بسم الله الرحمن الرحيم
دوامة العمل ودوامة العباده
أخواني الأعزاء قرأت هذا الموضوع وأحببت أن أنقله لكم عسي أن نستفيد من محتواه.
مع ارتفاع الأسعار، وقلة الدخول، وكثرة متطلبات الحياة، يضطر الإنسان إلى العمل ليل نهار، والتواجد في أكثر من محل عمل على مدار اليوم، لكي يسد احتياجاته، وربما احتياجات أسرته، ولا يرى في أعين أبنائه ذل السؤال.
وفي المقابل، هناك نماذج أخرى من العاملين، لا يأخذهم العمل بسبب الاحتياج للمادة، ولكن طبيعة عملهم ذاتها تقتضي العمل لساعات طويلة، مثل الضابط والجراح والإعلامي، وآخرون يلهثون وراء جمع المال، وجعلوا من الدنيا أكبر همهم، ومبلغ علمهم.
ويشعر البعض ممن دفعتهم ظروفهم إلى العمل لساعات متواصلة؛ إلى الشعور بالذنب والتقصير تجاه حقوق الله والنفس والأرحام، فلا يكاد يجد الوقت الذي يخلو فيه لربه، ولا يستطيع التواصل اجتماعيًّا مع الناس، ولا حتى الاسترخاء والراحة.. فكيف يمكن التوازن بين العمل والعبادة؟
تكسُّبٌ وثواب
في البداية، يجب ألا ننظر إلى العمل على أنه للتكسب فقط، إذ يظن كثيرون أن العمل شيء عادي بعيدا عن العبادة، وهذا خطأ.. فالعمل عبادة يثاب عليها فاعلها، ويؤجر عليها يقول تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:105].
لذلك حثنا ديننا الحنيف على العمل والاجتهاد وذم التكاسل والمتكاسلين، فلا بد للمسلم أن يجتهد ما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ دونما أن يكلف نفسه فوق طاقتها، داعيا الله أن يقوي ظهره ويوفقه لنيل الرزق.
وفيما رواه الطبراني أنه قد مرَّ رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فرأى الصحابة جده واجتهاده ونشاطه، فقالوا: "يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله". فقال صلى الله عليه وسلم: "إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يُعِفّها فهو في سبيل الله"؛ فهذا الساعي على أهله أو أولاده أو نفسه كالمجاهد في سبيل الله ما دام محسنا للنية قاصدا وجه الله تعالى.
إذن فلا بد من الأخذ بالأسباب والجد والاجتهاد والتحرك لنيل الرزق وكسب لقمة العيش، ولا يصح أبدا أن يقول قائل: "دي أرزاق، مش هتاخد إلا نصيبك، اجري يا بن آدم جري الوحوش غير رزقك مش هتحوش... إلخ" متكلاً على هذا الكلام، فعقيدتنا غير ذلك.
نعم هي أرزاق قدرها الله تعالى، ولكننا نُسأل عن السعي والأخذ بالأسباب ولا نُسأل عن نتيجة السعي، فالإنسان حيال طلب الرزق عليه أن يجتهد ويسعى، أما النتائج فعلى رب النتائج جل وعلا، فنحن مؤاخذون على تركنا الأسباب، ولسنا مسئولين عن النتائج، فلا بد من التوكل الصحيح مع الاستعانة بالله عز وجل ذِكْرًا ودعاءً؛ فهذا أيضا من الأسباب، وهذا ما يحول عملنا من عمل دنيوي إلى عبادة، نأخذ عليها أجرًا من الله عز وجل.
وللطاعة رزق
من الخطأ أن نعتقد أن مجرد العمل وحده هو السبب الوحيد للرزق، فهناك أسباب كثيرة تجلب الرزق إضافة إلى العمل لا بد أن يعرفها ويعيها كل مسلم، فالمعاملات بين الناس ومعاونة بعضهم بعضا، وصلة الرحم والبر بشتى صنوفه، كل هذه أشياء تبارك في الرزق والأجل، ويدفع الله بها عن الإنسان مصائب لا حصر لها ولا قبل له بها.
إن ذكر الله عز وجل مما يجلب للرزق، فالاستغفار يجلب الرزق ويفتح أبوابه مصداقا لقوله تعالى على لسان نبيه هود عليه السلام: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52].
وقال سبحانه على لسان نبيه نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10-12]، فلا بد من ذكر الله واستغفاره جلبا للبركة وطلبا للرزق.
روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما بلغه عن ربه جل وعلا: "يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأْ صدرك غِنًى، وأسد فقرك، وإن لم تفعلْ ملأت يدك شُغْلاً ولم أسد فقرك".
وهناك بعض الناس إذا أصابه بلاء أو وقعت له مصيبة؛ فإنه يلجأ إلى الناس دون خالقه؛ نظراً لأن ثقته بربه ضعيفة، ويلجأ إلى كل وسيلة، ويطرق كل باب وينسى قدرة مولاه وقوته؛ ولذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم الإكثار من قول "لا حول ولا قوة إلا بالله" دائما فإنها كنز من كنوز الجنة.
وقال عليه الصلاة والسلام: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا، وتروح بطانًا".
إن صلة الرحم تزيد في الرزق وتبارك في الأجل، وتجلب رضى الرب جل وعلا، ولقد هجر الناس هذه الأيام ذوي الأرحام -إلا مَنْ رحم ربي-، وأصبح الناس لا هم لهم إلا الدنيا والعمل، ولسان حالهم يقول "نفسي نفسي، الوقت ضيق، لا أحدٌ ينفع أحدًا"؛ فانعدمت بذلك البركة، وضاعت الألفة التي كانت تجلب رضى الرحمن جل وعلا.
روى أبو هريرة رضي الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سره أن يبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه" (رواه البخاري)؛ فلا بد إذن من صلة الرحم فإنها تجلب مرضاة الرب ورحمته جل وعلا.
لا بد أيضا من مساعدة الآخرين والوقوف بجوارهم؛ لأن ديننا الحنيف حثنا على ذلك وأمرنا بالمودة والتواصل فيما بيننا، ولا بد أن يشعر المسلم بأخيه المسلم ويهتم بأمره فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، فكما في الحديث "من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة"، "الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه"، فأين نحن من هذه المعاني السامية؟!
فعندما يعطف الغني على الفقير فيدعو اللهَ له بالبركة فتعم البركة ماله وولده ويعيش المجتمع في أمن وسلام، أما عندما يشح الأغنياء بمالهم ويمنعونه الفقراء فينتشر الحسد والحقد، وتزول البركة، وتنتشر الكراهية والسرقات، وينعدم الأمن والسلام، ويصبح الناس كأنهم في غابة؛ بسبب بعدهم عن أخلاقيات دينهم الحنيف، دين الأمن والسلام.
وأيضا فإن المسلم لا بد له أن يتوجه إلى ربه، ويعلم أن من أسباب الرزق دعاء الله تبارك وتعالى فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها"، قالوا: إذن نكثر الدعاء، قال: "الله أكثر". وقال: "إنه من لم يسأل الله تعالى يغضب عليه".
وقال عليه الصلاة والسلام: "أعجز الناس مَن عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام" فأين نحن من الدعاء؟!، فلا بد أن نكثر من الدعاء لأنا نحن الفقراء والله هو الغني.
مطالب المعيشة
دار حديث ذو شجون بين أحد سائقي التاكسيات وواحد من زبائنه، فقال السائق يشكو لهذا الزبون: "إنني ضقت ذرعا بالحياة، فقال له لماذا؟ قال: أعمل في ثلاث حرف (موظف من الصباح حتى الرابعة عصرا، ثم سائق تاكسي حتى الحادية عشرة ليلا، ثم أعود إلى بيتي فأعمل في إصلاح أجهزة الكومبيوتر)، ولا أكفي احتياجاتي فالحياة غالية والأسعار نار.
تخيل أنني عدت ذات مرة -برغم كل هذا- فوجدت ابني جالسًا على سريره يبكي فسألته ما يبكيك يا بني؟ قال جائع ولا يوجد طعام غير طبق مكرونة واحد تركته أمي لك كي تأكله عندما ترجع.
ثم دخلت على زوجتي فوجدتها في غرفة أخرى منهارة من البكاء لسوء حالنا وعدم وجود طعام بالبيت، فقلت لها قومي كلي أنت وابنك طبق المكرونة، فأنا أكلت –علما أنني لم أذق طعاما منذ الصباح- وذهبت للبلكونة، وجسلت وهممت بإلقاء نفسي من الدور السابع؛ عسى أن أموت فترزق هذه المسكينة وأولادها بمن يوسع عليهم"!!!
لا حول ولا قوة إلا بالله.. لقد هم هذا المسكين أن يموت على معصية الله من ضيق الحياة، فما الخلاص إذن وما النجاة؟؟
إنها طاعة الله عز وجل واتباع النهج القويم.. والدعاء بالبركة والتصدق وصلة الرحم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كل هذا يجلب رضى الله وبركته.
أدْوَمها وإن قل
والمدخل المناسب للتعامل مع ثقل أعباء العمل، وتهديدها للواجبات الدينية والعلاقات الاجتماعية، هو الاسترشاد بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل"..
فلابد من الحرص "الدائم" على العبادة والذكر والصلاة والقرآن "يوميًّا"، والسؤال على الأهل "دوريًّا"؛ وإن قلَّ الكم، وتم الاكتفاء بالفروض، لمحاولة التوازن بين حقوق الرب والبدن والأهل والضيف.
فلقد زار سلمان الفارسي -رضي الله عنه- أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة! فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا! فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا، فقال: كُلْ، قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل!
قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نَمْ، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نَمْ، فلما كان من آخر الليل، قال سلمانُ: قُمْ الآن فَصَلِيَا. وقال له سلمان: إن لربك عليك حقًّا ولنفسك عليك حقًّا ولأهلك عليك حقًّا فأعطِ كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق سلمان" (رواه البخاري).
فلا بد من التوازن في الحياة بين حق الرب والأهل والضيف والنفس، والعمل مع كل هذا مستعينين بالله تبارك وتعالى؛ فديننا يأمر بالاعتدال والوسطية مصداقا لقوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77].
ولا ننسى الحرص على الاعتدال والتوسط في الإنفاق والاستهلاك: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف:31)، وعدم الغرق في العمل بدافع التطلعات غير المحدودة.
وذلك يكون بتنمية القناعة والدوافع الداخلية، ودوام الرقابة الذاتية الإيمانية وزيادة الإيمان، والتخلص من الطمع وعدم الرضا.
وأضع معكم بعض الإرشادات التي يمكن الأخذ بها، للموازنة بين العمل والعبادة:
1 _ أداء الصلاة في أوقاتها (جماعة كلما تيسر)، والاستعداد الطيب لصلاة الجمعة (للرجال).
2 - تخصيص جدول عبادي خاص يوم الراحة، ومحاولة تجنب العمل فيه ليعطي الإنسان فيه لربه ونفسه وبيته ورحمه.
3 - ذِكْر الله تعالى في كل وقت وحين والمحافظة على الأذكار عمومًا، في الدخول والخروج من البيت... إلخ.
4 - التسمية قبل بدء العمل واستحضار النية.
قراءة ورد يومي من القرآن ولو ربع حزب كل يوم، والمحافظة على ذلك.
5 - الحرص على بر الوالدين وزيارتهما ولو مرة في الأسبوع، أو الاتصال بهما إذا كانا بعيدين.
6 - المحافظة على صلة الرحم بالتزاور والاتصال أو المراسلة؛ حسبما تتيسر الظروف.
7 - الترويح عن النفس ولو مرة في الشهر أو الأسبوع بالخروج وتغيير الجو كل حسب طاقته.
8 - المحافظة على الصدقة لو بالقليل، فمن لم يجد فليبتسم في وجه أخيه فهي صدقة.
9 - الحرص على الأخلاق الإسلامية عموما، ومحاولة نشرها كي يعم الخير.
10 - الحرص على التفوق والإنجاز وإتقان العمل كي يكون المسلم قدوة لإخوانه.
11 - محاولة التوازن في توزيع الحقوق التعبدية وحقوق العمل والبدن، وعدم ظلم الإنسان لنفسه ولا لأهله، وعدم طغيان جانب على آخر.
12 - عدم ظلم النفس وتحميلها فوق ما تطيق فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فليسع المسلم على قدر طاقته، فلن يأخذ غير ما كتبه الله له.
مع تمنياتي لكم بالتوفيق.....