الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن الرقية بالقرآن الكريم واردة عن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام بصور متعددة، وينبغي على المرء أن ينظر ما يناسب الحال فيطبق ذلك، وهذا إما سبيله النظر إلى ما ورد من الأسباب في الأحاديث، أو النظر إلى التجربة والبرهان.
والقرآن كله شفاء، إلا أن بعضه أكثر تأثيراً من بعض؛ كما أن بعضه أفضل من بعض -على ضوء معتقد أهل السنة والجماعة-.
والأصل في كيفية الرقية الشرعية، الذي يظهر-والله تعالى أعلم- أن الأمر فيها واسع مادام أنها من باب التطبب، إذا ثبت أصل مشروعيتها وهو الرقية، وثبتت صحة وسيلة هذا التطبب وهي قراءة شيء من القرآن الكريم.
وأذكر باختصار بعض الصور الواردة في الرقية الشرعية، ومنها:
أ-الرقية وحدها، بقراءة شيء من القرآن الكريم، أو ما ورد شرعا، أو صح معنى.
ب- النفث مع الرقية، ويدل لهذه الصورة قول عائشة-رضي الله عنها- : ((أن النبي-صلى الله عليه وسلم-كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما، فقرأ فيهما: {قل هو الله أحد}، و{قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ برب الناس}، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات)).
ت-التفل مع الرقية: ويستدل لهذه الكيفية بحديث أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه- في قصة اللديغ، وفيه: (فانطلق فجعل يتفل ويقرأ الحمد لله رب العالمين) وأقره الرسول-صلى الله عليه وسلم-على هذا، وفي رواية لمسلم: ((فجعل يقرأ أم القرآن، ويجمع بزاقه ويتفل فبرأ الرجل)).
ث- خلط بعض التراب مع الريق في الرقية؛ وهذا ورد في القروح والجروح ونحوه، كما في حديث عائشة-رضي الله عنها-أن النبي-صلى الله عليه وسلم-كان إذا اشتكى الإنسانُ الشيءَ منه، أو كانت به قَرحة أو جرح، قال: ((بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، ليُشفَى به سقيمُنا بإذن ربنا)).
ج-الرقية مع مسح الجسد باليد: وذلك بأن يضع يده على محل الوجع، أو أن يمسح بيديه على جسده، كما جاء ذلك مصرحا في حديث عائشة-رضي الله عنها- : ((أن النبي-صلى الله عليه وسلم-كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما، فقرأ فيهما {قل هو الله أحد}، و{قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ برب الناس}، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات))، وعنها-رضي الله عنها- : (أن النبي-صلى الله عليه وسلم-كان يعوذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى...).
ح-الرقية في الماء ثم شربه أو استعماله؛ بأن يقرأ في إناء به ماء، وينفث فيه، ثم يغتسل به المريض، أو يصب عليه، أو يشربه، أو يمسح به، ويستدل لهذا بما جاء عن علي-رضي الله عنه-قال: لدغت النبيَّ-صلى الله عليه وسلم-عقربٌ وهو يصلي، فلما فرغ، قال: ((لعن الله العقرب، لا تدع مصليا ولا غيره، ثم دعا بماء وملح فجعل يمسح عليها ويقرأ:{قل يا أيها الكافرون}و{قل أعوذ برب الفلق}، و{قل أعوذ برب الناس}))، وجاء عن النبي-صلى الله عليه وسلم-،(أنه دخل على ثابت بن قيس رضي الله عنه وهو مريض، فقال: ((اكشف البأس، رب الناس، عن ثابت بن قيس بن شماس)) ثم أخذ ترابا من بطحان فجعله في قدح، ثم نفث عليه بماء، وصبه عليه).
قال العلامة ابن باز-رحمه الله- :(التداوي بالقرآن الكريم والسدر ونحوه من الأدوية المباحة ليس من باب البدع، بل هو من باب التداوي...، وبهذا يعلم أن التداوي بالسدر، وبالقراءة في الماء وصبه على المريض ليس فيه محذور من جهة الشرع، إذا كانت القراءة سليمة، والدواء مباحا، والله ولي التوفيق).
خ- كتابة بعض الآيات من القرآن بالمداد والزعفران، ونحوهما من المباحات، ثم محوها وشربها وغسل البدن بها: عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: (إذا عسر على المرأة ولادتها فيكتب هاتين الآيتين والكلمات في صفحة، ثم تغسل فتسقى منها: بسم الله، لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون}.
وسئل الإمام أحمد عن الرجل يكتب القرآن في شيء ثم يغسله ويشربه؟ قال: أرجو أن لا يكون به بأس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- :(ويجوز أن يكتب للمصاب وغيره من المرضى شيئا من كتاب الله، وذكره بالمداد المباح، ويغسل ويسقى، كما نص على ذلك أحمد وغيره...).
وقال ابن القيم-رحمه الله- :(ورخص جماعة من السلف في كتابة بعض القرآن، وشربه، وجعل ذلك من الشفاء الذي جعل الله فيه).
ومادامت الرقية من باب التطبب فلا محظور في هذه الصورة شرعا-والله تعالى أعلم-خصوصا أن قراءته مشروعة للتطبب، وكتابته مشروعة مطلقا، وشرب الماء للاستشفاء مشروع، والاغتسال به مشروع، فلا دليل على المنع، والله أعلم بالصواب.
أخي الكريم: الرقية بالقرآن الكريم من المنافع العظيمة، والعبادات الجليلة التي يمكن أن يقوم بها المرء، فيرقي نفسه، ويفيد غيره، ومن ذلك قراءة المعوذات، والفاتحة، وغير ذلك، ولا يلزم قراءة شيء من هذا بعدد معين، وإنما هو بحسب الوسع، وبحسب ما علم به من النفع، والأصل قد ورد جوازه، وأما العدد فهو من باب التطبب فيدخل فيما يظنه الراقي أنه يكفي ويشفي، وقد أذن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-لأصحابه بالرقية عموما، ولم يقيد بعدد معين جميع الرقى، ولا بسورة معينة، وما ورد من تعيين بعض السُّوَر فإنما هو من قبيل بعض صور العام، ولا يعني ذلك التخصيص،-والله تعالى أعلم-.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
[المرجع: القرآن الكريم ومنـزلته بين السلف ومخالفيهم]
كتبه فضيلة الشيخ
الدكتور/ محمد هشام طاهري
http://www.fjr-aleman.com/vb/showthread.php?t=233