قال تعالى: “يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً، وحناناً من لدُنا وزكاةً وكان تقياً، وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً، وسلامٌ عليه يوم وُلد ويوم يموت ويوم يُبعث حياً” (مريم 12-15)
بَينتُ في المقالة السابقة أن زكريا عليه السلام لم يطلب الآية الدالة على حمل امرأته ليطمئن الى تحقق البشارة، لأن ربه سبحانه وعده بها، والوعد بمثابة تحقيق للبشارة ووقوع لها، وهذا أقوى من إظهار الآية وأبلغ. وأشرت الى أنه عليه السلام إنما طلب العلامة على وجود الولد بعدما بَشره الله به، ليبادر الى الشكر ويجتهد في الذكر والعبادة وفاءً لحق البشارة.
وقد رجحت الرأي القائل إن آية حبس لسانه عن كلام الناس مع القدرة على ذكر الله وتسبيحه إنما كانت اضطراراً وعجزاً لا اختياراً واستطاعة، وقد سُقت الأدلة لترجيح هذا الرأي.
وإنما حُبِس لسان زكريا عن كلام الناس ثلاثة أيام بلياليهن ليخلص الى ذكر ربه، ولينقطع طول المدة الى الشكر والتسبيح، لأنه طلب الآية من أجل ذلك.
وقد دل الحال في قوله سبحانه “.. ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً” على أن لسانه قد اعتقل عن الكلام مع الناس من غير علة ولا مرض.
ولكن كيف كانت وسيلة تفاهم زكريا عليه السلام مع قومه؟ يُبَين هذا قوله تعالى في سورة آل عمران “آيتُك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا”.
والرمز هو: الإيماء بالشفتين أو العينين أو الحاجبين أو اليدين وقوله “رمزا” استثناء منقطع، لأن الرمز من غير جنس الكلام المستثنى منه.
وأراد زكريا عليه السلام أن يعيش قومه معه في ذلكم الجو الروحاني الخالص، وليشاركوه في شكر الله تعالى “فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرةً وعشياً”.
والمراد بقوله: “فأوحى إليهم..” أومأ وأشار، لأن لسانه كما علمتَ كان محبوساً عن الكلام مع الناس.
وقوله “بكرة وعشياً” ظرفا زمان للتسبيح. وقيل: المراد بهما صلاة الفجر وصلاة العصر، وهذا يدل على فضيلة الذكر والتسبيح في هذين الوقتين الشريفين.
وبهذا يسدل الستار على قصة زكريا عليه السلام ذلكم النبي الكريم الذي عشنا معه على مدار خمس مقالات كاملة. وكعادة القصص القرآني فإنه لا يقف أمام الجزئيات والأحداث الصغيرة، وإنما يهتم بالأحداث المهمة، والمشاهد المؤثرة، ولذلك فإن السياق القرآني ينتقل للحديث عن يحيى عليه السلام ولكنه يطوي الحديث عن ولادته وطفولته، قال تعالى: “يا يحيى خذ الكتاب بقوة، وآتيناه الحكم صبياً”. وترى في هذا الطي مسارعة الى الإخبار بإنجاز الوعد الكريم وتحققه.
معنى “الحكم”
وبَدْءُ الحديث عن يحيى عليه السلام بذلكم النداء القدسي الرباني “يا يحيى”، يدل على مكانته عند ربه، وعلى استجابة الله لدعاء زكريا عليه السلام أن يهبه الولي الصالح من ذريته. وفي جملة النداء تكليف إلهي ليحيى عليه السلام “يا يحيى خذ الكتاب بقوة” والمراد بالكتاب: التوراة فقد أمِرَ يحيى عليه السلام بأن يتفهم التوراة ويتدبرها وهذا هو معنى الأخذ وأن يعمل بها في عزيمة وثبات واجتهاد وصبر وإرادة.
والمراد بالأخذ: الأخذ المعنوي لا الأخذ الحسي، وعلى هذا ففي اللفظ استعارة حيث شبه الأخذ الحسي بالأخذ المعنوي.
وقد أكد هذا المعنى بقوله: “بقوة” والمراد القوة المعنوية أي بعزيمة وثبات وعدم تهاون. والباء هنا للملابسة، وفيها التأكيد على وجوب العمل بأحكام التوراة والثبات على ذلك في عزيمة وإصرار.
وقد اختلفت الآراء في تفسير معنى “الحُكْم” في قوله تعالى: “وآتيناه الحكم صبياً” فقيل المراد: الحِكْمة، وقيل العِلْم، وقيل: النبوة، وقيل: الفهم للتوراة، ولا أرى تعارضاً في الجمع بين كل تلك المعاني التي تدل على آية الله تعالى في يحيى، فالصبي الذي يُوهَب كل تلك الصفات التي تستلزم استحكام العقل الذي يتحقق ببلوغ الرشد، وعلى الرغم من ذلك تتأتى له أو توهب، كدليل دامغ على كمال القدرة الإلهية. فكما أن يحيى جاء خَلْقُه فَذاً، وكان اسمه فَذاً، فكذلك كان فَذاً في إيتائه النبوة صبياً وما يستتبعها من علم وحكمة وفهم وفطنة واستحكام عقل، فالذي وهبه ذلك هو القادر سبحانه ولذا كان من الملائم التعبير بنون العظمة في قوله تعالى “وآتيناه”. نعم، إنها القدرة الإلهية تلك التي جمعت لصبي من الخلال وما جبلته عليه من الصفات ما لا تتأتى في العادة لبشر إلا متأخرة، وتلك خارقة كما أحسبها والله أعلم خص الله تعالى بها يحيى عليه السلام.
ومن أجل المعنى السابق الذي يدل على عظمة القدرة الإلهية أوثرت مادة الإتيان في قوله سبحانه “.. وآتيناه”، لأنها تدل على اليسر والسهولة كما قلنا غير مرة.
التكليف قبل التشريف
وتُسْرَد بعد ذلك صفات يحيى عليه السلام قال تعالى: “وآتيناه الحكم صبياً، وحناناً من لدُنا وزكاة وكان تقياً، وبَراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً، وسلامٌ عليه يوم وُلِد ويوم يموت ويوم يبعث حياً”. وقد عَن في نفسي سؤال وأنا أكتب هذه السطور هو: لماذا لم يتقدم الحديث عن تلك المؤهلات العظيمة ليحيى عليه السلام على الأمر بتكليفه في قوله سبحانه “يا يحيى خذ الكتاب بقوة”؟
وألهمني ربي الإجابة عن هذا السؤال وهي: أن الله تعالى قَدم أمر التكليف له على صفات التشريف استجابة لدعوة نبيه زكريا عليه السلام حيث كان يريد ولداً من صلبه يتحمل أمانة العلم والحكمة من بعده ويرثه في ذلك، ولذا كان الأهم في هذا المقام أن يبدأ الحديث عن يحيى عليه السلام بندائه وتكليفه ليحمل عبء الدعوة والنبوة، للإشارة الى أنه ما خُلِق إلا لتحقيق تلك الغاية، وما كان دعاء أبيه بأن يُرزَق به إلا من أجل تحمّل تلك الأمانة العظيمة، ولذا كان من الملائم تقديم هذا التكليف الإلهي ليحيى عليه السلام. والله أعلم بمراده وقد رُوي أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعب، فقال: ما لِلعِب خُلِقت. وهذه الرواية تؤيد تأويلي.
وبقي في هذا الصدد أن أشير الى أن قوله تعالى: “صبياً” وقع حالاً من الضمير المنصوب (الهاء) في قوله “وآتيناه” وهذا القيد أي الحال عَين الآية الخارقة في يحيى عليه السلام فالصبي: هو الصغير دون الغلام، أو من لم يُفطم بعد.
تخيل أخي القارئ طفلاً صغيراً لم يتجاوز عمره السنوات الثلاث كما قال مقاتل يؤتى النبوة والحكمة والعلم والفهم والتأويل! أليس هذا إعجازاً؟ ألا ينطق هذا بالقدرة المطلقة ولو قيل مثلاً: وآتيناه الحكم، من دون ذكر “صبياً” لما كان هناك وجه للإعجاز. ألم أقل لك من قبل في مقالات سابقة: إن ذلك العصر عصر مريم وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام كان عصراً كثرت فيه الخوارق والمعجزات كي تصحح المفاهيم التي كانت سائدة فيه من حتمية ارتباط الأسباب بمسبباتها؟!
وقد يقول قائل: إن النبوة تكون عند سن الأربعين كما نُبئ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأقول: إن إعطاء النبوة ليحيى عليه السلام في سن صغيرة حال صباه خصوصية له عليه السلام كما أن النبوة تقوم على خرق العادات، وبهذا لا تمتنع صيرورة الصبي نبياً. (ولعل الله تعالى لما أراد أن يكون شهيداً في مقتبل عمره بَاكَرَه بالنبوة).
الحنان والتقوى
ولنتأمل الآن صفاته عليه السلام كما وردت في الآيات الكريمة. فقد وُصِف يحيى بصفات جليلة عدة منها: الحنان في قوله سبحانه “وحناناً من لدُنا” والحنان: أصله من الحنين وهو الارتياح والجزع للفراق، ويقال: حنين الناقة وهو صوتها إذا اشتاقت الى ولدها. والحنان في الجملة القرآنية فيه تأويلان: أحدهما أن يُجعل صفة لله، والتقدير: وآتيناه الحكم حناناً أي رحمة منا. وثانيهما: أن يجعل صفة ليحيى عليه السلام، والتقدير: وآتيناه شفقة ورأفة ورفقاً بمعاملة الناس ورحمة بهم.
وأميل الى التفسير الثاني، لأنه يتناسب مع بقية صفات المدح التي تعود على يحيى عليه السلام بلا ريب.
وفي جعل حنانه عليه السلام من لدن الله تعالى إشارة الى أنه متجاوز المعتاد بين الناس؛ لذا فالتنكير في الآية “وحناناً” للتعظيم، وقد تتابع تفخيمان على هذه الصفة: تفخيم بالإضافة أو الإشارة الى كونه من الله تعالى، وتفخيم ذاتي أفاده التنوين كما قلت.
والصفة الثانية التي وُصِف بها يحيى عليه السلام: الطهارة. قال تعالى: “وزكاةً” والمقصود الطهارة في القلب والأقوال والأفعال، والطهارة من الدنس والآثام.
والصفة الثالثة من صفات يحيى عليه السلام هي: التقوى. قال تعالى: “وكان تقياً”، فقد كان عليه السلام مطيعاً لله تعالى متجنباً المعاصي، وروي أنه عليه السلام لم يَهِمّ بمعصية قط صغيرة ولا كبيرة. وقال مجاهد: كان طعامه العُشْب المباح، وكان للدمع في خديه مجارٍ بائنة. والتعبير بالكون (أي فعل كان) في قوله سبحانه: “وكان تقياً” فيه دلالة على رسوخ وصف التقوى فيه عليه السلام. فما أكرم ذلكم النبي التقي النقي الطاهر الذي جُبِلَ على أكمل الصفات البشرية وأعلاها؟
بر الوالدين
ولقد تحققت في يحيى عليه السلام أمنية أبيه ولذا قال تعالى: “وبَراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً”، وهذان وصفان آخران له عليه السلام وعُطِفَ بره بوالديه على كونه تقياً، للدلالة على تمكنه من هذا الوصف أي بر والديه، فلم يشقيا به بل سَعِدا كل السعادة وقرت أعينهما به لأنه كان شديد البر بهما، ولا عجب في ذلك، ألم يطلب والده زكريا عليه السلام وهو الذي لم يخيب ربه رجاءه أن يوهب ولياً من لدنه سبحانه فاستجاب الله دعاءه فوهبه ذلكم الولد الصالح الذي فُطِر على صفات الكمال الإنساني فكانت جِبِلة له وطبعاً؟ وتُختم نعوت يحيى بقوله تعالى: “ولم يكن جباراً عصياً” فهو عليه السلام لم يتجبّر على أحد من خلق الله ولم يستكبر عليهم بل كان متواضعاً لين الجانب، خَفِضَ الجناح. والجبار: هو المستخف بالناس، المستطيل عليهم بسلطانه وجبروته أو بقوته، والوصف مشتقّ من الجَبْر وهو القَسْر والغَصْب، فالجبار يهضم حقوق الآخرين ويغتصبها. وَوَصْفُ الجبار بأنه عصي وصفٌ كاشف عن نفسية كل متكبر جبار وعن سلوكه، فالجبار عَصِي، لأنه يعصي بالبُعْد عن حب الناس وتقديرهم، ولأنه يعصي بعداوتهم، ويعصي بظلمه، والأدهى والأمرّ أنه يعصي بظلم عباد الله فيشقى بغضب الله عليه. ونعود الى الوصف القرآني لنبي الله يحيى عليه السلام بقوله تعالى: “ولم يكن جباراً عصياً” والتعبير بفعل كان المنفي بلم الدال على الماضي يدل على أن يحيى عليه السلام لم يكن جِبِلة ولا طبعاً من الجبابرة العصاة.
والعَصِي: على وزن فعيل، ومن صيغ المبالغة.
وقد يسأل سائل متخصص فيقول: إن صيغة المبالغة تدل على كثرة العصيان، ونفي كثرة العصيان لا يدل على نفي العصيان نفسه؛ لذا ألم يكن من الأنسب أن يقال: ولم يكن جباراً عاصياً؟! وهذا سؤال وجيه، والإجابة عنه يسيرة جداً هي أن المراد المبالغة في النفي أي نفي العصيان، وليست المبالغة منصرفة الى المنفي أي ليس المراد نفي كثرة عصيانه كما يتوهم، والمعنى بناء على تأويلنا السابق: أنه عليه السلام لم يكن عاصياً بالمرة، وهذا عين المراد بالمبالغة في النفي. وأشير هنا الى أن هناك أسئلة قد تثار في نفس المتأمل لكتاب الله ويريد أن يعرف الإجابة عنها ليزداد يقيناً. وقد يثير أعداء الإسلام أمثال تلك الأسئلة ليشككوا الناس في قرآنهم ولا شك في أن إثارة مثل تلك التساؤلات والإجابة عنها بتوفيق من الله فيه نفع للجميع.
تحية إلهية
ولنعد سريعاً لنسمع تلك التحية الإلهية لعبده ونبيه يحيى بن زكريا عليهما السلام قال تعالى: “وسلام عليه يوم وُلِدَ ويوم يموت ويوم يبعث حياً” وقد فسر جمعٌ من المفسرين السلام هنا بالأمان، وذُكرت أحواله الثلاثة في الآية التي ينال فيها عليه السلام الأمن وهي “يوم ولد” فقد أمن من أن يناله شيطان بما ينال به بني آدم، “ويوم يموت” أي أمان عليه من عذاب القبر، “ويوم يبعث حياً” أي أمان عليه من عذاب القيامة.
وأنا أميل الى الرأي القائل إن المراد بالسلام التحية المتعارفة والتشريف بها، لكونها من الله تعالى في المواطِن التي يكون فيها العبد في غاية الضعف وقلة الحيلة والفقر الى الله تعالى، والتحية أشرف من الأمان، لأن الأمان متحصل له عليه السلام بنفي العصيان عنه، وهي أقل درجاته. وعلى كلّ فذكر الأحوال الثلاثة كناية عن العناية الإلهية به عليه السلام وأوثر التعبير بالفعل المضارع “يوم يموت” بدلاً من الماضي؛ لاستحضار الحالة التي مات فيه وإنما قال تعالى: “حياً” تنبيهاً على كونه عليه السلام من الشهداء، حيث مات عليه السلام مقتولاً غدراً وخيانة.
وبعد.. فذلكم هو الزاد الذي وهبه الله ليحيى عليه السلام في صباه، ليخلف أباه في تحمل عبء الدعوة والأمانة. (وهنا يسدل الستار على يحيى كما أسدل من قبل على زكريا، وقد رسم الخط الرئيسي في حياته وفي منهجه وفي اتجاهه. وبرزت العبرة من القصة في دعاء زكريا واستجابة ربه له، وفي نداء يحيى وما زوده الله به، ولم يعد في تفصيلات القصة بعد ذلك ما يزيد شيئاً في عبرتها ومغزاها).
تقوى يحيى عليه السلام
الصفة الثالثة من صفات يحيى عليه السلام هي التقوى، قال تعالى: “وكان تقياً” فقد كان عليه السلام مطيعاً لله تعالى متجنباً المعاصي، وروي أنه عليه السلام لم يَهِمّ بمعصية قط صغيرة ولا كبيرة.
وقال مجاهد: كان طعامه العُشْب المباح، وكان للدمع في خدّيه مجارٍ بائنة. وكان التعبير بالكون (أي فعل كان) في قوله سبحانه: “وكان تقياً” فيه دلالة على رسوخ وصف التقوى فيه عليه السلام.