المقدمة الرابعة :
تتعلق بافتراق أمة الإجابة على فرق شتى ؛ إذ إن الأمة أمتان :
أمة دعوة : وتشمل الكفار والمسلمين ، وليست هي المرادة في باب الافتراق هنا ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر افتراق الأمة ذكر اليهود والنصارى ، ذكر اليهود وأنها افترقت على فرق، والنصارى وأنها افترقت على فرق ، ثم ذكر أمته ، فدل على أن المراد أمة غير أمة ، الدعوة ؛ لأن من أمة الدعوة اليهود والنصارى الذين كانوا في زمنه فما بعد .
وأما الثانية : فأمة الإجابة : وهي المنعوتة المسماة بالمذاهب الاعتقادية والنحل والملل في باب الاعتقاد لأهل القبلة ، والمسمى أهلها بأرباب القبلة وأهل القبلة وأهل الإسلام وما إلى ذلك . فأمة الإجابة هذه انقسمت إلى ثلاثة وسبعين فرقة . جاء ذلك مبيناً في حديث النبي صلى الله عليه وسلم المشهور عند أهل الكلام والاعتقاد ، وهو مخرج عند أحمد والحاكم والترمذي وجماعة ، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: { وستفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، قيل يا رسول الله : وما هي ؟ قال : ما كانت على ما أنا عليه وأصحابي } وهذا الحديث يؤخذ منه فوائد على رأسها ثلاث فوائد :
الفائدة الأولى : أن أمة الإجابة المسماة بأهل القبلة ستفترق على ثلاثٍ وسبعين فرقة ، سواءٌ أدرك الإنسان هذا الافتراق أم لا ، ويشمل الصحابة ومن بعدهم . وهذا أمر متفق عليه عند أهل الحديث ، والأشاعرة ، والماتريدية ، والكلابية في آخرين ، وقرره المتكلمون في باب الاعتقاد في باب الفرق والملل ، ومن أولئك : الشهرستاني في (الملل والنحل) ، والإمام أبو الحسن الأشعري -يرحمه الله- في (مقالات الإسلاميين) ، والبغدادي في (الفرق بين الفرق) في آخرين ، والشأن في ذلك متفق عليه بين أولئك .
فمن أتى وقال : لا نريد نشر حقيقة افتراق الأمة ؛ لأن ذلك يوسع ذلك .
فيقال : فرق بين إظهار الحق والإيمان به ، فهذان شيئان :
أما الإيمان به : فهو أن تؤمن أن الأمة ستفترق وإن لم تدرك افتراقها ، وهذا من أمثلته الصحابة الذين سمعوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقت وروده من فمه الشريف المبارك صلى الله عليه وسلم. فهذا لا بد منه في جميع الأزمان .
وأما الشيء الثاني : فإظهار ذلك : فهذا الإظهار الأصل فيه الوجوب ، وقد يتأخر لمفسدة أعظم أو مصلحة أكبر يراد إمساكها فهذا شيء آخر ، والأصل استبقاء إظهار الحق ، ولا يصار إلى عدم إظهاره إلا لمفسدة أعظم ، أو مصلحة أكبر يخشى فوتها ، فإذا تقرر هذا تبين أن الأصل على ما قرر .
الفائدة الثانية : أن هناك طائفة واحدة من بين هذه الملل والنحل من أمة الإجابة هي الناجية ، وهذا يشمل شيئين :
الشيء الأول : الحكم بأن هناك طائفة واحدة ـ أي لا تتعدد ـ ويؤخذ من ذلك أن الأقوال في باب الاعتقاد التي الأصل فيها اليقين والقطع من مسائله لا تقبل التعدد ، فالحق فيها واحد لا يتعدد .
الشيء الثاني : القطع بنجاة هذه الطائفة في الآخرة -أي نجاتها من النار والعقاب والعذاب في الآخرة- وأول الآخرة القبر ثم ما يليه ، كذا المشهور تقريره ، وسيأتي بيانه في محله إن شاء الله تعالى عند الحديث عن الإيمان باليوم الآخر .
الفائدة الثالثة : أن الطوائف الأخرى غير الطائفة الناجية هي من أهل النار ، ومعنى أهل النار عند الأشاعرة والماتريدية والكلابية وأهل الحديث في آخرين (أي متوعدون بالنار كتوعد أهل الكبائر في الفروع بالنار) فإن هذا الحكم معناه شيئان :
الشيء الأول : أنك تطلق ، على الطوائف في الجملة بأنها في النار ، وبأنها هالكة ، وبأنها في الآخرة معاقبة ومتوعدة فيها .
الشيء الثاني : أن هذا التوعد قد يتأخر تحقيقه في حق أحادٍ من المنتسبين لجملة هذه الطوائف ؛ ذلك أن الآتين بالكبائر من جملة أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم لهم حكمان :
الحكم الأول : لا بد أن يقع الوعيد على بعض من أهل الكبائر في الآخرة ، فلا يمكن شرعاً أن يحكم على جميع أهل الكبائر بالنجاة في الآخرة ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أنبأنا عن شفاعةٍ وشفاعات ، وأنبأنا عن عقاب وأشياء تكون في الآخرة ، ثم يكون الشفيع في ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره كالشهيد ، وما إليه مما ذكر في الأخبار الشرعية ، فيخرج أهل التوحيد حينئذٍ ، فلا يبقى من في قلبه مثقال ذرة من إيمان في النار بل يخرجون بعد ذلك ؛ فدل على أنه لا بد أن يقع العقاب على بعضهم .
الحكم الثاني : يتعلق بآحاد وأفراد العاملين للكبائر ؛ فهؤلاء منهم من قد يقع عفو الله عز وجل عنه فيدخل إلى الجنة دون سابق عقاب وعذاب مع أنه متوعد بالنار والعقاب ؛ لأنه فاعل لكبيرة مصراً على البقاء عليها حتى وافاه الأجل فمات .
إذا علم ذلك فينبه إلى أمر يلحق بما مضى : وهو أن الطائفة الناجية التي سبق بيانها إنما هي التي على معتقد النبي صلى الله عليه وسلم ومعتقد أصحابه من بعده ، وهذه الطائفة هي التي التزم مذهبها وعقيدتها الأئمة الأربعة المتبوعين في الفروع : أبو حنيفة النعمان ، ومالك عليه من الله الرضوان ، والشافعي -رحمه الله- ، والإمام أحمد -رحمه الله ورضي عن الأئمة أجمعين- ، فهؤلاء الأربعة استمسكوا بعقيدة أهل السنة والجماعة وأخذوا بذلك ، وهم على معتقد أهل السنة والجماعة ، كذا يثبت على وجه الإجمال والعموم أنهم على ذلك ؛ ولذلك لما أتى الأئمة يحكون الطائفة الناجية عقيدةً وتوحيداً وما إليه ، ذكروا أن الأئمة الأربعة يعتقدون هذا الاعتقاد ويستمسكون به وهم من أهله -أي من أهل الاعتقاد الصحيح- ، وسيكون استمساكنا تقريراً لمفردات الاعتقاد الواردة على اعتقاد أهل السنة والجماعة الطائفة الناجية ، والتي ينسب إليها اتفاقا الأئمة الأربعة : أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم وأرضاهم .
تلك مقدمات مهمات ، وهي أشياء ممهدات لا بد منها ، فكن منها على بال وذكر -يا رعاك الله- .