أحكام الأضاحي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
اللهم ما أنعمت به علينا من نعمة فلك الحمد ولك الشكر، نحمدك عدد قطرات الأمطار، وعدد مياه البحار، وعدد أوراق الأشجار، وعدد ما تفتحت الأزهار، وعدد ما حج بيتك مسلم أو زار، وعدد ما غفرت الذنوب والأوزار، وعدد ما أنهرت في سبيلك الدماء في الأقطار، اللهم لك الحمد ولك الشكر على ما هديتنا وأوليتنا وأحللت لنا من بهيمة الأنعام، اللهم لك الحمد عدد الطائفين والعاكفين، والركع السجود.
أيها المسلمون، دعونا نستذكر بعض هدي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حين ينحر هديه، ويضحي له ولأمته من بعده، كيف كان يذبح، ومتى كان يضحي، وما كانت آلته، وغير هذه الأسئلة التي تجعلنا نعيش مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى في شأن الأضحية كيف كان هديه فيه -عليه الصلاة والسلام-.
عباد الله: قد سن الله لنا يوم الأضحى أن نقدم فيه من أموالنا أضحية نذبحها، ونتصدق منها على الفقراء والمساكين، ونهدي منها، ونأكل منها، فما ذبح من النعم تقرباً إلى الله تعالى من يوم العيد إلى آخر أيام التشريق فهي الأضحية، وهي سنة عند جمهور العلماء، فهي من أعلام الدين وشعائر الإسلام، وإنما شرعت في أيام العيد للتوسعة على الأهل، وصلة ذوي القربى والأصحاب ومواساة الفقراء في أيام ينبغي أن تعم الفرحة فيها جميع المسلمين، ويدخل السرور إلى كل دار من ديار المسلمين، فيا أيها المسلمون إذا ضحيتم: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ(27) سورة الحـج.
أيها المسلمون: قد جاء عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- أنه قَالَ: (ضَحَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ)1، والكبش الأملح: الذي فيه بياض وسواد وبياضه أكثر2.
وهذا فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم العيد وقد وصف لنا أنس -رضي الله عنه- كيفية ذبحه -عليه الصلاة والسلام-، وفيها سنة عملية وقولية.
ويستحب إضجاع الغنم ولا تذبح قائمة ولا باركة؛ لأنه أرفق بها، وعليه أجمع المسلمون، ويكون الإضجاع على جانبها الأيسر؛ لأنه أيسر للذابح في أخذ السكين باليمنى، وإمساك رأسها باليسار3. ويسمي ويذكر الله سبحانه حين الذبح، ويستحب الدعاء بقبول الأضحية4؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- حين ضحى: (بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ثُمَّ ضَحَّى بِهِ)5.
ويستحب الإحسان في الذبح، وإحداد الشفرة6، (فإِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ)7،
وقال شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ -رضي الله عنه-: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ)8.
أيها المسلمون: لا يخفى على الذابح أن يتحرى قطع الحلقوم والودجين وهما عرقان في يمين ويسار ثغرة العنق، ويتحرى إسالة الدم، فقد أجمع أهل العلم على أنه إذا قطع بما يجوز الذبح به وسمى وقطع الحلقوم والمرئ والودجين وأسال الدم حصلت الذكاة وحلت الذبيحة9، وهذا أمر لا بد أن يُتحرى؛ فإنه من الإحسان.
عباد الله: من نعم الله -جل وعلا- أن أباح لنا الأنعام كلها، فالأضحية تجوز من جميع أنواع بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، ولا يجوز أن تكون الأضحية من غيره10، وقد علمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ننفق من طيب أموالنا ومما نحب كما قال: (لَا يَجُوزُ مِنْ الضَّحَايَا الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي)11.
وهذا من كرم الإسلام، وليس الكرم البذل فحسب بل وأن يدل على الكرم ويحث عليه ويربي عليه، وينشئ عليه المنتمين إليه هذا أرفع مرتبة من مراتب الكرم، والله -عز وجل- يعلمنا الكرم في النفقات، ومنها الأضاحي، وقد أخبرنا أننا لن ننال البر إلا بإنفاق عزيز مالنا على أنفسنا، كما قال -جل وعلا-: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ(92) سورة آل عمران، ولهذا فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وقد قال -جل وعلا-: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162) سورة الأنعام، فلذلك ينبغي أن تكون طيبة لتنال القبول من الله.
وإذا ذبح الأضحية أو نحرها فقد استحب كثير من العلماء أن يقسمها أثلاثاً: ثلثاً للادخار، وثلثاً للصدقة، وثلثاً للأكل12، لما ورد عن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قالت: دَفَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَضْرَةَ الْأَضْحَى فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (ادَّخِرُوا الثُّلُثَ، وَتَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ) قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ مِنْ ضَحَايَاهُمْ، وَيَجْمُلُونَ مِنْهَا الْوَدَكَ، وَيَتَّخِذُونَ مِنْهَا الْأَسْقِيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا ذَاكَ؟) -أَوْ كَمَا قَالَ- قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: نَهَيْتَ عَنْ إِمْسَاكِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ13 الَّتِي دَفَّتْ عَلَيْكُمْ، فَكُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَادَّخِرُوا)14.
وتجزئ البدنة والبقرة عن سبعة لما ورد عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: (حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَنَحَرْنَا الْبَعِيرَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ)15.
هذه بعض الأحكام التي علمنا بها الشرع الحنيف، وقد اشتملت على فوائد كثيرة أبرزها شكر المنعم -جل وعلا-، والحصول على المنافع العظيمة، وإحياء ذكر الله وحمده على ما أنعم، ويتفكر في ما زقنا من بهيمة الأنعام من تفكر، كما قال في محكم كتابه: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ(28) سورة الحـج، فإن الأنعام للناس آية، وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) سورة يــس.
كما اشتملت على الإحسان والرفق، وليعلم كل أحدٍ عظمة هذا الدين كيف يعلمنا أمور ديننا حتى في تعاملنا مع الأنعام، كيف نذبحها، وبم نذبحها، وأيسر الطرق عليها في إفضاء روحها.
عباد الله: أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرزقنا شكر نعمه فلا نكفر، وحسن عبادته فلا نضل، ونتوب إلى الله ونستغفره فهو الغفور الرحيم.