قال الشيخ بكر أبوز يد رحمه الله:
الإِشــارة:
ومن الحركات الجديدة: القول بالإِشارة بالسبابة حَالَ الجلوس بين السجدتين. ويُستدل لهذا بأَمرين:
الأَول: عموم الأَحاديث التي ورد فيها تحريك السبابة في الجلوس في الصلاة, في حديث وائل, وابن عمر, وابن الزبير – رضي الله عنهم -.
لكن قد جاءت روايات أخرى فيها تقييد بجلوس التشهد, فيحمل المطلق على المقيد. وقد نقل الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – ما استقرأَه ابن رُشيد – رحمه الله تعالى - بقوله(1 ): (إِذا أُطلق في الأَحاديث الجلوس في الصلاة من غير تقييد فالمراد به جلوس التشهد) انتهى.
ومن أَمثلة هذا في تراجم السُّنن: قول النسائي – رحمه الله تعالى -( 2): (باب موضع اليدين عند الجلوس للتشهد الأَول) فذكر تحته حديث وائل – رضي الله عنه – وليس فيه التصريح بلفظ ((الجلوس للتشهد)) ومع هذا فلم يَفْهم منه: الجلوس بين السجدتين. بل ترجم البيهقي – رحمه الله تعالى – بما يفيد قصر ((الإِشارة)) في التشهدين لا غير, فقال: (باب الدليل على أَن هذا سنة اليدين في التشهدين جميعاً) وساق بسنده عن عبد الله بن الزبير – رضي الله عنه – قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا جلس في ثنتين أَو في أَربع وضع يديه على ركبتيه ثم أَشار بإصبعه)): ((السنن الكبرى)): (2 / 132).
الثاني: في بعض طرق حديث وائل بن حجر – رضي الله عنه – ما نصه: ((رمقت النَّبِي صلى الله عليه وسلم فرفع يديه في الصلاة حين كَبَّرَ, ثم حين كَبَّر رفع يديه, ثم إِذا قال: سمع الله لمن حمده, ورفع.
قال: ثم جلس فافترش رجله اليسرى ثم وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى, وذراعه اليمنى على فخذه اليمنى, ثم أَشار بسبابته ووضع الإِبهام على الوسطى حَلَّقَ بها وقبض سائر أَصابعه, ثم سجد فكانت يداه حذو أُذنيه)). رواه عبد الرزاق في ((المصنف)): (2 / 68) وعنه أَحمد: (4 / 317), والطبراني في ((المعجم الكبير)): (22 / 33).
وابن القيم – رحمه الله تعالى – لما ساق رواية وائل – رضي الله عنه – في سياق هدي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في الجلوس بين السجدتين, استروح من هذا السياق بعض المعاصرين: أَن ابن القيم – رحمه الله تعالى – يقول بالإِشارة بين السجدتين.
وهذا غير مسلَّم به: فإِنَّه لم يصرح بهذا على عادته, وإِنما اقتصر على ذكر لفظ الرواي, ثم قال( 3): (هكذا قال وائل بن حجر عنه). ففيه إِشارة إِلى أَن في النفس شيء منه. ولهذا ساق مرة أَخرى في: سياق هدي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في الجلوس الأَول للتشهد, وقال مشيراً إليه: (كما تقدم في حديثِ وائل بن حُجْر) ففي هذا إِلماح إِلى أَن هذا هو محل الإِشارة. ولهذا أَيضاً فإِنه لما ساق هدي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في التشهد الأَخير: ذكر حديث وائل, وقال: (وهو في السنن). فنسبة القول بالتحريك بين السجدتين إِلى ابن القيم غلط عليه.
وهذه الرواية لو كانت هي السياق الوحيد لحديث وائل – رضي الله عنه – ثم لم يخالفه الآخرون الذين وصفوا صلاة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ لكانت دلالتها على الإِشارة بالسبابة بين السجدتين ظاهرة, وَلَرأَيْتَ تَسَابُقَ العلماء إِلى القول بها, وَعَقْدَ التَّرَاجِمِ على مشروعيتها, وجريان عمل المسلمين بها, لكن كل ذلك لم يكن؟ فإِن جميع روايات حديث وائل على خلافها, والذين وصفوا صلاة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم من غير وائل على خلافها, فجميع أَلفاظهم بين الإِطلاق والتقييد في جلوس التشهد.
ولم يصرح بمشروعية الإِشارة بين السجدتين أَحد من علماء السلف, وَلَمْ تُعْقد أَي ترجمة على مقتضاها, وعمل المسلمين المتوارث على عدم الإِشارة والتحريك بين السجدتين, فهي من الروايات التي تواطأَ المسلمون على عدم العمل بها؟ إِما لضعفها أَو لأَنها على خلاف ظاهرها في الترتيب الحكمي.
• أَما ضعفها: فقد أَشار إِليه البيهقي – رحمه الله تعالى – في: ((السنن الكبرى)): (2 / 131) فقال: (باب ما رُوي في تحليق الوسطى بالإِبهام) وساق بسنده حديث وائل – رضي الله عنه – ثم قال: (ونختار ما روينا في حديث ابن عمر, ثم ما روينا في حديث ابن الزبير؛ لثبوت خبرهما, وقوة إسناده, ومزية رجاله, ورجاحتهم في الفضل على: عاصم بن كليب, وبالله التوفيق) انتهى.
وفي ((شرح الأَذكار)) لابن علان: (1 / 255): (والظاهر أَن لفظ ((بيمينه)) مدرج من الراوي إِذ ليس في الأُصول مذكوراً) ثم ذكر رفعه.
وقد قرر الشيخان ابن باز والأَلباني(4 ) أَن رواية عبد الرزاق هذه عن الثوري عن عاصم به: تفرد بها عبد الرزاق عن الثوري, مخالفاً محمد بن يوسف الفريابي وكان ملازماً للثوري, فلم يذكر السجود المذكور – في آخر الحديث – وقد تابع محمداً: عبد الله بن الوليد, فهذه الزيادة في آخر الحديث: ((ثم سجد. . .)) من أَوهام عبد الرزاق – رحمه الله تعالى – وأَن الروايات مطبقة على أَن الإِشارة في جلوس التشهد الأَول والثاني.
• توجيههـا: لكن الحكم بالشذوذ يأْتي على قواعد المحدِّثين(5 ) إِذا تعذر توجيه الرواية بما يتفق مع رواية بقية الثقات, من غير تعسف ولا مناكدة, وتوجيه هذه اللفظة في آخر الرواية: ((ثم سجد)) ظاهر بما يتفق مع بقية الروايات التي تُحدد مكان الإِشارة بالإِصبع في جلوس التشهد الأَول والثاني فقط.
• بيانــه: إِذا علمنا من هدي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الراتب في الصلاة: الإِشارة بالسبابة في التشهدين حَسْبُ, ومنها الروايات الكثيرة لحديث وائل – رضي الله عنه – فإِن هذه الرواية عنه من طريق عبد الرزاق, عن الثوري, عن عاصم به: تلتقي معها على التوجيه التالي: أَن هذا الحرف ((ثم)) يكون للترتيب الذكري, فَيَأْتي بمعنى الواو, وليس دائماً مفيداً للترتيب في الذكر والحكم معاً, وهذا مَعْنىً جَارٍ في لسان العرب, ويقرره النحاة كابن هاشم( 6), وغيره – رحمهم الله تعالى -, وهو معلوم بحثاً في كتب: ((أُصول الفقه)) وفي ((مصطلح الحديث)) يبحثون حُكم تقديم بعض المتن على بعض, كما في: ((فتح المغيث)) للسخاوي: (3 / 196- 198) وغيره.
وعلى هذا المعنى: (جاء هذا الحرف ((ثم)) في القرآن الكريم للترتيب الذكري من غير اعتبار التراخي والمهملة, فلا تفيد أَن الثاني بعد الأَول, بل ربما يكون قبله)( 7).
ومما نحن فيه: حديث وائل بن حُجر – رضي الله عنه – في صفة صلاة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فأَقول: معلوم أَن حديث وائل – رضي الله عنه – لم يأْت جميعه في سياق واحد, بل هو كالشأْن في أَحاديث غيره ممن وصفوا صلاة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تعددت طرقه, وتنوعت مخارجه, فبعضهم اختصر وبعضهم طَوَّلَ, حسب مقتضياتٍ معلومة من أُصول الرواية وَطُرقها, في تقطيع الحديث الواحد وتجزئته.
بل إِن حديث الواحد منهم في وصف صلاة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هو كما قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى -( 8): (إِن السنن المتفق عليها لم يستوعبها كل واحد ممن وصف صلاته صلى الله عليه وسلم وإِنما أُخذ مجموعها عن مجموعهم) انتهى.
ولهذا فإِن الحسنات التي يُسديها العالم بالحديث إِلى المسلمين: تجميع طرق الحديث الواحد, وسياق متونها الثابتة مساقاً واحداً مع بيان مخرج كل لفظ منها, والتنبيه على ما لا يصح منها.
ومن المقصود الأَعظم فيها: وصف الهيئة في الركن الواحد من أَركان الصلاة, كوصف القيام, ووصف السجود . . . أَو ذكر مواطن الصفة الواحدة فيها, مثل: ((رفع اليدين)) ).
وهكذا مما لا يعني قصد الترتيب الحكمي في كل سياق على كل حال؛ لأَنه معلوم متوارث. ومنه في رواية عبد الرزاق هذه محل الإِشكال, ففيها أَمران ظاهران:
الأَول: الاختصار والاقتصاد على وصف ثلاث هيآت في الصلاة:
1- مواضع الرفع.
2- صفة الجلوس ولم يحدد.
3- صفة السجود.
والثاني: أن حرف العطف ((ثم)) غير مراد به الترتيب الحكمي بل الترتيب الذكري, ويقال: الإِخباري, ويقال: ترتيب اللفظ, بدليل أَنه تخلل ما قبلها في السياق أَقوال وأَفعال لم تذكر, ومنها ((السجدة الأُولى)) لم تذكر في هذا السياق, فهو يريد ((وصف مطلق السجود)) لأَن هيئته واحدة سواء كانت السجدة الأُولى أَم الثانية, وهذا ظاهر, والحمد لله رب العالمين.
وهذا التقرير مما يدل الناظر على أَهمية الالتفات إِلى معاني الأَدوات والحروف, بضميمة بعض الروايات إِلى بعض, وانظر أمثلة لهذا في: ((الإِحكام)) لابن دقيق العيد: (1 / 388, 410- 411) و(2 / 267, 272, 327).
* * *
(1) ((فتح الباري)): (2 / 362): باب من لم ير التشهد الأَول واجباً.
(2) ((السنن الكبرى)): (رقم / 746), و((الصغرى)): (رقم / 1158).
(3) ((زاد المعاد)): (1 / 238, 242).
(4) ((تمام المنة)): (1 / 214 – 217), ((السلسلة الصحيحة)): (5 / 308 – 314 عند الحديثين: (رقم / 2247 – 2248).
(5) انظر: ((مقدمة فتح الباري)): (ص / 384) في أول: الفصل التاسع . و((نزهة النظر في شرخ نخبة الفكر)): (ص / 27), وعنهما: ((تحفة الأَحوذي)): (2 / 94).
(6) ((مغني اللبيب عن كتب الأَعاريب)): (ص / 158- 161).
(7) ((دراسات لأُسلوب القرآن الكريم)) للشيخ محمد عبد الخالق عظيمة – رحمه الله تعالى -: (1 / 2 / 116- 119) وذكر خمس عشرة آية فيها: ((الترتيب الذكري)) فرحمه الله رحمة واسعة آمين. – منها آية الرعد: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [2] فذكر أن: ((ثم)) فيها للترتيب الذكري؛ لأَن استواء الله – سبحانه – على عرشه قبل رفع السموات والأَرض . . .إلخ. وفي هذا نظر لما ذكره شيخ الإِسلام ابن تيمية في: ((بيان تلبيس الجهمية)) (1 / 565) وابن القيم كما في: ((مختصر الصواعق: 308)) وقد نبهني على ذلك بعض الفضلاء – أثابهم الله -. وانظر: ((مقدمة تفسير ابن جرير)) – رحمه الله تعالى -: (1 / 12). وخزانة الأَدب)): (11 / 37 – 38).
(8) ((فتح الباري)): (2 / 302).
__________________
مقدمة الكتاب
http://www.aldawasser.com/vb/showthread.php?t=25112
هيئة المصافة
http://www.aldawasser.com/vb/showthread.php?t=25272
وضع اليدين
http://www.aldawasser.com/vb/showthread.php?t=25497
زيادة الانفراش والتمدد في السجود
http://www.aldawasser.com/vb/showthread.php?t=25784