كان جبلة بن الأيهم آخر ملوك الغساسنه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. كتب إليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم
يدعوه إلى الإسلام فأسلم وكتب بإسلامه إلى رسول الله صلى الله عليهوسلم
وأهدى هدية، وبقي بأرضه إلى خلافة عمر رضي الله عنه، وقيل: بل بقى على
الكفر إلى زمن عمر فأسلم.
قال صاحب زبدة الفكر: ثم كتب إلى عمر رضي الله عنه يستأذنه في الحضور، فأذن له
فحضر. فأكرم نزله، وأقام بالمدينة إلى زمن الحج، فخرج عمررضي الله عنه من المدينة حاجّاً فخرج
معه فحج، وطاف بالبيت، فوطئ إزاره رجل من فزارة فانحل، فرفع جبلة يده فلطمه
فهشم أنفه، فاستعدى عليه عمر- رضي الله عنه- فقال له: إما أن تُرضي الرجل وإما أن
أقيده منك، فقال جبلة: فيُصنع بي ماذا? قال: يهشم أنفك كما فعلت به. قال: كيف يا أمير
المؤمنين وأنا ملك وهو سوقة! قال: الإسلام جمعك وإياه. قال جبلة: قد ظننت يا أمير
المؤمنين أني أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية. فقال: دع عنك هذا إن لم ترضه،
وإلا أقدته منك قال: إذن أتنصر. قال: إن تنصرت ضربت عنقك. فلما رأى جبلة منه ذلك،
قال: أمهلني الليلة حتى أنظر، فأمهله، فلما كان الليل تحمل هو وأصحابه بخيله ورجله
إلى الشام على طريق الساحل، ثم سار في خمسمائة من قومه حتى القسطنطينية
فدخل على هرقل فتنصر هو وقومه، فسُر بذلك وظن أنه فتح من الفتوح عظيم، وأقطعه
ما شاء وزوَّجه بنته، وقاسمه ملكه وجعله من سُماره
.
ثم إن عمررضي الله عنه كتب كتاباً إلى هرقل يتعلق بالمسلمين وبعثه مع كنانة بن مُساحق الكناني.
فقدم به على هرقل، فأجاب عمررضي الله عنه إلى قصده، فلما عزم على الرجوع إلى عمر، قال له
هرقل: هل لقيت ابن عمك جبلة? قال: لا. قال: فالقه. قال: فأتيت باب جبلة فرأيت عليه
من البهجة والخدم ما لم أره على باب الملك، فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت عليه،
فقام فاعتنقني وعاتبني في تركي النزول عليه وإذا هو في بهو عظيم على سرير من
ذهب، وحوله من التماثيل ما لم أُحسن وصفه، فأمرني أن أجلس على كرسي من
ذهب. فأبيت وقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نجلس على مثل هذا.
ثم سألني عن عمررضي الله تعالى عنه والمسلمين، وألحف في المسألة، فظهر على وجهه آثار الحزن،
قلت: فما يمنعك من الإسلام? قال: بعد الذي كان? قلت: نعم. فقال: دع عنك هذا، ثم
وضع أمامنا مائدة من ذهب، فقلت: لا آكل عليها. فوضع أمامي مائدة من خَلَنْج. فآكلني؛
ثم أتى بصحاف من ذهب يُدار فيها الخمر، فاستعفيت من ذلك، ثم غسل يده في طست
من ذهب، ثم استدعى بجوار عشر، فجلس خمس منهن عن يمينه وخمس عن يساره
على كراسي الذهب، وأقبلت جارية وفي يدها اليمنى جام من ذهب فيه طائر أبيض،
وفي الجام مسك وعنبر سَحيق، وفي يدها اليسرى جام آخر لم أر مثله، فنفَّرت الطائر
فتقلب في الجام، ثم انتقل إلى الجام الآخر، ثم طار فسقط على صليب في تاج جبلة، ثم
حرك جناحيه فنثر ذلك المسك على رأس جبلة ولحيته، ثم شرب أقداحاً واستهل
واستبشر، ثم قال للجواري: أطربنني، فخفقن بعيدانهنّ واندفعن يغنين هذه الأبيات:
لله دَرُّ عصابة نـادمـتُـهـم.............. يوماً يجلّق في الزمـان الأَولِ
أولاد جفنة حول قبر أبـيهـم.......... قبر ابن مارية الكريم المُفضل
يَسقون مَن وَرد البَريص عليهمُ ................ راحاً تُصَفَّقُ بالرَّحيق السَّلسل
بيضُ الوجوه كريمة أحسابهـم ................ شُم الأنوف من الطَراز الأول
يُغشَون حتى ما تَهر كلابـهـم............ لا يسألون عن السَّواد المُقبـل
فطرب ثم قال: أتعرف لمن هذا الشعر? قلت: لا، قال: لحسان بن ثابت، فينا وفي ملكنا.
ثم قال للجواري: ابكينني. فوضعن عيدانهن ونكسن رؤوسهن وغنّين:
تنصَّرت الأشراف من عار لَطـمة ................ وما كان فيها لو صبرتُ لها ضَررْ
تكنّفني منهـا لَـجـاج ونَـخـوة............ وبِعت لها العَين الصحيحة بالعور
فيا ليت أُمِّي لم تلدنـي ولـيتـنـي ................ رجعتُ إلى القول الذي قاله عمر
ويا ليتني أَرعى المَخاض بقَـفْـرة ................ وكنتُ أسيراً في ربيعة أو مُضـر
أَدين بما دانـوا بـه مـن شَـريعة........... وقد يصْبر العَوْد الكبير على الدَّبر
وانصرف الجواري فوضع وجهه على كمه وبكى حتى نظرت دموعه على خديه كأنها اللؤلؤ
الرطب وبكيت معه رحمة له، فقال: يا جارية، هاتي خمسمائة دينار هرقلية. فأتت بها.
فقال: خذ هذه صلة لك. فقلت: لا أقبل صلة رجل ارتد عن الإسلام. فقال: اقر على عمر
مني السلام. فلما تقدمت على عمر رضي الله تعالى عنه ذكرت ذلك له، فقال:
قاتله الله! باع باقياً بفانٍ.
أخوكم
محمد المسعري