حديث (لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام...).
وأما حديث "لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه"([10]). فهذا مقيد بأيام الصراع والحروب، لا بأيام الاستقرار والسلام، وقد كان بعض الصحابة يقرأ السلام على كل من لقيه من مسلم وغير مسلم، عملا بالأمر بإفشاء السلام.
وهل من المعقول أن يبيح الإسلام للمسلم الزواج بالمسيحية ولا يبيح له أن يسلم عليها؟ وهل يمنع الولد أن يسلم على أمه أو على خاله أو خالته أو جده أو جدته وقد أمره الله بصلة الرحم، وإيتاء ذي القربى؟!.
وحسبنا هذا النص القرآني العام المحكم: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8). فالقسط هو العدل، والبر هو الإحسان، وهو شيء فوق العدل. العدل: أن تعطي الحق، والبر أن تعطي فوق الحق، العدل: أن تأخذ مالك من حق، والبر: أن تتنازل عن بعض حقك أو عن حقك كله، وهذا ما رغب فيه القرآن في التعامل مع المسالمين من غير المسلمين.
إلقاء السلام على المسلمين وغير المسلمين:
أما إلقاء السلام على غير المسلمين فإن كانوا في مجلس يجمع بينهم وبين المسلمين خلاف في جواز من إلقاء السلام عليهم، وقد روى البخاري في صحيحه أن "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركب حمارا حتى مر على مجلس فيه أخلاط المسلمين والمشركين وعبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله بن أبي بن سلول، وفي المجلس ابن رواحة، فسلم عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم وقف فنزل..." ([11]).
وقد بوب البخاري لهذا الحديث بعنوان: "باب التسليم في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين".
وقال النووي: السنة إذا مر بمجلس فيه مسلم وكافر أن يسلم بلفظ التعميم ويقصد به المسلم([12]).
ابتداؤهم بالسلام إذا كانوا وحدهم:
وأما ابتداؤهم بالسلام إذا كانوا وحدهم فذهب جمع من السلف إلى جواز إلقاء السلام عليهم، واستدلوا بأدلة منها:
1. قوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8). ومن برهم: إلقاء السلام عليهم.
2. وقوله على لسان إبراهيم لأبيه: {سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} (مريم: 47).
3. وقوله تعالى آمرا نبيه: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ}([13]).
وذكر القرطبي أن عددًا من السلف فعل ذلك، ومنهم ابن مسعود، والحسن، والنخعي، وعمر بن عبد العزيز. كما ذكر ابن حجر في الفتح أن أبا أمامة، وابن عيينة فعلا ذلك أيضا.
ومما ورد أن ابن مسعود فعله مع دهقان صحبه في طريقه، فلما سئل: أليس يكره أن يبدؤوا بالسلام؟ قال: بلى، ولكن حق الصحبة.
وكان أبو أمامة إذا انصرف إلى بيته لا يمر بمسلم ولا نصراني، ولا صغير ولا كبير إلا سلّم عليه، فقيل له في ذلك، فقال: أمرنا أن نفشي السلام.
وسئل الأوزاعي عن مسلم مر بكافر فسلم عليه، فقال: إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون قبلك.
وقال أبو أمامة: إن الله جعل السلام تحية لأمتنا وأمانا لأهل ذمتنا([14]).
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عون بن عبد الله عن محمد بن كعب: أنه سأل عمر بن عبد العزيز عن ابتداء أهل الذمة بالسلام فقال: نرد عليهم ولا نبدؤهم. قال عون: فقلت له: فكيف تقول أنت؟ قال: ما أرى بأسا أن نبدأهم ([15]).
أما حديث مسلم: "لا تبدؤوا اليهود بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريقه فاضطروه إلى أضيقه"([16])، فهو مقيد بأيام الحرب، ويدل على ذلك ما رواه البخاري في الأدب المفرد والنسائي عن أبي بصرة أن رسول الله قال: "إني راكب غدًا إلى اليهود فلا تبدؤوهم بالسلام"([17]).
ويمكن القول بتأكيد الجواز إن كان هناك سبب يستدعي السلام كقرابة أو صحبة، أو جوار، أو سفر، أو حاجة، وقد ذكر القرطبي ذلك عن النخعي فقال مؤوِّلا حديث أبي هريرة "لا تبدؤوهم بالسلام": إذا كان بغير سبب يدعوكم إلى أن تبدؤهم بالسلام من قضاء ذمام أو حاجة تعرض لكم قبلهم، أو حق أو جوار، أو سفر([18]).
أما إذا كانت التحية بغير السلام فلا مانع منها، كأن يقول له صباح الخير، مرحبا، مساء الخير.
[10]) رواه مسلم في الأدب (2167) عن أبي هريرة.
([11]) رواه البخاري في الاستئذان (6254) عن أسامة بن زيد.
([12]) انظر: فتح الباري (11/47).
([13]) انظر: القرطبي (11/111، 112).
([14]) رواه الطبراني في الأوسط(3/ 298) وفي الصغير(1/ 135) والبيهقي في الشعب (6/ 436).وقال الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني عن شيخه بكر بن سهل الدمياطي ضعفه النسائي وقال غيره: مقارب الحديث (8/33).
([15]) راجع هذه النقول في القرطبي (11/11)، وفتح الباري (11/47).
([16]) رواه مسلم في الأدب (2167) عن أبي هريرة.
([17]) رواه البخاري في الأدب المفرد، وابن ماجه والنسائي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2464).
([18]) انظر: القرطبي (11/112).
نقلا عن موقع الشيخ يوسف القرضاوي