شرف الفقه والحاجة إليه
مما لا يخفى أن علم الفقه هو من أهم العلوم الإسلامية وأشرفها، ويكفي في الدلالة على ذلك قول المولى سبحانه وتعالى: [وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] {التوبة:122}
وقال جل جلاله : [شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {آل عمران:18} .
قال الإمام الغزالي رحمه الله في الإحياء (1/4) : فانظر كيف بدأ سبحانه وتعالى بنفسه، وثنى بالملائكة وثلث بأهل العلم، وناهيك بهذا شرفا وفضلا وجلاء ونبلاً. اهـ
وقال الله عز وجل : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] {المجادلة:11}
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن سيدنا معاوية رضي الله عنه : ( من يرد الله به خيرا يفقه في الدين ) .
وفي الترمذي وأبي داود بإسناد صحيح عن أبي أمامة الباهلي قال : ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير.
والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة ، فنكتفي بما ذكرنا.
وقد ذكر الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (1/109) عن عمر بن عبد العزيز قال: من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح.
الحاجة للفقه:
لا يحتاج الناس إلى شيء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل كحاجتهم إلى الفقه، فهو يَمَسُّ أكثرَ مجالات الحياة، ولهذا كان للفقهاء المنزلة السامية، والمكانة الرفيعة، وكان الأئمة يقدمون الاعتناء بالفقه على الاعتناء بالحديث، بل ويقدِّمون في الحديث نفسه رواية الفقيه عن الفقيه على رواية المحدث عن المحدث .
فهذا الإمام الرامَهُرْمُزي يذكر لنا في المحدث الفاصل (ص238) عن وكيع بن الجراح شيخ الشافعي أنه قال لأصحابه : الأعمش أحب إليكم عن أبي وائل عن عبد الله – بن مسعود- ، أو سفيان – الثوري - عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة ، عن عبد الله، فقلنا: الأعمش عن أبي وائل أقرب. فقال : الأعمش شيخ وأبو وائل شيخ وسفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله فقية عن فقيه عن فقيه عن فقيه. اهـ
فانظر إلى هذا الإمام الكبير أعني وكيع بن الجراح كيف فضل سلسلة الفقهاء على سلسلة من لا عناية لهم بالفقه، مع كونهم أئمة في الحديث.
ومن الخلل البين الواضح ما يفعله كثير من الناس من العبث العلمي تحت شعار اتباع السنة وتعظيمها، فتراه دون فقه وعلم ، يقدم على دراسة كتاب من كتب الحديث كصحيح البخاري أو صحيح مسلم أو سنن أبي داود ، ثم يريد بعد ذلك أن يكون مرجعاً للفتوى، وإصدار الأحكام ، وما علم المسكين أن أهلية الفتوى لها شروط كثيرة، من لم يحصلها لم يحل له أن يفتي أو يصدر الأحكام.
وهذا إمام السنة أحمد بن حنبل يسأله رجل فيقول له : إذا حفظ الرجل مائة ألف حديث يكون فقيهاً ؟ قال: لا. قال :فمائتي ألف ؟ قال: لا. قال : فثلاثمائة ألف ؟ قال: لا. قال : فأربعمائة ألف ؟ قال: بيده هكذا وحرك يده. يعني له إذا حفظ هذا المقدار الكبير من الأحاديث مع العلم بالعربية والأصول وأقوال من سبقه، لعله بعد هذا كله يكون أهلاً أن يفتي الناس بقوله واجتهاده. انظر إعلام الموقعين لابن القيم رحمه الله تعالى (1/45).
وقد قيل للإمام الحنبلي الكبير ابن شاقلا : فأنت تحفظها ؟ فقال: إن لم أحفظها فإني أفتي بقول من يحفظها وأكثر منه.
يقصد أنه يقلد في الفتوى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
وابن شاقلا رحمه الله هو الذي يقول عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء (16/292): شيخ الحنابلة أبو إسحاق ... كان رأسا في الأصول والفروع.اهـ
وهذا الإمام الكبير ابن وهب رحمه الله يقول: اقتدينا في العلم بأربعة اثنان بمصر، واثنان بالمدينة، الليث بن سعد وعمرو بن الحارث بمصر، ومالك بن أنس وعبد العزيز الماجشون بالمدينة، لولا هؤلاء لكنا ضالين. انظر تاريخ دمشق (45/464) .
وقال الإمام ابن وهب : لولا أن الله أنقذني بمالك والليث لضللت. فقيل له : كيف ذلك ؟
فقال: أكثرت من الحديث فحيرني ، فكنت أعرض ذلك على مالك والليث، فيقولان: خذ هذا، ودع هذا. انظر ترتيب المدارك (2/427) والديباج المذهب (1/133).
وابن وهب هذا هو الذي يقول الذهبي في ترجمته كما في سير أعلام النبلاء (9/223) : عبد الله بن وهب ... الإمام شيخ الإسلام ... الحافظ ... كان من أوعية العلم ومن كنوز العمل ... وعن سحنون الفقيه قال: كان ابن وهب قد قسم دهره أثلاثا، ثلثا في الرباط وثلثا يعلم الناس بمصر، وثلثا في الحج، وذكر أنه حج ستا وثلاثين حجة. اهـ
وذكر الإمام الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/158) عن الإمام أبي العباس بن عقدة أن رجلا سأله عن حديث ، فقال: أقلوا من هذه الأحاديث، فإنها لا تصلح إلا لمن علم تأويلها.
وقال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله : كثير من هذه الأحاديث ضلالة، لقد خرجت مني أحاديث لوددت إني ضربت بكل حديث منها سوطين وإني لم أحدث به، ولعله يطول عمره، فتنزل به نازلة في دينه، يحتاج أن يسأل عنها فقيه وقته، وعسى أن يكون الفقيه حديث السن فيستحي.اهـ ذكر ذلك الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/158).
قال الإمام الحاكم: فمالك بن أنس على تحرجه وقلة حديثه يتقى الحديث هذه التقية فكيف بغيره ممن يحدث بالطم والرم.اهـ انظر معرفة علوم الحديث للخطيب البغدادي (ص61).
وكان الإمام مالك وهو من هو يحث أقرب الناس له على الإقلال من الحديث والسعي في طلب فقهه ، فقد قال لابني أخته أبي بكر وإسماعيل ابني أبي أويس : أراكما تحبان هذا الشأن – جمع الحديث وسماعه – وتطلبانه.
قالا : نعم . قال : إن أحببتما أن تنتفعا به ، وينفع الله بكما ، فأقلا منه ، وتفقهاً. انظر الفقيه والمتفقه (2/159).
وهذا الإمام الفضل بن دُكَين شيخ الإمام البخاري يقول: كنت أمرُّ على زفر وهو محتب بثوب ، فيقول: يا أحول، تعال حتى أغربل لك أحاديثك. فأريه ما قد سمعت، فيقول: هذا يؤخذ به، وهذا لا يُؤخذ به، وهذا ناسخ، وهذا منسوخ.اهـ انظر الفقيه والمتفقه (2/163).
وجالس الإمام أحمد كثيرا من المحدثين ، وأخذ عنهم وانتفع بهم ، ولكن كان لفقه الشافعي أعظم الأثر في نفسه، حتى قال : هذا الذي ترون، كله أو عامته من الشافعي، وما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا ادعوا الله للشافعي، واستغفر له.
وقال الإمام أحمد رحمه الله : ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالسته.
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : كان الشافعي أفقه الناس في كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان قليل الطلب للحديث.
وقال الإمام المحدث ابن معين لصالح بن أحمد بن حنبل : ما يستحي أبوك !! رأيته مع الشافعي ، والشافعي راكب وهو راجل، ورأيته وقد أخذ بركابه، قال صالح : فقلت لأبي. فقال لي : قل له : إن أردت أن تتفقه فخذ بركابه الآخر.
قال الإمام الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (2/159): وليعلم أن الإكثار من كَتْبِ الحديث وروايته لا يصير بها الرجلُ فقيهاً، إنما يتفقه باستنباط معانيه، وإنعام التفكر فيه.اهـ
كتبه: الشيخ سيف بن علي العصري