صور قبر المعتمد بن عباد :
http://farm1.static.flickr.com/85/26...1d46c523_o.jpg
http://farm1.static.flickr.com/82/26...39f0cecd_o.jpg
http://farm1.static.flickr.com/79/26...e92fc043_o.jpg
ترجمته:
هو ابن المعتضد العبَادي صاحب اشبيلية. أصبح وريث العرش بعد موت أخيه البكر اسماعيل, وجلس فيه سنة 1069م 461 هـ, واتخذ له وزيراً ابن عمار الشاعر. وكان هو نفسه شاعراً وكاتباً, فتوافد اليه الأدباء والعلماء فأكرم مثواهم, امتلك قرطبة واتسع سلطانه حتى بلغ مرسية.
" وكان بنو عبَاد أمراء اشبيلية أهل حنكة سياسية ودهاء وذكاء, وكانت لهم سياستهم الخاصة في غمار تلك الأحداث التي ألمت بالعصر, واستطاعوا أن يوسعوا سلطانهم, حتى غدت اشبيلية أقوى الإمارات الأندلسية " .
" وقد واجه المعتمد أحداث عصره في صبر وقوة وإقدام, والمؤرخون يتحدثون عن صبره وقوته في خوض المعارك, ويثنون على شجاعته وثباته واستبساله" . وبدأ ملك بني عبَاد بالقاضي ابن عبَاد المؤسس ثم ابنه المعتضد ثم تلاه المعتمد.
" وكان للأحداث الكبرى التي مرت بالمعتمد, والحروب الطاحنة التي اشتدت أوزارها واستعر لهيبها في الأندلس ( في الًزلاقة , وقرطبة , ورندة , والرُّها , وغيرها ), تلك الحروب كان لها آثارها البعيدة وصداها العميق في نفس المعتمد, وكانت كذلك ينبوع فخره في شعره ", .
لم يصور المعتمد تلك الأحداث في شعره كشاعر سمع بها ولم يكن شاهدها, أو كشاعر وقف على ربوة يرقبها من بعيد, وانما كان المعتمد فارساً شجاعاً, شديد الاعتزاز بالنفس, يتقدم كتائبه, ويجول في ميادين القتال في بسالة وإقدام شديد الثقة بصبره وقوة عزيمته, ثم التوت به الحال, وقلب الدهر له المجن فانهزم, ونزل من قصره إلى أَسره, وكان هذا أقوى الآثار عمقاً في نفسه. فقد اضطر إلى مفارقة وطنه وأهله واقتيد الى" أغمات" بالمغرب, وفي أغمات عاش في السجن بضع سنين, عاش عيشة سئم فيها العنت والظلم ولقي فيها الذلة والمهانة, فجاء شعره في هذه المحنة مصوراً لما يعتلج في صدره من الهم والغدر, يشكو بثَّه وحزنه, ويأس على مصيره. .
" ولم يكن العصر الذي عاش فيه المعتمد من العصور السعيدة في التاريخ وانما كان عصراً حافلاً بالأحداث الفاجعة والنكبات الصادعة" . ومن صفاته التي تحمد له رغم بعض العيوب والهفوات, " أن له مواقف مشرقة, وضائعة لجليله, والمروءة والأربحية والمواهب الشعرية, والملكات الفنية التي جعلته يستأهل الاعجاب, وأسرته العريقة" .
يقول عنه المعَري في نفح الطيب: " وأخبار المعتمد بن عبَاد وما رآه من الملك والعزَ في كل حاضر وباد وما قاساه في الأسر من الضيق رحمه الله وغفر له" . والمعتمد فرع من دوحة بني عبَاد, أسرة عربية من أعرق الأسر وأقواها وأثراها, نزحت من العريش إلى الأندلس فاستقرت في غربية حيفا, ثم انتقلوا بعدذلك الى اشبيلية فاستوطنوها, وكانوا فيها أهل النباهة والشان, وكان المعتمد أقوى هؤلاء الأمراء المتوبثين, وأعظم هؤلاء الملوك المسمّيَن بملوك الطوائف, كان طاغياً جبارا, له سياسة أعيت على أنداده من ملوك الأندلس, وقد اتجهت مطامعه إلى غزو جيرانه ولا سيما البربر في الجنوب والجنوب الشرقي من شبه الجزيرة.. فأبكى وأرقَّ, وشتت وفرقَ، ولقد حكي عنه من أوصلوا التجبر ما ينبغي أن تصان عنه الأسماع .
محنة المعتمد:
قضى المرابطون على ملوك الطوائف بالأندلس, وثلوا عروشهم ولكن لم يظفر واحد منهم باهتمام المؤرخين كما ظفر "المعتمد" الملك الذي توافرت له أسباب السعادة فاستطاع أن يحبَ ويحارب ويقول الشعر, وأن يسامر الأدباء ويجالس العلماء, ويعابث الماجنين ويشملهم جميعاً بوفرة من حالة وسعة صدره .
" تكدست حوله أسباب الشقاء فأشفقت عليه أصدقاؤه وأعداؤه على سواء, لقد ذل بعد عزة, وأسر مع أبنائه وجيرانه, وصفد بالأغلال على مشهد من أمته وانتزع من قصره بالأندلس, وسيق إلى سجنه بأفريقية, والناس على طول الطريق شهود وهناك يمرض, فيعوزه الطبيب, ويجوع فيعوزه الغذاء, ويعري فلا يجد الغطاء." .
أذن يوسف بن تاشفين لجيوش المرابطين بإسقاط عرش المعتمد فاندفعت تلك الجيوش نحو "رندة" ذات الحصون فاستولوا عليها وقتلوا ولده "الراضي" ثم اندفعوا نحو "قرطبة" ففتحوها وقتلوا ابنه "المأمون" وتقدمت قواتهم فأخضعت اشبيلية في الثاني والعشرين من رجب سنة 484ه – 1091 م وهاجمت فرقة منها في صبيحة ذلك اليوم قصر المعتمد فتسورته, فانبرى لها يقود حامية مقره وليس عليه غير قميصه فردها على أعقابها .
وفي أصيل ذلك اليوم داهمت القصر جموع من الأندلسيين والمرابطين لا قبل للمعتمد بها فاستسلم فقبض عليه, وأحكم وثاقه وأودع مع أفراد أسرته سفينة سارت في الوادي الكبير والناس على الشاطئين يعتبرون أو يبكون, ثم عبر بهم المضيق إلى أفريقية, وسيق الى أغماث حيث ترك في سجنها ومعه زوجتة الرميكية – أم الربيع وبناته يقاسمنه الآلام تارة ويحركن ساكن أشجانه أخرى!!
وتمادى "المرابطون" في تعذيب هذا الأسير عندما ثار ولداه : عبد الجبار باريجش, والمعتمد بمارئله, واتخذ ذلك وسيلة لارغام ولديه على الطاعة والاستسلام وتركه في السجن أربع سنوات يعاني مع أسرته, العذاب المهين حتى وافاه قدره ومات سنة 488 ه – 1095 م ودفن رحمه الله بأغمات.
ومن الشعر الذي قيل في هذا المجال, قول الشاعر أبو بكر بن اللبانَّة في رثاء بني عباَد في اشبيلية وملكها المعتمد الذي حمل أسيراً الى أغمات في المغرب, ومات فيها , يقول:
تبكي السماء بدمع رائحِ غادي على البهاليل من أبناء عبَّاَد
على الجبال التي هدَّت فواعدها وكانت الأرض منهم ذات أوتاد
بحرية رحلتها النائبات على أساورِ لهمو فيها وآساد
وكعبةٌ كانت الآمال تغمرها فاليومَ لا عاكفٌ فيها ولا باءِ
ومن هذا الشعر قول الشاعر ابن عبد الصمَد في قصيدة زادت على مائة بيت, أنشدها على قبره في أول عام مر على مماته وهي حافلة بمعاني التفجع على الملك الشاعر وملكه الزائل ومنها قوله:
ملك الملوك أسامع فأنادي أم قد عدتك عن السماع عَواد
عهدي بملكك وهو طلقٌ ضاحكٌ متهللُ الصفحات للقصَّاد
والأمر أمروك والزمان مبشِّرٌ بممالكٍ قد أذعنت وبلادِ
شاعريته:
لعل أهم الأسباب والعوامل التي أذكت شاعريةَ المعتمد هي:
o أنه عاش في بيئة تتصف بالجود والسخاء.
o أنه ابن ملك عاش في بيت أدب وعلم.
o ذل المحنة.
o امتزاجه بالطبيعة.
o كان أقوى الأمراء المتوثبين.
o اشتبك في حروب طاحنة مع أمراء غرناطة ومالقة وغيرهما فانتصر عليهم جميعاً.
o كان أعظم ملوك الطوائف جميعا.
o كان زمنه مشهوراً بالراحات والآداب, وأيامه موصوفة باخضرار الجناب.
o جبروت الملك وفروسيته.
o أنه ابن ملك, فلم يعرف التكسب.
o شجعه أبوه على قرض الشعر.
o أغرم المعتمد بالشعر فكان يكتبه ويستميل العراء ويجالس الأدباء.
كما كان المعتمد وثيق الشبه بابيه, لا يختلف عنه في شيء إلا أنه كان دون أبيه شدة وعنفاً, أما سوى هذا فكلام كان صورة لأمير عظيم من أمراء الفروسية, امتاز بالبأس والشجاعة واتصف بالسخاء والجود وحسن الصنيع, وكلاهما اشتهر بالقريض وحسن النظم والحدي على أهل الأدب
....
شعره:
للمعتمد بن عباد قصائد مبثوثة في كتب الأدب. ومن ميزات شعره:
o الوجدانية الشخصية ( فلم يكن شاعراً متكآ, ولا متخذاً من الشعر حرفة وصناعة, ولكنه يستعمله أداة للتعبير عن مشاعره, وهو بذلك يشبه أبا فراس الحمداني, وفي مآسيه وأسره أيضاً .
o شعره بسيط سهل ليس فيه تصنّع أو تكلّف.
o شعره ينبض بالعاطفة القوية.
o
يقول:
أحب نداءُ أخي قلبٍ تمَلكه أسىً وذي مقلةٍ أودى بها السهُر
o كان شعره صوت الألم الشاكي في رضانة واباء .
يقول عنه ابن بسام في الذخيرة: " فقد كان متمسكاَ من الأدب بسبب, وضارباً في العلم بسهم, وله شعر كما انشق الكمام عن الزهر, لو صدر مثله عمن جعل الشعر صناعةَ واتخذه بضاعة, لكان رائعاً معجباً, ونادرا مستغرباً, فما ظنك برجل لا يجد إلا راثياً, ولا يجد إلا عابثاً, وهو مع ذلك يرمي فيصيب, ويهمي فيصوب" . وهذا دليل كاف وشهادة مؤكدة على جودة شعر ابن عباًد ومنزلته الشعرية.
وقد أكثر المعتمد من قرض الشعر, وكان شعره صورةً للحياة التي عاشها, في عهد الإمارة والملك, حياة الترف والجلال معاً, يقول:
ولقد شربتُ الرَاح يسطعُ نورُها
والليلُ قد مدَ الظلام رداءَ
حتى تبَدَّى البدرُ في جوزائه
ملكاً تناهى بهجةً وبهاء
لماَ أراد تنزهاً في غربهِ
جعل المظلَة فوقه الجوزاءَ
موضوعات شعره:
إن الدارس لديوان المعتمد يلحظ انه نظم في أغراض متعددة كالغزل والوصف والعتاب وبعض الخمريات، والفخر والرثاء والحنين والتهكم. ولكن محنة الأسر أو شعر الشكوى الذي قاله حظي بنصيب الأسد من ذلك الشعر.
الخمريَات:-
كان شعر المعتمد صورة " للحياة التي عاشها ، في عهد الإمارة والملك، حياة الترف والجلال معاً " ، تراها ممثلة في قوله:
ولقد شربتُ الراح يسطعُ نورها والليلُ قد مدَ الظلام رداء
حتى تبدَّ البدرُ في جوزائه ملكاً تناهى بهجةً وبهاء
لمَا أراد تنزهاً في غربهِ جعل المظلَة فوقه الجوزاءَ
وتناهضت زهرالنجوم يحفَّه لألاؤها ، فاستكمل الآلاءَ
وترى الكواكب كالمواكب حوله رفعت ثريَّاها عليه لسواء
وحكيتُه في الأرض بين مواكبٍ وكواكب جمعت سناً وسناء
إن نشرت بكل الدروع حنادساً ملآت لنا هدى الكوؤس ضياء
وإذا تغنَّت هذه في مزهرٍ لم تأل تلك الًرَّيك غناء " فحياته بين راح يسطع نورها في ظلمة الليل، تحت أضواء بدر يملأ الكون بهاءً وبهجة، تحف به النجوم المتلألئة، كما تحف الرعية بمليكها، وهنا يعقد الموازنة بين نفسه في الأرض فهو في ملكه بين مواكب من الجند أو بين كواكب أتراب، يتحدثن بأعذب موسيقى، وأرقَ غناء . فهذه الآبيات صورة من ليالي السعد والأنس التي كان المعتمد يحياها في عنفوان ملكه، حين كانت الدنيا مقبلة عليه.
الغزل:-
أما الغزل فكان أهم أغراضه الشعرية في عهد الإمارة والملك قبل أن يقلب الدهر له ظهر المجن، ويتسم غزله بأنه " حقيقي، تحدث فيه عن عواطفه، في حال الرضا والغضب، والقرب والبعد، وأظهر ما فيه أنه غير محصور بواحدة، بل هنَ جوارٍ وزوجات". ومن أشهرهن سِحْر، ووداد، وقمر، وزوجته اعتماد أم الربيع، يقول متغزلاً :
سرورنا دونكمُ ناقصُ والطيب لا صافٍ ولا خالصُ
والسعد إن طالعنا نجمه وغبت، فهو الآفلُ الناكصُ
سمَوك بالجوهر مظلومةً مثلك لا يدركه عائضُ
ويقول في زوجة اعتماد أم الربيع:
تظنَُ بنا أُم الربيع سآمةً ألا عفى الرحمنُ ذنباً تواقعه
أأُهجر ظبياً في ضلوعي كياسهُ وبدرَ تمامٍ في جفوني مطالعه
وروضة حسن أجتنيها وبارداً من الظَلم لم تُحظر علىَّ شرائعه
إذاً عدمت كفي نوالاً تُفيضُه على معتفيها أو عدوَاً تُقارعه
ويقول فيها أيضاً :
بكرت تلومُ وفي الفؤاد بلابلٌ فهاً وهل يثنى الحليم الجاهلُ
يا هذه كُفيَ فإني عاشقٌ من لا يرُدَُّ هواي عنها عادلُ
حبَُ اعتمادٍ في الجوانح ساكنٌ لا القلبُ ضاف به، ولا هو راحل
يا ظبيةً سلب فؤاد محَمدٍ أو لم بُروَعك الهزبرُ الباسلُ
من شكَ أنيَ هائمٌ بك مغرم فعلى هواك له علىَّ دلائلُ
لون كسته صفرةُ، ومدامعٌ هطلت سحائبها وجسم ناحل
ويقول مغزلاً في غلام اسمه سيف:
سُميت سيفاً وفي عينيك سيفان هذا لقتلي مسلولٌ وهذاءا
أما لحظت قتلةٌ بالسيف واحدةٌ حتى أتيح من الأجفان ثنيها
أسرتهُ وثنائي غُنجُ مُقلته أسيره، فكلانا آسرعا
ياسيف أمسك بمعروفٍ أسير هوى لا ينبغي منك تسريحاً بـإحدا
وهذا الغزل الذي لا يقتصر على محبوبة واحدة، يدل على أن صاحبه مغرم بالجمال، يعجب به أينما كان، لا كهولاء المحبين الذين لا يرون الجمال مثلاً إلاَ في واحدة، وليس حبه حباً عذرياً، يقنع من الحب بالذكرى وطيف الخيال, فلا ترى في غزله صوفية، ولكنه غزل دائم الحديث عن لذة المتعة بالجمال، فاسمعه يقول:
الصبح قد مزَق ثوب الدجى فمرَق الهمَ بكفيَّ مها
خذ باسمها من ريقها خمرةً في لون خدَيها تجلى الأسى
السياسة في شعره:-
وكان للأحداث السياسية صداها في شعره، ولعلَ أعظم تلك الأحداث استيلاؤه على قرطبة، وهو حادث ملأ نفسه زهواً وربما أفعم قلبه بالأمل في أن يوحَد الأندلس العربية تحت رايته ويقيم في البلاد دولة بني عبَّاد، ولا جرم في ذلك فقد كانت قرطبة عاصمة الأندلس كلها، يوم الحكم العربي مزدهرة بتلك الديار ويبين المعتمد على هذا الزهو، وتلك الأمل، في قوله :
من للملوك بشأ والأصيد البطل؟! هيهات جاءتكم مهدَية ال
خطبت قرطبة الحسناء إذ صنعت من جاء يخطبها بالبيض والأسمر
عرس الملوك لنا في قعرها عُرسٌ كل الملوك به في مآثم السهر
فراقبوا عن قريب، لا أُبالكمُ هجوم ليث، بدرع اليأس مشتمر
" ومن أعظم الأحداث السياسية أيضاً، تلك المعركة التي دارت رحاها يوم العروبة، بين المعتمد والمرابطين وأُمراء الأندلس من ناحية وبين الفونس السادس ملك قشتالة من ناحية أخرى،وعرفت في التاريخ بمعركة "الزلاَقة" . وقد تحدث عن صبره على أهوال تلك المعركة، والمؤرخون يروون بلاءه ذلك في حديثه عن ابن أبي هاشم، حين ذكره ورحى القتال دائرة" يقول :
أبا هاشم هشمتني الشَفار فللََه صبري لذاك الأوار
ذكرت شُخيصك ما بينها فلم يتثنى حبَه للفرار
الاستعطاف:-
وللمعتمد شعر بعث به إلى أبيه يستعطفه عندما فشل في المهمه التي اوكلها اليه في الاستيلا على بعض الحصون. ومنه هذه القصيدة الجميلة:
سكَن فؤادك لا تذهب بك الفكرُ
ماذا يُعيد عليك البثَُ والحذرُ
وازجر جفونك، لا ترض البكاء لها
وأصر، فقد كنت عند الخطب تصطبر
وإن يكن قدرٌ قد عاق عن وطرٍ
فلا مردَ لما يأني به القدرُ
وإن تكن خيبةٌ في الدهر واحدةٌ
فكم غزوت ومن أشياعك الظَفرُ
إن كنت في حيرة من جُرم مجترم
فإن عذرك في ظلمائها قمرُ
عهد المحنة والأسر:-
وتجربة المعتمد مثال حيً لمأساة كانت تتجدد يوماً بعد يوم على مدى سنوات سجنه، وكان ذلك بمثابة عاصفة مدمرة أطاحت بعرش البهاء والعزَ الذي تربع عليه . وكان ذلك بعد نفيه إلى أغمات على يد يوسف بن تاشفين. ويظهر هذا في قوله واصفاً الحال التي صار إليها :
تبدَلتُ من عزَ ظلَ البنود بذلِّ الحديد وثقل القيود
وكان حديدي سنانا ذليقاً وعقيباً رقيقاً صقيك الحديد
فقد صار ذاك وذا أدهماً يعضُّ بساقي عضَّ الأسود
فلقد آلمه القيد، وتغير الزمان عليه، ونكست راياته الشجانة التي كان يستظَل بها، وهو يعاني الآن ثقل القيود وذلَّ السجن والقيود الحديدية التي تحيط به وتثقل على جسده، لا تثقل بثقلها المعدني فقط، بل تثقل على نفسه وروحه بالذَل الذي غمسته فيه.
ولعلَ من أجمل قصائده التي تعبَر عن هذه الحال، قصيدةٌ قالها عندما هوجمت أشبيلية، فخرج مدافعاً عن نفسه وأهله وكان قد أشار عليه وزراؤه بالخضوع والاستعطاف.
لمَا تماسكت الدموعُ وتنبَه القلبُ الصديعُ
قالوا: االخضوع سياسةٌ فليبدُ منك لهم خضوع
وألذ من طعم الخضو ع في السَلُم النقيع
إن يسلب القومُ العِدا مُلكي وتسلمني الجُموع
فالقلبُ بين ضلُوعه لم تُسلم القلب الضَُلُوع
لم أُستلب شرف الطَبا ع أيُسلبُ الشرفُ الرفيع؟
قد رُحت يوم نزالهم ألاَتحصََّنني الدَروع
وبرزتُ ليش سوى القميص على الحشا شيءٌ دفوع
وبذلتُ نفسي كي تسيل إذا يسيل بها النجيع
أجلي تأخَر ، لم يكُن بهواي ذُلَي والخضوع
ما سرت قطَّ إلى القتا ل وكان من أملي الَُرجوع
شيمُ الألى، أنا منهمُ والأصلُ تتبعه الفروع
وقال بعد أسره يتذكَر قصوره بالأندلس:
بكى المبارك في إثر ابن عبَاد بكى على إثر غزلان وآساد
بكت ثُرياه لاُغمت كواكبُها بمثل نوء الثَُريَا الرائح الغادي
بكى الوحيدُ، بكى الزاهي وثبَته والنهر، والتاجُ ، كلَُ ذُلَة بادي
ماء السماء على أبنائه كثير على دررٌ يالجَة العجر دُومي ذات إزباد
" ومرَ عليه في موضع اعتقاله سرب قطا لم يعلق لها جناح، ولا تعلَق بها من الأيام جناح، ولا عاقها عن أفراخها الاشتراك، واعوزها البشام ولا الادراك، وهي تمرح في الجوَ، وتشرح في مواقع التوَ، قتنكدَ مما هو وما يقاسيه من كبله، ويعانيه من وجلة ,وحبله،وفكر في بناته، فقال
بكيتُ إلى سرب القطا إذ مرين بي
سوارح، لا سجنٌ يعوقُ ولا كبلُ
ولم تكُ روالله المعيذُر حسادة
ولك حنيناً أنَ شكلي لها شكلُ
فأسرحُ، لا شملي صديعٌ، ولا الحشا
وجميعٌ ولا عيناي يُبكيهما ثُكلُ
هنيئاً لها أُن لم يُفرَق جميعُها
ولا ذاق منها البعد من أهلها أهلُ
وأن لم تبت مثلي تطير قلوبُها
إذا إهتزَ بابُ السَجن أو صلصل القُفل
وما ذاك مما يعتريني، وأنما
وصفتُ الذي في جبله الخلف من قبلُ
لنفسي إلى لقيا الحمام تشوقُ
سواي يُحبَ العيش في ساقه حجلُ
ألا عصم الله القطا في فراخها
فإن فراخي خانها الماءُ والظَلُ
ولمَا أحسَّ بدنو أجله، رثى نفسه بهذه الأبيات، ووصَى بأن تكتب على قبره :
قبر الغريب سقاك الرَائحُ الغادي
حقاً ظفرت بأشلاء ابن عبَاد
بالحلم، بالعلم، بالنَعمى إذا اتصلت
بالخصب إن أجربوا، بالريَ للعبَادي
بالطَاعن، الضَارب، الرَامي إذا اقتتلوا
بالموت أحمر، بالضَرغاجة العادي
بالدَهر في نِقَمٍ، بالبحر في نِعَمٍ
بالبدر في ظُلمٍ، بالصَدر في النادي
نعم، هو الحقَُ وافاني به قدرٌ
من السماء، فوافاني لميعاد
ولم أكن قبل ذاك النعش أعلمُه
أنَ الجبال تهادى فوق أعواد
كفاك فارفُق بما استودعت من نجومٍ
روَاك كُلُ قطوبُ البرق رعَاد
يبكي أخاه الذي غيَبت وابله
تحت الصفيح، بدمع رائح غادي
حتى يجودك دمعُ الطلَ منهمراً
من أعين الزهرُ لم تبخل بإسعاد
ولا تزال صلواتُ الله دائمةً
على دفينك لا تُحص بتعداد
والمعتمد رحمه الله، يشترك ةمع أبي فراس الحمداني في المناجاة والوحدانية، فكلاهما عاش هذه التجربة، فكان شعرهما صادق العاطفة.
وقال يرثي ولديه، وفيها يشير إلى قتل إبنه أبي عمر وسراج الدولة، يقول :
يقولون صبراً لا سبيل إلى الصبر
سأبكي، وأبكي ما تطاول من عمري
هوى الكوكبان: الفتحُ ثم شقيقُه
يزيدُ، فهل عند الكواكب من خُبر
نرى زُهرها في مأتمٍ كل ليلةٍ
تُخَمشُ لهفاً وسطه صفحةُ البدر
ينُحن على نجمين، أُثكلت ذا و ذا
وأصبر! ما للقلب في الصَبر من عُذر
مدى الدَهر فليبك الغمامُ مصابه
بعيونه يُعذر في البكاء مدى الدَهر
بعين سحابٍ واكفٍ قطرُ دمعها
على كلَ قبر حلَ فيه أخو القطر
وبرقٍ ذكيَ النار حتى كأنما
يُسعَر مما في فؤادي من الجمر
أفتحُ، لقد فتَحت لي باب رحمةٍ
كما بيزيدَ، اللُه قد زاد فيَ أجري
هوى بكما المقدار عنَى، ولم أمت
وأدعى وفياً، قد نكفتُ ٍلى الغدر
تولَيتما حين انتهت بكما العُلا
ٍلى غاية، كلَُ ٍالى غايةٍ يجري
فلو عُدتُما لا خترتُما العود في الثرى
إذ أنتُما أبصرتماني في الأسر
يُعيد على سمعي الحديد نشيده
ثقيلاً، فتبكي العينُ بالجشِّ والنَقر
معي الأخوات الهالكاتُ عليكما
وأمَكُما الثَكلى المضرَمةُ الصَدر
فتبكي بدمع ليس للقطر مثلُه
وتزجرُها التقوى فتُصغي ألى الزَجر
أُبا خالدٍ أورثتني الحُزن خالداً
أبا النَفير مُذ ودعت ودعني نصري
وقبلكُما قد أودع القلب حسرةً
تجدَُدُ طول الدهر، ثُكلُ أبي عمرو
وهكذا ينتهي عهد ملك الفروسيه والشعر بعد عزٍَ ورخاء إلى ذلٍَ وحسرة