الراحمون يرحمهم الرحمن
من خطب الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم ـ أيها المسلمون ـ ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد، فيا عباد الله:
كثيرون هم الإخوة الذين يلاحقونني بين الحين والآخر مرددين مقولتهم المتكررة: مالك لاتتكلم عن هذا الفساد المستشري من حولنا؟ مالك لاتتحدث في يوم من الأيام عن بعض هؤلاء المتنفذين الذين استشرت بهم الأطماع، فاتجهت إلى ما لانهاية؟ مالك لاتتكلم عن هؤلاء الذين ينتظرون حتى إذا ظهر قانون من قوانين الإصلاح استخدموه لصالحهم، وجمّدوه لوظائفهم؟ مايكاد يظهر نظام تشريعي يفيد الأمة ويصلح المجتمع إلا ويسبقون إليه ويجمّدوه ابتغاء مآربهم وابتغاء الوصول إلى مزيد من أطماعهم، حتى لكأن خيرات هذه الأمة أصبحت كلها وقفاً لهم. مالك لاتتكلم في يوم من الأيام عن هذا الفساد المستشري؟.
قلت - أيها الإخوة - ولا أزال أقول: السبب في ذلك أنني إن تحدثت عن الداء لابد لي أن أصف بعد ذلك الدواء، وأنتم لستم على استعداد لاستعمال الدواء، ففيم الحديث في موضوع لاطائل من ورائه؟ هذا الذي يقوم ويقعد به بعض الإخوة ويلاحقونني؛ يرغبون أن أتكلم في هذا الموضوع وأن أعالجه؛ هذا داء. ومن فضول القول أن يتحدث أحدنا علن الداء طويلاً ثم لايتجاوز ذلك إلى الحديث عن الدواء. وفضول أشنع أن نتكلم عن الدواء وأن نصفه ونهيب المجتمع بأخذه ثم لانجد من يرغب في استعماله.
ما هو الدواء؟ الدواء الذي يجتث شأن هذا الفساد هو ما قد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي، والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) هذا هو الدواء، ولقد أكد المصطفى صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بأسلوب سلبي عندما قال: ((من لايَرحم لايُرحم)).
أيها الإخوة! إن مدار هذا الإسلام الذي شرفنا الله عز وجل به على الـخُلُقِ الإنسانيِّ الرشيد، ولدار الـخُلُق الإنساني الرشيد على التراحم، إذن لُبَابُ الإسلام هو التراحم، وأنتم تقرؤون كلام الله سبحانه وتعالى إذ يصف الصفوة من عباده وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم، يقول: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 48/29] قبل أن يصفهم بالركوع والسجود والعبادات وصفهم بالتراحم، وعندما تحدث مولانا وخالقنا عن العقبة التي ينبغي أن يجتازها الإنسان لبلوغ مرضاة الله تعالى؛ فسر لنا العقبة وشرحها بوضوح فقال: {وَما أَدْراكَ ما الْعَقَبَةُ ، فَكُّ رَقَبَةٍ ، أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ، يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ ، أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ، ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 90/12-17] ولاأريد أن أفيض في هذه الدقائق المعدودات في الحديث عن كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم من أهمية التراحم وعن تنبيه ربنا سبحانه وتعالى في كتابه المبين عن أهمية التراحم أيضاً، إن جماع القول وزبدة الحديث أن الإسلام يدور على محور واحد ألا وهو الخُلق الإنساني الفاضل، والخلق الإنساني الفاضل يدور على محور واحد ألا وهو التراحم.
ولو أن هذه الأمة تراحمت لاختفى الفساد، ولكنهم لايتراحمون، وليت أن الذين يتأففون من الفساد يتأففون من فساد سلوكهم بمقدار ما يتأففون من فساد المجتمع الذي من حولهم، والحديث عن غياب التراحم حديث طويْل الذيل، بل هو حديث ذو شجون أيها الإخوة، والوقت لايتسع، ولكني ألفت النظر إلى شيء واحد: السلوك في طريق التراحم ذو درجات كثيرة جداً، هذه الدرجات تبدأ بخطوة واحدة تتمثل في أداء حق الله سبحانه وتعالى في أعناق الناس، ألا وهو إخراج زكاة المال. هذه الخطوة الأولى في مدارج التراحم، ومن وراء ذلك خطوة ثانية فثالثة فرابعة، وهكذا، وأنا لن أتحدث عن مدارج السلوك فيما يتعلق بقانون أو مبدأ التراحم، ولكني سأتحدث عن الخطوة الأولى فقط.
كم هم الذين يخرجون حق الله عز وجل من أموالهم في هذه البلدة، لقد سألت واستخبرت فجاءني الجواب الدقيق: إنهم لايتجاوزون (7%) وأنا أفترض أنهم عشرة لابل أفترض خمسة عشر أو عشرون، إنهم قلة يسيرة جداً على كل حال، أما الباقون فتائهون عن حق الله عز وجل، معرضون عن ركن من أخطر الأركان التي أمر الله سبحانه وتعالى بها عباده. وأنا - أيها الإخوة - لا أتحدث عن أصحاب المرتبة الوسطى، لا أتحدث عن الطبقة الوسطى فيما يتعلق بالرزق الذي أمتعهم الله عز وجل به، بل أتحدث عن الطبقة المتميزة العليا، وإنهم لَكُثُر. كم هم الذين يلتفتون بدافع التراحم إلى من حولهم، وإلى من قد ابتلاهم الله بهم؟ هكذا يقول الله: {وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان: 25/20] كم هم؟ إنهم لقلة يسيرة جداً جداً جداً.
التراحم غائب والطمع يستشري، هذا الطمع الذي يستشري من جوانح الكثرة الكاثرة ممن أغناهم الله. وممن أسعفهم الله عز وجل برزق واسع واسع جداً، هؤلاء الناس غرقوا بالنعمة واختنقوا عن تصور المنعم، تلك هي حالهم - أيها الإخوة - وفي كثير من الأحيان يأتي من يذكِّره، ومن يحذِّره، ومن يتلو عليهم القوارع من كلام الله سبحانه وتعالى، والمذكِّرات من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، تراهم بين إنسان معرض ومستَخِفّ، وبين إنسان يتأفف ويبكي ويُبكي؛ لأن السيولة غائبة؛ لأن الوضع الاقتصادي سيّئ، ولأن العمل التجاري لايُدرّ إلا خسارة، وتسمع كلاماً يستثير أشجانك عليه، يستثير عطفك عليه، وتمضي الأيام، ويأتي موسم كهذا الموسم الانتخابي الذي ترون، وتنظر إلى حال هذا الذي كان يبكيك كلامه وشأنه، وإذا بالسيولة ظهرت، وإذا بالأموال الغائبة قد تكاثرت، وإذا بالقدرات المالية بقدرة قادر عظيم قد تعاظمت أمامه، وإذا بالشحِّ تحول إلى كرم وعطاء، إنه ينفق ذات اليمين وذات الشمال. ولكنه ينفق من أجل مصلحة، ينفق تاجراً الأموال الكثيرة الكثيرة بعد أن يخطط ويصل إلى يقين إنه سيجني من وراء ذلك أرباحاً مضاعفة، هذا هو الواقع الذي نعيش فيه أيها الإخوة.
ولكم قيل لأناس من الموسرين الذين أكرمهم الله عز وجل بالعطاء الوفير، ألا تتذكر حق الله في مالك؟ ألا تطهر مالك بإخراج هذا الحق للمستحقين الذين ابتلاك الله عز وجل بهم؟ وينظر وإذا بحق الله عز وجل يبلغ الملايين، فيشح ويقول: أنا غني حتى أعطى الملايين التي عرقت في جمعها لأناس عاطلين، مالهم لايكدحون ويشتغلون كما اشتغلت وما قد كدحت، كثيرون هم الذين لايقولن لي؛ بل يقولون لله، هذا الكلام. ولقد تتبعت حال بعض من هؤلاء الناس، فرأيت كيف أن الله عز وجل حرمهم من التمتع بأموالهم، كيف أن الله عز وجل ابتلاهم بأمراض تسربت إلى كيانهم، يرون الطعام الممتع فلا يستطيعون أن يتذوقوه، يجدون الملايين المكدسة أمامهم فلايجدون سبيلاً إلى التمتع بها، ويقضى الواحد منهم نحبه وقلبه وكيانه يذوب حسرات على المال. أجل هكذا يجيب كثير منهم تماماً كما أجاب بعض المشركين {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 36/47] ما أشبه الليلة بالبارحة أيها الإخوة.
فيم أتحدث عن الفساد إذن، إذا تحدثت عن دواء من الأدواء ينبغي إن كان كلامي مفيداً ينبغي أن أنتقل من الحديث، عن الداء، إلى الحديث عن الدواء. ولكني عندما أنظر فأجد أكثر الناس معرضين عن الدواء، يطربون وينتعشون للحديث عن الداء، وربما يصفقون فإذا تجاوزت ذلك إلى الحديث عن الدواء تبرموا وتأففوا وسخطوا أيها الإخوة. ليت أن الموسرين من المسلمين يرسمون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عِبرة يصفونها أمام أبصارهم أنى ذهبوا وكيفما توجهوا، ((الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى)) ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ((من لايَرحم لايُرحم)) قد يقول القائل: إن بلدتنا تمتاز بالتراحم، هاهي ذي الجمعيات الخيرية الكثيرة، وها هي المشاريع الخيرية الكثيرة أيضاً، أيها الإخوة ما ينبغي أن نتذكر القليل القليل من أجل أن ننسى الكثير الخطير، إن هذا الذي تعرفه ونقوله، إنما هو انعكاس وصدىً لقلة يسيرة جداً، إنها السبعة في المئة والتي عرفت بعد دقه، وأنا أفترض أنها عشرة، هذه المشاريع التي تتحدثون عنها إنما هي ثمرة لإقبال سبعة بالمئة من الناس إلى الله عز وجل فقط، ومع ذلك فلقد كنت أقول ولا أزال: ليست العبرة في المبالغ التي تجمعها الجمعيات الخيرية في شهر رمضان من الناس، إنما العبرة في المبالغ التي تعيدها هذه الجمعيات الخيرية إلى الفقراء ولا داعي لأن أشرح.
كلكم يعلم الفرق. كيف أن أصحاب هذه الجمعيات يتقاطرون وتتوازعهم الأسواق في شهر رمضان، وهم يحملون عواطف الفقراء، وهم يتحدثون عن الفقر المدقع الذي يستشري في هذه البلدة عن طريق الاستعطاف، يأخذون الأموال التي يأخذونها، ولكن أين هي هذه المشاعر عندما يطرق هؤلاء الفقراء أبوابهم ليأخذون منهم أموالهم، ولا أريد أن أفيض في هذا الكلام، كثيرون هم الذين أصبحت أعمالهم أعمالاً تقليدية، يجمعون بنشاط رائع، ثم لايوزعون من هذا المال إلا قطرات يسيرة جداً وتدور الأموال من عام إلى عام.
إنني أقرر وأنا بهذا زعيم، أن هذه الأمة إذا تراحمت، وأن الموسرين من أصحاب هذه البلدة إذا أدوا حق الله عز وجل من أموالهم؛ دون أن يتجاوزوا هذه الدرجة من التراحم إلى الدرجات الأخرى، إذا نفذوا حقوق الله عز وجل كاملة في إخراج زكاة أموالهم إلى المستحقين. فإن الله سبحانه وتعالى سيصلح حال هذه الأمة، ولسوف تنظرون فتجدون أن الفساد قد اختفى، وأن أصحاب الأطماع قد استيقظوا إلى الحدود التي ينبغي أن يقفوا عندها. أجل أيها الإخوة: إن الإنسان إذا نسي ربه سلط الله سبحانه وتعالى عليه من يظلمه ومن ومن يذيقه العذاب إلى أن يستيقظ.
لذلك أقول لهؤلاء الإخوة الذين يلاحقونني صباح مساء: لماذا لاتتكلم في هذا الموضوع؟ وأقول لكم: إذا لاحظتم فساداً من الفساد يستشري في هذه البلدة فانظروا في مرآة أنفسكم، بل اعلموا أنكم تقفون في هذه الظاهرة أمام مرآة أنفسكم. هذا الذي ترونه إنما هو بما كسبت أيديكم، ورحم الله عبداً إذا رأى من حوله مظاهر الداء الذي نتشكى ونتألم منه، عاد إلى نفسه عاد يشم رائحة كفّه أي إنه يعلم أن المجتمع مرآة كحال الأمة التي نعيش فيه، هذا هو شأن الله عزَّ وجل وتلك هي سنته في عباده. هكذا يقول الله سبحانه وتعالى وهذه السنة لاتتبدل ولاتتغير، فأنا أسأل الله عزَّ وجل أن يدخل في أفئدتنا جميعاً جذوة التراحم.
وليس غريباً أيها الإخوة أن يكون أبعد الناس عن التراحم، أكثر الناس استغراقاً في حمأة الدنيا، لأن الاستغراق في حمأة الدنيا وأسواقها وما يتعلق بتجاراتها وصناعاتها وما إلى ذلك تقسي القلب. والدواء الذي يحقق شيئاً من التوازن في هذه الحالة أن يكون هؤلاء الإخوة لهم ساعات يجلسون في المجالس التي يجدون فيها إيمانهم ولو أن تاجراً من هؤلاء الناس كان يتعهد نفسه بساعات يجلس فيها جلسة علم، جلسة ذكر، جلسة موعظة، جلسة درس، إذن لرأينا أن الله عز وجل ينعش قلوبهم فلاتستطيع الدنيا أن تخنق مشاعرهم، وهكذا يعيشون مع مشاعر متعاونة، يتجهون إلى دنياهم وينشطون لجمع رزقهم ولكنهم في الوقت ذاته يراقبون الله. وفي الوقت ذاته تنبض قلوبهم الرحمة لإخوانهم ولكنهم حتى عن هذه المجالس معرضون، حتى عن هذه المجالس معرضون أيها الإخوة. وإني لأذكر ولا أنسى يوماً رددت فيه هذه المقولة على أسماع بعض الموسورين أو كثيرين من الموسورين؛ في لقاءات؛ في حفلات؛ في عقود؛ ونحو ذلك وإذا بي أفاجأ بما لم أكن أتوقع. وإذا بكثرة كاثرة من هؤلاء التجار يتبرمون من كلامي وإذا بأحدهم يرسل إليّ ليقول: (قولوا لفلان أن ينزل عن أكتاف التجار)، لو أني توجهت بهذا النصح إلى الحكام، ولو أنني توجهت بهذا النقد إلى القادة لصفقوا لي ولاعتبروني بطل الأبطال فيما قد ذكرت، لكن لأنني توجهت بهذا الكلام إليهم وذكّرتهم بكلام حلو. وذكرتهم بالمجالس التي ينبغي أن ينعشوا فيها نفوسهم حتى يُحاذروا أنفسهم من الاختناق في بحر الدنيا، وبكل لطف ذكرت هذا الكلام ضاقوا ذرعاً بهذا الحديث.
أسأل الله عز وجل أن لايجعل الدنْيَا فتنة لنا.
أسأله عز وجل أن يجعل منها جسراً يوصلنا إلى مرضاته سبحانه وتعالى، أسأل الله عز وجل أن لايجعل من الدنيا يّماً نختنق فيه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
ولاتنسوني من صالح دعاؤكم