسم الأكل مع بعض فراخ الحجل وبعض طيور النورس.
قضينا (ريكمان وجاك وأنا) وقتا في أنقاض مدينة الأخدود يتراوح بين أربعة وخمسة أيام التي كانت مخصصة لهذا الغرض.
كانت هذه المدينة الميتة تسمى في الأصل نجران، لكن اسمها تغير في سنة 524 م عندما أحرق الملك السبئي اليهودي دهو نواس مئتي نفر من سكانها المحليين الذين كانوا مسيحيين، لقد أحرقهم أحياء ورمى بهم في أخدود وهي الكلمة التي جاء منها اسم المدينة كما تعرف اليوم.
وقد عبر الملك الحبشي الذي كان قبطيا (أي مسيحيا) البحر الأحمر شانا حملة انتقامية لإخوته في الدين الذين قتلوا. وفي سنة 525 م انهزم دهو نواس وغرق هو وحصانه في البحر حسب ما تردده الأسطورة.
وقد خلفه في منصبه هناك حاكم مسيحي عينه ملك إثيوبيا. ولئن كان هذا الحاكم قد ظل مخلصا لملكه الذي عينه، فإن الذي جاء بعده كان قد أعلن نفسه ملكا على حضرموت... إلخ. كان هذا الحاكم العاصي هو أبرهة الذي تعرفنا عليه من خلال قراءتنا لأحد النقوش التاريخية المهمة التي عثرنا عليها في بئر مريغان.
تقع أطلال الأخدود على مساحة 9 هكتارات أو أكثر من 50 هكتارا حسب ما إذا كنا نرغب في إطلاق هذا الاسم على ما هو داخل الأسوار حيث يصل طول الأسوار إلى 300 متر، أو نمدده إلى ما هو خارجها حيث ما زالت توجد هناك بعض آثار المساكن.
تحتل المنطقة المسورة تسعة هكتارات، وهي عبارة عن وحدة سكنية كانت لها حياتها الخاصة وحضارتها الخاصة كذلك في مرحلة زمنية محددة. ولا يجب أن ننسى أن مساحة مدينة القدس في عهد الملك داود لم تكن تتجاوز ما بين 4 إلى 5 هكتارات.
وسيكون من السابق لأوانه الحديث عن هذه المدينة المسيجة التي تمتد شرقا على مساحة شاسعة. فهل كانت كل هذا المساحة الواقعة خارج الأسوار مسكونة في الوقت نفسه أم أنها كانت عبارة عن مناطق مجاورة؟ إن الجواب على هذا السؤال وعلى أصل المدينة يجب أن تقدمه لنا بعثة استكشافية تنحصر مهمتها في استكشاف مدينة الأخدود.
يقع الأخدود على الضفة الجنوبية لوادي نجران في منتصف الطريق بين مجرى الوادي الرملي وبداية مرتفعات صخور الجبال الممتدة نحو اليمن القريبة من هذه المنطقة. لقد درس هذه الأطلال من قبلنا أوربيان: جوزيف هاليفي بشكل سري وسطحي سنة 1870م ثم جاء من بعده فيلبي الذي وضع مخططها بكل حرية سنة 1936- 1937م وهانحن أولاء نكمل المعطيات المجموعة عنها في حدود إمكاناتنا. وإلى اليوم لم تقم أية بعثة بحفريات في مدينة الأخدود. وعند مغادرتنا المخيم مررنا بحقول من الحطام عبر بئر وضريح عبد الله بن ثامر حيث ترقد بقايا رفاته في ظلال بعض أشجار السدر العالية.
يترك المرور بأطلال الحضارات المنقرضة قبل قرون انطباعا غريبا. فالأحجار المترسبة عبر القرون تعطي الانطباع أنها ترغب في إخراج أسرارها، أو أنها مستعدة لتدنيس المقدسات بشراسة. كنا نسير فوق المجهول من القبور والكنوز الأثرية والأحجار الطبيعية وقطع الخزف التي كانت تتحطم أو تتكسر تحت وطء الأقدام. والعيون تتفحص كل حجرة وكل ردم إلى حد التخمة من أجل العثور على نقش أو نحت قد يظهر بغتة أبيض ودقيقا من بين النتوء البارز. وفجأة تحطم أمامنا لوح من الجرانيت مثيرا أحجارا وزوبعة من الغبار، فسقطت، وأول ما تبادر لي هو أن أعود فورا لأرى ما إذا كانت هذه السقطة قد كشفت عن نقش. وهكذا يستمر الحلم، فالأمل ينبع من خيبة الأمل.
وهاهي ذي الأسوار القوية المحيطة بالمدينة في تتابع دقيق على شكل أسنان ذات زوايا مستقيمة. وألواح الجرانيت المقولبة تتراكم في صفوف. وعلو الحطام يتجاوز غالبا ثلاثة أمتار. أما حجم الألواح فقلما يتجاوز نصف متر مكعب، ومع ذلك فقد رأينا واحدا منها يتجاوز عرضه ثلاثة أمتار وعمقه متر واحد وطوله أربعون سنتيمتر. إننا نتألم للعبيد الذين وضعوه في مكانه. وهانحن أولاء اليوم نعوضهم في ذلك، بإنجاز دراسة مسحية للأسوار الخارجية التي لا يزال أغلبها على حاله، الديكاميتر على الأرض والبيكار في اليد. وكان أنف جاك ينزف دما بسبب الإرهاق وحرارة الشمس، أما أنا فكنت ألتصق بقليل من الماء المتبقي في قربتي. وعلى طول الحائمة الجنوبي كان عدد من الشذور تلمع تحت الشمس، هل هي شذور الذهب أم قطع من حجر الميكا؟ فما زلت أحتفظ بقارورتين من هذا النوع منذ ثلاث سنوات، ولم أقم باختبارها إلى الآن، فمن جهة، إن الأمر بالنسبة إلي سواء، ومن جهة أخرى أخاف من أن أصدم بكونها من حجر ميكا. هناك ذهب في البلد وقد أطلعني فيلبي على عينة من الجرانيت تحتوي على ذهب على شكل عروق غليظة.
إن القسم الأكبر من المدينة المسيجة هو عبارة عن نتوءات من الألواح الحجرية والترابية. بينما يتضمن القسم الشمالي الأسوار الأكثر إثارة ومن ضمنها العمارات التي أطلقنا عليها مقابر الثعابين، إلخ. كان سكان المنطقة يقومون أحيانا بنبش هذا الحطام سواء من أجل العثور على الكنوز التي يعتقدون أنها مخبأة هناك، أو من أجل صناعة الفحم الخشبي الذي تظهر بعض آثاره على الأرض مما يدل على أن المدينة كانت قد أحرقت أكثر من مرة.
لم يكن في نيتنا ولا في نطاق اهتمام رحلتنا أن ننبش حطام الأخدود. وعلى الرغم من أن نتوءات الأسوار كانت لا تتجاوز ثلاثة إلى أربعة أمتار؟ فإن هذا لا يدل على أن بيوتها كانت قليلة الارتفاع. فأولا ما هو العمق الذي تصل إليه هذه الأسوار في الرمال؟ وثانيا، بالنظر إلى أسوار المزارع التي توجد اليوم في واحات النخيل يمكننا أن نتخيل بأن هذه المنازل التي تقع في طبقات والمبنية باللبن الطيني كانت قد بنيت على ألمس من الجرانيت الذي ما زال على حاله إلى اليوم. وبما أنه لم يعد هناك أثر للأبواب ولا للنوافذ فإنه يمكننا أيضا أن نتصور أن دخول هذه البيوت كان يتم من الأدوار العليا التي نصل إليها بواسطة سلم من الأدراج المصنوعة من الطين، والذي كان مقاما خارج العمارة. إننا نمدح الاحتياطات التي كان يأخذها السكان من هذه السلالم في بلد يعد فيه الأمن ترفا عابرا.
لم نعثر في كل هذا الحطام إلا على حوالي عشرين نقشا منحوتة على ألواح زرق من الجرانيت. كانت الكتابة السبئية جميلة مرسومة بعناية وفن، وسياقها لا يتجاوز كلمتين. والشيء نفسه على المرمر وعلى الفخار أو على الحجر الذي اكتشفناه. أما الرسوم على الجدران فنادرة. كان يوجد من بينها ثعبان يحتضن نفسه، وفاتورة جميلة، ثم يد ورجل، تتردد بين الطبيعية والمتوسطة، وفي الأخير حصان أفذع القدم.
هنا، وهنا فقط، أجزم بأن ريكمان كان يحلم بأخدود غني بالنقوش والرسوم. لقد تجاوز ما تبقى من السفر آمالنا المتفائلة. سنعود إلى هذا كثيرا وفوق ظهورنا حقائب أدواتنا ونحن نعبر هذا الركام خلال الساعات القليلة التي كنا نرتاح فيها. لقد رسمنا خطتنا على أننا سنأخذ عددا من الصور لكنني لا أعرف أي نوع من الجنون يسكن الأخدود، فالسماء لا تكون صافية فوقها أبدا. صحيح أن الأيام التي تكون فيها السماء صافية قليلة، ومع ذلك فإننا كنا ننجز برنامجا قويا في الضواحي. ما زلت أتذكر ذات مساء كنت فيه وحدي عندما كان بلبل يغني فوق الأنقاض بينما كان قرص الشمس الصفراء يثقب زوابع الرمال قبل أن يغيب خلف جبال عسير.
عندما كان أحد السبئيين يغادر القبر المبني بالألواح الحجرية المربعة، ويدخل من أحد الأبواب الموجودة على السياج الشرقي كان يدخل مباشرة إلى الأحياء التي كانت خارج الأسوار. وهنا تتغير المواد، حيث لم تعد هناك الألواح الكبيرة من الجرانيت الأزرق المبري. إذ لم تكن توجد هناك إلا أذناب حيطان من الطين المجفف على شكل اللبن المحروق، تتوزع في جميع الجهات على شكل زهور الربيع الصغيرة في مرج سيئ. والأرض ممتلئة بأطراف الخزف التي يسمع لها صوت تحت الأقدام. أحيانا تشاهد قطعة من كأس زجاجية تلمع تحت الشمس، وعندما تتخذ بقعة من قطع المرمر مكانها خارج الحطام فإنها تشكل تحذيرا واختبارا متأنيا لأجود الأدوات التي نملكها على النقوش والمنحوتات. لقد كلفنا هذا المرمر عددا من القطر المنحوتة من بينها واحد يمثل رجلا وامرأة يمسكان بيديهما أوراق الفواكه وعناقيد العنب مذكرة إيانا بالدوافع التي كانت وراء بناء بيعة اليهود قي كفر ناعوم. فأين كانت دوافع الأخدود؟ تكشف الكثير من أكوام الحصى عن عدد من قبور البدو الذين ماتوا كما ولدوا، في العراء أو بعيدا عن قلاع الخيمة.
والا فلمن هذه العظام المتناثرة فوق الأرض أو التي تظهر بمجرد تحريكنا لوجه الأرض؟.
لقد كان في مخطط برنامج الرحلة أن نبقى أسبوعين في نجران، ولذلك كنا نحاول وضع مخطط مفصل للأخدود كما تظهر على السطح. أما بقية الوقت فسيخصص للبحث عن النقوش في الجبال المجاورة والزيارات البروتوكولية التي تفرضها التقاليد العربية على كل زائر للمنطقة كما تخصص لاستكشاف بعض النقط في الربع الخالي.
كانت تفصلنا عن اليمن ابتداء من خيمتنا قي اتجاه الجنوب حوالي عشرة كيلومترات في السماء (كما يطير الطائر). فيلبي يعرف جيدا هذه المنطقة لأنه كان من بين الذين رسموا الحدود بين البلدين. وكان قد جمع منها عدة نقوش حميرية. وفي 22 ديسمبر ذهبنا إلى هذه الجبال المتوحشة.
يندفع وادي نهوقة الذي يشبه حرف v في زاوية من قمم الجرانيت التي تقطعها من فوق طبقة من الأحجار الرسوبية. فعن طريق هذه الشعاب الممتلئة بالأشجار المشوكة سندخل بسيارتنا إلى أن نصل سفوح الجبال. بدأنا في التسلق متتبعين دائما إحدى خطوط القمة الكثيرة الحفر والفاصلة بين واجهتين. الطريق وعر وقريبا سيتخلف ريكمان كثيرا عن فيلبي وجاك وأنا. أما المرشد الذي بقي مع ريكمان فهو رجل عجوز ذو لحية بيضاء كالثلج وشعره متآكل في وجهه وفي جسمه، وهذا المظهر يعطيه طابع العربي الأبيض. وقد فسر فيلبي هذا المرض بإصابة خفيفة بالجرب، وقد تبين لي أنه تشخيص جريء. كل هذا والرجل صامت، وهو يعرف فيلبي الذي كان قد تعرف عليه قبل عشر سنوات. ولا يجب أن نمعن في التبجح بكفاءته. كنا قد تركنا ريكمان عائدا للعمل في المخيم بهدوء ودقة. وفي منتصف الضفة عثرنا على عينات جديدة من الجرانيت وعليها أثر الذهب. وعندما وصلنا إلى ثلاثة أرباع السفح بدأت الرؤية تتضح أمامنا مظهرة لنا أقصى الجهة الغربية لواحات نجران. وفي منتصف الوادي يوجد أقدم أثر تركي معلقا على عمود يعرف بالروم الذي يشهد على الحضور القريب للعثمانيين في هذه المنطقة. وكان مجرى الوادي الواسع الذي يلتوي كثعبان نائم يلتف حول أشجار النخيل والقرى والمزارع في لون أمغر شيق.
وفي نهاية السفح يوجد جرف على عمق عشرين مترا يفصلنا عن القمة، وهو مؤلف من الأحجار الرسوبية التي تنزل إلى حد الجرانيت ولا تفصلها في الجهة الأخرى إلا طبقة رقيقة من الطين الجيري. دخلنا القمة عن طريق مجرى إحدى الخنادق فأصبحنا على علو أربعمئة متر فوق الشعاب الواقع فوق هضبة مغطاة بالأحجار السوداء.
وبعد نصف كيلو متر بعيدا من هناك نزلنا من جديد عبر شعفة من الصخور الرسوبية فوق جبل عراير الذي تمتلئ قمته بالنقوش الحميرية والعربية الكوفية، المتجاورة أو المتراكمة. كان جاك ينسخ منها الكثير ويصور القليل، بينما كنت أقوم بالعكس، لأنه كان يفهم ما ينسخ... لكنني كنت أهتم بالنقوش الحميرية. فهو ينتقي النقوش الأكثر صعوبة والأكثر تآكلا. وغالبا ما كان يغضبني عدم التمكن من التراجع فوق الحافات لأتمكن من التقاط صور للوحات التي يكون نصفها في الشمس والنصف الآخر في الظل.
ومن الجهة الشمالية لجبل عراير كان يظهر لنا القسم الأكبر من وادي نجران، حيث كنا نرى أشجار النخيل المشتتة تنتشر بهدوء حول ضفتي مجرى النهر الواسع ذي الرمال البيضاء. كانت الأشجار ترسم علامة تعجب فوق الخضرة، ووجود المزارع يدل على رغبة الاستقرار لدى البدو الرحل عندما يعثرون على الماء الكافي.
كانت الغابة تولي ظهرها نحو السهل بأرداف تنازلية. وفي أسفل آخر النتوءات الصخرية تبدأ أرض يابسة وبها عدد من الأدغال ذات الشوك. هنا توجد واحة وهي عبارة عن شريط صغير مأهول في ساحة شاسعة وقاحلة. لكنها جميلة بثروتها التي تعد بها، وبالماء الذي يوجد تحتها، يتكلم عنها البدوي باشتياق وحنين وهو يقضي ليلته منحنيا حول النار الموقدة، ومع ذلك عندما يصل إليها يعود بإرادته إلى عزلته الرعوية.
لقد استرخى مرشدنا أسفل شعفة في رأس الجبل حيث كنا، فنزلت منه بقعة بيضاء فوق الحصى الأسود. قال إنه مريض وقد دفعني ما سمعته من فيلبي بأنه مريض بالجذام إلى عدم الاشتراك معه في شرب الشاي من الكأس الوحيدة التي كنا نملكها. وبدون مرشد ذهبنا نحو كيلو مترين لمعاينة شعفة ثانية في رأس جبل كروة التي وصلنا إليها عبر ممر مكون من الصخور الرسوبية الصفراء والحمراء. أما الفراغ الذي كنا نمر فيه والذي يتسع من ثلاثين إلى ستين مترا فكان مغلقا من إحدى جهاته بصخرة، كما كانت توجد بإحدى واجهاته نحوت لبعض النقوش من بينها ثور يخور بعنف. واستجابة لنزوة بداخلي تسلقت مئة وخمسين مترا في جبل كروة، قبل أن ألتحق برفقائي الذين كانوا ينسخون مجموعة من النقوش التي تحيط بالوجوه الأربعة لصخرة مهشمة يصل حجمها إلى نحو ثلاثين مترا مكعبا.
اضطرتنا الساعة للرجوع وبينما نحن نسير خلف المرشد فإذا بنا نصل إلى زاوية ضيقة تشرف على مخيمنا ولا تسمح لنا إلا برؤية طنب خيمتنا، في جميع الجهات لم يكن هناك سوى الفراغ أو المنحدرات الخفيفة الصخرية التي كان من العبث أن نحاول النزول من خلالها. ليس هناك طريق "ما فيه طريق " كما قال لنا المرشد. كنا نرى هذه الحقيقة، ولم يكن أمامنا من خيار سوى الرجوع، وكانت الشمس قد غابت من الأفق والليل دامسا عندما وصلنا إلى الجرف الذي كنا قد اجتزناه هذا الصباح بصعوبة. حاولنا أنا وجاك النزول بصحبة المرشد الذي كان يتمتم بدون توقف: الله الله. واعتقاده أقل زعزعة من خطواته، وبعد أن سقط مرتين بصوت مكتوم مصحوبتين بترتيل القرآن قررنا التراجع والتحقنا بفيلبي في القمة. تأكدنا من أن عنده أعواد الكبريت دعوناه للالتحاق بنا ثم تركناه وشأنه بدون ماء لأنه لم يكن عندنا منه إلا القليل.
كان فيلبي قد عثر على شاطئ صغير به رمال ناعمة في مجرى السيول، فاستقر بها مرتاحا يدخن غليونه. وقضينا الليل تحت النجوم. نائمين بمعزل عن الرياح الشمالية العاتية، مع محاولتنا التستر بالرمال على أمل أن ندفئ أجسادنا. ولم نكن نلبس إلا بذلة واحدة ملتصقة بالجلد مباشرة، وهذا شيء قليل بالنسبة لسبع درجات مئوية، كان فيلبي يحمل معطفا إضافيا وكنت ألبس قميصا من الصوف مفتوح العنق بينما لم يكن عند جاك أي شيء. كنا ندلف بمذكراتنا تحت الإبط فوق القفص الصدري ونتوقف عن النوم في برودة الرمال، وبعد ساعتين من الحوار الذي لم تفدنا فيه الحرارة الأخوية قررنا إيقاد النار. ليس لأننا كنا في حاجة إلى كل هذا الوقت لطمس بيضة الحمام، بل لأننا لم نكن قد اتخذنا قرارا بذلك، وخاصة أن القمر لم يكن قد أضاء بعد، كنا نعتمد على الوهم في البحث عن أعواد الأشجار اليابسة، وطبعا فإن هذه الأعواد ذات الشوك، كنا نفعل الشيء نفسه كل ثلاث ساعات. وقد صدق العرب حينما يقولون: "دخان يعمي خير من برد يمرض " وأضيف إلى ما قالوه أنه فوق جبل نهوقة لا توجد نيران بدون أشواك. ولم نكن نملك لا سجائر ولا ماء، ومن حسن الحظ أنني كنت أحتفظ ببعض حبات الزبيب التي كانت تدور في عمق الجيب. وبينما أنا بصدد تكسير أعواد الأشجار فإذ ا بأنثى ضبع تنبح في متوسط إحدى المنحدرات. وعندما كنت أتقدم في الظلمة كان يجب علي الحذر من الجرف القريب، لأن عمقه يصل إلى ثلاثين مترا وحافته حادة. عدا التعرض للعقارب. وقد سهلت مهمتنا عندما ظهر القمر.
تمثل هذه الإقامة ذكرى جميلة عن الإحدى عشرة ساعة التي قضيناها. وسيكون هذا أحد الأحداث الكبيرة التي ميزت رحلتنا. وفي هذا المجال يكون النجاح شيئا، والمغامرة شيئا آخر، مع أن هذا هو ما يمكن أن يعتقده هواة الإثارات. إن الاستغلال الحقيقي هو تحقيق الهدف الذي جئنا من أجله.
وفي الفجر التحقنا بالوادي خلال ساعتين لننام في الشمس بعد أن رفضت إحدى الراعيات وأخوها إعطاءنا الحليب لكوننا غير معروفين لديهم ونازلين من أعلى الجبل. كان المرشد قد أخبر كذبا الموجودين في المخيم قائلا لهم بأننا نسكن في خيمة بعد أن سهرنا مع البدو في الغابة. ولإنقاذ ماء الوجه غادرنا إلى غير رجعة.
وبمجرد دخولنا المخيم تناولنا كوبا من الشاي والماء والحليب. كما اغتسلنا جيدا في سطل، وتمددنا مدة ساعة في السرير، ومباشرة بعد تناولي وجبة أكل التحقت بريكمان في أطلال الأخدود.
وفي المساء كانت السماء ملبدة بالغيوم فهبت رياح عنيفة هزت الخيمة بعنف. وكان المطر يهددنا ومعه ترتفع حمى الواحات التي يمكن أن تفرض علينا تغيير مخيمنا. أصبحت قمم الجبال غارقة قي السحب ومن حسن الحظ أن الجو لم يكن البارحة كما هو اليوم! وقبل نومي قدمت لي "الحلويات ": جاءني بعض المرضى للعلاج كان أحدهما يشكو من انتفاخ في سنه وبعضهم مريض بالبواسير...
أرسلنا أحد المرافقين إلى قصر الحاكم ليبعث ببرقية بالراديو المحلي. هذه البرقية ستمر من الرياض إلى جدة نحو أوربا ومحتواها"عيد سعيد" كان هذا كل ما في مراسلتنا في نهاية العام، وهي الأخبار الوحيدة التي تصلهم عنا خلال أسابيع متعددة.
كان فيلبي يتحدث بموضوعية كبيرة عن المملكة العربية السعودية، وقد كان معجبا بصفة خاصة بعمل ابن سعود، فهو مثله الذي يغذي فيه بعض الحنين إلى الماضي وإدراك للمستقبل الذي سيغير تقاليد وأعراف آلاف السنين.
وعلى سبيل الحكاية يقال: إن أحد الإنجليز وهو الميجور فرانك هولمز هو الذي كان له حق استغلال مناجم البترول في المملكة العربية السعودية خلال سنوات مقابل 2000 جنيه سنويا. لكنه بعدما بحث في إقليم الأحساء لم يعثر على شيء، وبعد ذلك أهمل هذا الإنجليزي دفع مستحقاته مكتفيا بما كان قد اكتشفه في جزر البحرين. وقد جاء بعده الأمريكان الذين أصبحوا يستخرجون منه حوالي 40 مليون طن في السنة، وذلك في الأحساء وحدها.
يملك كل عامل أمريكي ما يعادل قوة خمسة أحصنة ليل نهار، وهذا فقط للكهرباء، وهم يتمتعون بخدمة دائمة تعادل خمسين رجلا. وإذا كان الحصان الأول يحتاج إلى أن يعثر عليه في الواحات فإن لتر الكحول مازال مجهولا بها. وقد كان طموح السعوديين يتمثل في الحصول على محطات توليد الكهرباء دون المصافي.
يتطلب بناء محطة توليد الكهرباء بناء السدود. وفي هذا الصدد يمكن القول: إن السبئيين والأجداد الآخرين للبدو المعاصرين كانوا روادا في بناء السدود. وقد سبق لنا أن درسنا بقايا أطلال السدود في ضواحي الطائف. واليوم سنذهب في الجيب إلى أقصى الجهة الغربية للواحة حيث توجد أسوار سد (جلد) وهو المجمع الذي كان يحجز مياه السيول المتفرقة. وخلال عشرين كيلومتر كنا نعبر مجرى وادي نجران مع الرمال. وبين أربع أو خمس من العرصات المتجمعة بين النخيل الكبير كانت توجد نباتات كثيفة من الطماريس بالإضافة إلى النعناع والقصب وصغار النخيل. يحدث أحيانا أن نسير كما تسير الفيلة فاتحين ممرات في النباتات، كانت الأعشاب تنثني تحت السيارة محتكة بعنف مع أسفل إطار السيارة. أما بساتين النخيل التي تسمى الموفجة فكانت تقع على مصب وادي نجران.
وصلنا إلى نقطة للشرطة وهو ما يعني بالنسبة إلينا زيارة بروتوكولية ستكلف مضيفنا ذبح خروف على شرفنا. ولذلك كنا نسمع طول الوقت حشرجة خلف المسكن الصغير الذي كنا نقعد فيه، وتدليلا على آخر تشنج للخروف بدأنا في مجاملات دبلوماسية تهدف إلى إقناع أفراد الشرطة بأن يتناولوه بدوننا، وهي إشارة إلى أننا سندفع ثمنه بسخاء. وقد سمح لنا هذا النجاح بزيارة أثر مقاولات الطاقة المائية السبئية المحلية. إنها ليست كبيرة، فهي عبارة عن خليج صغير على مساحة عشرة هكتارات يصب في شعاب عن طريق ممرين تفصل بينهما هضبة صخرية صغيرة. كان الممر الشرقي مغلقا بأحد الحواجز التي اندثرت، أما العنق الغربي فيسهل تأويله، وهو أيضا من المحتمل أن يكون محجوزا حيث كنا نرى في كل جهة ممرا مائيا محفورا في الصخور. يتراوح عمق هاتين القناتين بين ثلاثة أقدام إلى ستة أمتار بالإضافة إلى جدرانهما الملساء التي ما زالت عليها آثار الإسمنت. فعن طريق هذه القنوات كانت تنهمر خزانات المياه لتلبي الاحتياجات الفلاحية.
وعودا من الطريق نفسه وجدنا المخيم مبللا بالرذاذ الذي لا تزال آثاره باقية. كانت الخيمة مبللة، وكذلك السجاد الذي كانت فوقه وجببنا وعباءاتنا منقطة بصوف مائي كما يحدث في أمسيات شهر نوفمبر. بينما كان الأرز والخروف ينضج فوق النار، ولم ننتظر طويلا لنسمع قطرات الماء تتساقط فوق زجاجة الفانوس.
في هذه الأثناء جاءني بدوي للاستشفاء، وكنت أخشى أن يكون مصابا بالزائدة الدودية. فلو أن حاله كانت كذلك فإن هذه ستكون بالنسبة له كما بالنسبة لنا حالة مميتة، إذن يجب العودة إلى تقاليد أجدادنا، لكن الأمر لم يكن كذلك، وهكذا فإن هذا الخطأ في التشخيص سيضاف إلى تاريخي الطبي الذي سأكون أول من يفتخر به. وفي الليل كنا نسمع صوت الكناري فوق المستنقع. وفي الفجر كانت بعض طيور السنونو تحوم حول الخيمة. كما كانت سبعة أو ثمانية طيور منها ترفرف في السماء مسقطة منها شيئا ثم تسبح معترضة إياه ثم تعيد الكرة بالطريقة نفسها. وكان ذلك الشيء عبارة عن كرة من الورق كنا نستخدمها في تغليف الأفلام. كانت تفلت من مخالبها ويظهر أنها كانت تثير اهتمامها بشكل مدهش. لكن مزمار السيارة وضع حدا لدراستي لرياضة الطيور.
توجهنا إلى الحدود اليمنية عن طريق مجرى وادي نهوقة حيث كانت خيام بعض البدويات مختفية خلف منحدرات وخلجان تقع على مجموعة من الجزيرات الصخرية. وفي المساء كنا نرى اشتعال النيران فوق الجرانيت، وفي النهار كان هناك طفلان أو ثلاثة بشعرهم الأسود وامرأة محتجبة وكلب شرس ورجل، فقد خرجوا دون أن نعرف من أين، مكونين بذلك مشهدا كلاسيكيا. وفي هذه الخلايا المتنقلة كنا نقتفي أثر الجمال ونحن نترنح بين الحصى والأشواك، إن وجود هذا الأثر دليل على ممارسة التهريب، كما أنها دليل على وجود أحد المنافذ الأربعة نحو اليمن. فمن هنا تمر القهوة، والعنب المجفف، والفحم الخشبي، لكن دون أن تفلت من دفع رسوم في مركز الجمارك الذي يتألف من خيمتين كبيرتين داخل الأشجار الشوكية اليابسة. أما الغابات التي يصل علوها ما بين 150 إلى 500 متر فتضيق لتنتهي بشكل دائرة فرضت علينا تسلق الجهة الجنوبية التي يطلق عليها جبل معيضد. وكان يوجد هناك مضيق محفور إلى حدود الجرانيت. وعبر مجرى أحد السيول أولاً ثم عبر بعض المنعرجات القصيرة ثانيا نزلنا خلال ساعة وخمس وأربعين دقيقة، وكنا نلتقط النقوش في طريقنا. وفي الاتجاه المعاكس كان يسير بعض رعاة الجمال وهم يغنون ويصيحون خلف بهائمهم المحملة، وهي تشخر أمام الأدراج أو في المنعرجات الوعرة. إن أظلاف جمل الصحراء منتشرة كثيرا، ولذلك فهي لا تتلاءم مع السير في الجبال والغابات.
وفي نهاية النزول رمينا النظر بنوع من التنزه في اتجاه الشرق فوق السطح القاري، حيث كان المرشد المجذوم قد كلفنا ليلة جميلة تحت النجوم. وبذلك بلغنا القمة، حيث كان ريكمان يسير بخطى حثيثة وعيونه ملتصقة بالنقوش بينما كان فيلبي الرابط الجأش، الذي لا يتعب يتأمل الفترة السابقة التي قطع فيها هذه الحدود التي تقع على طول حوالي ثلاثمئة كيلومتر. هاهو ذا اليمن أمامنا لكن بعثتنا ممنوعة من دخوله، إنه يقع فوق السطح الجاف والكثير الصخور الذي نعبره. مشهد مناسب إلى حد ما للطموحات الترابية التي تمثلها هذه المساحات الحجرية الشاسعة والمتموجة والمقسمة إلى مضايق عميقة ومتعرجة والتي تنفتح في المرتفع على شكل ممر من الجرانيت.
إن وجود عدد من بقايا القبور دليل على تردد الناس على هذه المنطقة في الأزمنة الغابرة، كما يشهد على ذلك وجود عدد من الطرق والمداخل التي تربط بين هذه المناطق. كانت هذه القبور ذات الشكل الدائري والتي يتراوح قطرها بين أربعة أمتار ومتر وثمانين سنتيمتر مبنية من الحجر المتراكم فوق بعضه. بعض هذه الأحجار يشتمل على نقوش ذات طابع حميري ولا تحمل تاريخا، مما يدل على أنها ظلت تحترق بأشعة الشمس منذ بداية التاريخ الميلادي على الأقل.
وقريبا سنصل إلى خط الحدود حيث كان فيلبي يبحث عبثا عن علامة الحدود التي كان قد أسهم في وضعها في هذا المكان. لقد طمس البدو أو الرعاة هذه العلامة التافهة في نظرهم التي يطلق عليها علامة الحدود. ومن وراء هذه الحدود كانت تظهر لنا منطقة صعدة الغربية التي كان هاليفي هو المستكشف الوحيد الذي مر منها حوالي سنة 1870 م. وقد اندفعت فيها بحوالي كيلو متر واحد حتى أتمكن من القول فيما بعد بأني كنت في اليمن.
جاءنا أحد أفراد الشرطة من قبيلة عتيبة حاملا إلينا الأكل. ومنذ السنوات الأربع التي قضاها هذا الرجل في منصبه هذا وهو يقوم بمهمته في سفح جبل، وهذه أول مرة يصل فيها إلى هذا المرتفع وإلى الحدود. إن الوصول إلى هذه النقطة ممنوع رسميا، لكن يظهر أن عدم مبالاته بهذه النقطة هي السبب الرئيس لعدم وصوله إلى هناك، علما بأن سمحي بن هادي (الحارس) لا يزال شابا وذكيا وحيويا، وهو عندما يضحك يبين عن أسنان ناصعة البياض في وجه ذي لون الشكولاتة العميقة. وقسماته تدل على ثقته في نفسه وقي الوقت نفسه تدل على عدم فهمه لكل ما ليس حيويا وضروريا للعيش في الصحراء. لقد قال جارمنيس في كتابه صحارى الأشجار في حق البدوي: "لم أصادف في حياتي شعبا مثلهم يعيش كلية في الحاضر دون أن يشغل نفسه بالمستقبل، والزمن لا يمثل بالنسبة إليهم أحد الأبعاد، إنه بالأحرى حالة روحية".
وعند نزولنا كانت في انتظارنا وجبة تحت خيمتي البدو الجمركيتين السوداء والطويلة. ومن علامات الثقة التي كانت لنا معها حساسية حضور النساء غير المسموح به. كانت الجهة الجنوبية للخيمة مفتوحة وكنا نقعد على سجادتين وننحني على سرجي جملين ممتلئين بأصواف الغنم. وفي الزاوية كانت هناك نسوة عجائز يلبسن اللون الأسود وهن يختلسن النظر إلينا من خلال خمار يغطي نصف الوجه. كانت هناك امرأتان تتحركان بحرية، إحداهن كانت ترضع بثديها طفلا في اليوم العاشر من عمره وهي ترجحه في مهده الذي يتخذ شكل صندوق مستطيل ممتلئ بأسمال خضراء، كما كان هناك ثلاثة أطفال أكبرهم في سن السابعة من عمره وهم أليفون ونظيفون وحيويون. كانت النساء والفتيات يلبسن بذلات جميلة ذات خطوط عمودية صفراء وسوداء. وكنت أستمع إلى تموجات صوتهن النقي من خلال تحاورهن، وقد كن يجعلن صوتهن أكثر آدمية حينما يركزن على مخاطبهن بنظرات عيونهن الواسعة والمحاطة بالكحل. كانت هناك فتاة ذات قامة ممتلئة وتلبس خمارا برتقاليا معقودا خلف شعرها معلقة في عنقها لوحة كبيرة من الفضة المنقوشة تتدلى على صدرها ولابسة حزاما مذهبا ومزينا بأحجار ملونة. في هذه الأثناء كان الخروف ينتظرنا فوق أريكة من الأرز والعنب المجفف، قسمناه فيما بيننا، ثم ودعنا بعضنا. النساء يسلمن بالإبهام وهو رمز لتحية الأصابع التي يضغطن عليها للسلام.
لقد تركنا خلفنا في الصحراء هؤلاء الفتيات: نورة وغزيل ولفتة وسنوة، بقي علينا أن نمر بارتجاج مجاري مجموعة من الخنادق التي كانت تكشفها لنا أنوار السيارة.
وفي حالة ما إذا كانت هذه المغامرة قد عرضتنا للخطر، فإن الوجبة التي تناولناها تحت الخيمة ستنقذنا لأنها كما يقول البدو: "رابطة الملح " وهو التقليد الذي يجبر المضيف على حماية ضيوفه خلال ثلاثة أيام وهي المدة التي يفترض أن تهضم فيها المعدة الملح.
يوم الاثنين هو يوم السوق في نجران، وقد خرجنا من المخيم قرب أطلال الأخدود لقضاء يوم في الواحة ومشاركة الأهالي حياتهم الاجتماعية.
وبما أن لكل رجل سيدا، فقد بدأنا مشوارنا بزيارة الأمير تركي بن ماضي الذي كان قد دخل لتوه من رحلة صيد في الصحراء وبصحبته أحد أبناء الملك. كان مبتسما وشابا، متميزا، كان يتجاوز الأسئلة التي لا يرغب في الإجابة عنها، مكتفيا بحركة من يديه الناعمتين. لكن الأمر سيتغير عندما طلبنا منه أخبارا عن مراسلاتنا. وحسب الأمير فإن المراسلات النصف شهرية الموجهة لنجران تعطلت في أبها على بعد حوالي مئتي كيلومتر على الطريق الشمالية الغربية من هنا. لقد غادرت هذه المدينة على ظهور الجمال منذ حوالي أربعة أو خمسة أيام، وستصل بعد أسبوع. فالصبر ثم الصبر.
وخلال هذه الجلسة في الديوان التي كانت تقاطع بدخول الأهالي الذين كانوا يسرون بكلامهم في أذن الأمير مشتكين ضيق حالهم، في هذه الأثناء كنا نقرأ في كتاب في علم الأنساب الذي يرسم شجرة نسب رؤساء قبيلة يام. ويمكننا أن نصف هذه المعلومات بالجدية خلال قرنين أو ثلاثة، لكن بعد ذلك ستسير الأبوة على شكل مجموعات إلى آدم، مرورا بإبراهيم ونوح، ذلك لأن هؤلاء الآباء يشترك فيهم المسلمون والمسيحيون.
توجهنا إلى السوق الموجود في مكان تتكاثر فيه الجمال والحمير المحملة بالأكياس والعلف والقرب وحزم الحطب. وعندما تصل هذه الحيوانات إلى السوق كانت تكمم وتكبح بطرق مختلفة. بعضها تثنى ساقه خلف ركبته، وبعضها توثق ساقاه الأماميتان بحبل بعد أن يشدا إلى بعضهما. كان هذا العالم كله يثير هرجا ومرجا ويتفرق بشكل ثقيل أمام الجيب، في شكل يشبه ساحة غريبة تقوم فيها الشرطة بحملتها بحثا عن المشبوهين. كانت هناك شاحنتان واقفتين على طول جنبات الحائط إنها نذير سوء أسود بالنسبة للحيوانات التي ستنقلها إلى جهات غير معروفة.
كان في السوق حوالي أربعمئة شخص رجالا ونساء قدموا من مختلف الجهات لتبادل أو بيع منتجاتهم. كل واحد منهم يضع بضاعته على الأرض في قفات مفتوحة أو في سلال من القصب أو في قطع من القماش التي تستخدم كذلك في عرض البضائع. والنساء نصف المحتجبات يسرن بين الناس ببضائعهن المرفوعة فوق رؤوسهن، والرجال يرتدون الثياب البيض المغطاة أحيانا بالعباءات، وبعضهم يرتدي معطفا ثقيلا من جلد الغنم المقوى. قليل من الأطفال وقليل من الغنم. كان هناك عدد من الزبائن من فصيلة الزنوج. أما النقود فتحمل في كيس صغير من القماش، ذلك لأن النقود الورقية لم تدخل بعد النظام النقدي السعودي. لقد أدى وصولنا إلى قليل من الارتباك في الجموع، الأمر الذي لم يمنعنا من التحرك بنوع من الحرية، وبعد هذا وذاك هناك مثل يقول: "أراد أن يمتطي الجمل ويمر وسط قطيع الغنم دون أن يراه أحد".
داخل هذا الزخم من البشر والحيوانات تبودلت المنتوجات بالأيدي: حزم من الخشب، ثم الحبوب وخاصة الأرز والخضروات، وخاصة الطماطم والباذنجان، والتوابل والفحم الخشبي، وأعواد الكبريت، والأقمشة القطنية، إلخ. وعلى الرغم من أن العملة الرسمية هي قطعة من الفضة، أي الريال، فإنه يحدث أحيانا أن ترى الناس يدفعون بتالير ماري تالر تريزا. وقد ذكروني هؤلاء بأحد الأصدقاء البلجيكيين الذي بدأ حياته الوظيفية بنكياً في لندن واضعا تالرتريزا التي كانت معه في السوق اليمنية. ولا تزال هناك كذلك بعض الحوانيت الصغيرة الواقعة في العمارات التي تحيط بالمكان. تصل مساحتها إلى بضع أمتار مربعة ولها باب بدون نوافذ. أما النخبة من التجار المحليين فتبيع بالإضافة إلى البضائع المعروفة، القماش، والأحذية الصيفية، والدخان، والخوخ الكاليفورني المعلب، بالإضافة إلى الأسلحة المنقوشة بعناية، التي يعد غمدها المقوس والمزخرف أحيانا أثرا عالميا. وقد اشترى ريكمان عند تجوله في السوق جلدا جميلا لحيوان الوعل بقرنين طويلين ومنحنيين كانت العرب تستخدمه غمدا للخناجر. لقد حمل لنا أحد رعاة الجمال القادم من حضرموت بعض الأصداء عن رحلة أثرية أمريكية كان يرأسها واندل فيليب في مأرب، العاصمة القديمة لمملكة سبأ، الموجودة في اليمن على بعد 250 كلم جنوب شرق الأخدود.
وبعد شهرين من هذا التاريخ، أي في يوم 12 فبراير سنة 1952م هرب جميع أعضاء البعثة بسرعة تاركين وراءهم أعمالهم وممتلكاتهم. وقد نتج عن هذا التصعيد في المواقف خلافات مع المسؤولين المحليين، مما أدى إلى هذا القرار النهائي (المتطرف).
وفي أثناء تناول الوجبة التي قدمها لنا الأمير كنت أتقاسم قطع الحامض والبصل والخل وقشدة الحليب المعطر وقطع اللحم مع أحد الوجهاء الذي يظهر أنه كان مهتما بشخصي. فقد كان فيلبي أخبره بأني طبيب البعثة. إذ إن الشيخ يحيى بن نسيب رئيس فرع إحدى النواحي في قبيلة يام كان مريضا. وقد كلفنا هذا الاستجابة لدعوة بإلحاح منه لزيارته في بيته. وقد ذهبنا مجتمعين في الجيب قاصدين بيت الرئيس المحلي. وهو عبارة عن مجمع واسع مؤلف من برجين عاليين متقابلين. دخلنا من باب محاط بسور حيث كان أحد الخدم ينظم تحركات الأبقار التي كانت تشرب من ماء البئر المحاط بالنخيل. كانت الثيران تجتر هادئة، ماسحة طول النهار منحدرا طوله 25 مترا من الأرض المحروثة، كل واحد منها مشدود إلى قطعة من حديد على شكل صار. وعند بلوغهما نهاية المسار يتوقفان، فتخرج ثلاث قرب سوداء من البئر ليفرغ محتواها في ساقية ثم تعيد الكرة.
وبعد عبورنا ممرا من اللبن الطيني والحجر وصلنا إلى المدخل. وكان يقف بالباب في استقبال الضيوف خادم زنجي، وبعد أن شد على أيدينا قدم لنا المفتاح الضخم الذي كانت أسنانه وقبضته من الخشب. قادنا هذا المدخل إلى برجين مركزيين، وكانت النساء ترقبنا باستغراب من خلال فتحات الحائط. وبعد ذلك بقليل كنا نجلس في ديوان الشيخ يحيى بن نسيب الذي كان لا يجد حرجا في خلع ثيابه تاركا لي الحرية في أن أتسمع على صدره لفحصه أمام الملأ. وكانت حالته موضع نقاش عام بيننا وموضع معالجتي المتأنية له. ويجب القول إنه اقتنع بما فعلته، ذلك أن فيلبي أخبرني بعد ذلك بقليل أنه توصل بدعوة من الشيخ موجهة إلي للإقامة عنده مدة سنة كاملة ضامنا لي السكن وما يلحق به بما في ذلك الزوجة. لقد ختمنا هذه الصداقة حول صحن من الحليب الدافئ والقشر، وهو مشروب يقوم على حبات القهوة المخلوطة بالكثير من الفلفل الأسود الذي منعت على الشيخ تناوله.
وبصحبة إخوة الشيخ تسلقنا الى 98 درجا والأدوار السبعة في أحد الأبراج الذي يصل علوه إلى 20 مترا. ولكل طابق استخدامه المحدد، المخزن لتجميع المحصول، الشقق للنساء والأطفال، وفي القمة يوجد الديوان المفروش بالسجاد المؤدي إلى السطح المحاط بسور قصير، والذي تمتد منه الرؤية إلى أبعد نقطة في الواحة، وهو مفصول من وسطه بالحائط الذي يفصل بين البرجين. أما خطوط هذا البناءة فإنها تصبح دقيقة كلما زاد ارتفاعها، إنها بسيطة ولكنها جميلة. والجدران عريضة ومدورة الزوايا وعليها عدة ثقوب على شكل نوافذ بعضها مغلق بالخشب. وحدها القمة التي كانت تبدو عليها بعض علامات الخيال الإبداعي من حيث إنها تتضمن بعض الفتحات والنوافذ المصبوغة، بالإضافة إلى تراجع طفيف في بناء أحد أدوار العمارة، حيث ترك مكان للسطح الذي يضطرون لاستخدامه سواء لتجفيف البر بحرارة الشمس أو للسهر فيه عندما يكون الجو حارا.
وعند عودتنا إلى المخيم وجدنا ولداً يصطاد الطيور في مزرعة الذرة مستخدماً المقلاع وهي أداة تشبه المنجنيق. وبعيداً من هناك أدهشني أحد الجمال عندما كان يقضم فرعاً من شجرة السمر مبتلعاً بهدوء حزمة منها، وبها خمس أو ست أشواك بيضاء يصل طولها إلى سنتمتر. وبعد ابتلاعها يعود ثانية منحدراً برأسه نحو الخندق محركاً عينيه عندما يتعرض لشوكة طويلة. وغداً صباحاً سنتوجه في فريق واحد إلى صحراء الربع الخالي.


العماني

يتبع

 

 

 

 

    

رد مع اقتباس
قديم 04-05-2005, 11:44 PM   #2
 
إحصائية العضو








نايف غير متصل

نايف is on a distinguished road


افتراضي

العماني بيض الله وجهك والله لايهينك على المجهود ,,,,

تقبل تحياتي ,,

 

 

 

 

    

رد مع اقتباس
قديم 29-10-2009, 09:50 PM   #3
 
إحصائية العضو







ابومبخوت الدوسري غير متصل

وسام الدواسر الذهبي: للأعضاء المميزين والنشيطين - السبب: لنشاطه الكبير وجهوده الطيبه في خدمة الموقع
: 1

ابومبخوت الدوسري has a spectacular aura aboutابومبخوت الدوسري has a spectacular aura aboutابومبخوت الدوسري has a spectacular aura about


افتراضي رد: رحلة استكشافية في وسط الجزيرة العربية(6-الإقامة في نجران )

لاهنت وبيض الله وجهك يالعماني على المجهود الرائع ,,,

تقبل تحياتي ,,,

 

 

 

 

    

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الجزيرة تؤكد أن تشويش بث كأس العالم مصدره الأردن عبدالكريم العماري :: القسم الرياضي :: 2 04-10-2010 08:48 AM
تغير مناخ الجزيرة العربيه 2011 م والله اعلم domokh :: قسم المـواضيع الـعامــة :: 8 02-09-2010 09:07 AM

 


الساعة الآن 09:43 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
---