حديث الشيــــــخ ! - الصفحة 2 - ::: مـنتدى قبيلـة الـدواسـر الـرسمي :::

العودة   ::: مـنتدى قبيلـة الـدواسـر الـرسمي ::: > :::. أقسام ( دغــش الــبـطــي) الأدبـيـة .::: > :: قسم القـــصص والروايـــات ::

إضافة رد
انشر الموضوع
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 17-07-2005, 12:08 AM   #17
 
إحصائية العضو







هند غير متصل

هند is on a distinguished road




( الجزء الخامس )

منازل السائرين


قال محمد بن إسحاق الموصلي :
مع الخيط الأول من الفجر ، استيقظ يسار على صوت المؤذن ، وكان صوته نديًا ، رقيقًا ، فيه الهدوء والسكينة والجلال .. وظل يستمع إليه بكل حواسه ، دون أن يغادر فراشه ، وشعر لكلمات الأذان بمعان جديدة قوية مؤثرة .. فالصلاة دائمًا مقرونة بالفلاح .. فكيف يفلح من لا يصلي ؟!
وترك هذه المعاني تتسرب مع الصوت الهادئ الذي ترفرف به أجنحة الملائكة ، إلى أعماق قلبه ، وتسري مع دمه إلى منافذ جسمه فيشعر بدبيب حياة جديدة ، تصاحب حياة اليوم الجديد ، والفجر الجديد .. ويردد باستغراق إيماني عجيب ، الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ..
حتى إذا انتهى الأذان ، انتفض قائمًا ، وأسرع فتوضأ ، ثم ارتدى ملابسه وغادر البيت ..
وبعد صلاة الفجر ، تحلَّق المصلون حول الشيخ يستمعون إلى حديثه .
وتحدث الشيخ عن منازل السائرين ..
كان يستعين في تجسيم المعنى وتوضيحه وتقريبه إلى أذهان مريديه ، بالأمثلة الواضحة اللامعة ، كما يستعين الملاَّح بالنجم الثاقب في الليلة الظلماء .
كانت كلمات الشيخ تسطع في النفس كما تسطع النجوم في السماء ، وتتصل بالروح تمد لها بسبب إلى التقوى ، وهي بعد ذلك أشبه بالماء الزلال عصرته العيون ، فخرج خالصًا سائغًا شرابه ، يرف بندى الحياة ..
وضرب مثلاً للسائرين إلى الله ، كجماعة أرادوا الصعود إلى جبل ، فمنهم من تخلَّف من أول الطريق ، وقد هاله ارتفاع الجبل ، فانهارت عزيمته . ومنهم من أدركه التعب وهو لم يبلغ ربع المسافة . ومنهم من وصل إلى نصفه ، لكنه عثر فتدحرج .. فقد يقوم هذا المتدحرج ليعاود تسلق الجبل .. وقد تقعد به الهمة فيبقى في مكانه الذي انتهى إليه .
والسعيد السعيد من استطاع أن يبلغ القمة .
كان الشيخ يتحدث والجماعة المحيطة به تصغي إليه إصغاء تامًا وقد أخذ بعضهم يكتب على لوح أحضره معه ، حديث الشيخ لكي لا ينساه .. وكان بعضهم يتنهد بحرارة وهو يقارن حاله بما يسمع .
وكان مما يزيد من تأثير حديث الشيخ ، أنه لسان حاله .. وحاله ظاهر في لسانه . وكان عفيفًا عابدًا ناسكًا ، صوامًا قوامًا ، ذاكرًا لله تعالى في كل أمر وعلى كل حال ، رجَّاعًا إلى الله تعالى في سائر الأحوال ، وقَّافًا عند حدود الله تعالى وأوامره . لا تكاد نفسه الكبيرة تشبع من العلم ولا تروي من المطالعة ولا تمل من الانشغال ، مع تصوُّن تام ، وتعبد واقتصاد في المأكل والملبس .
وتنهد يسار وهو يتصور حاله .. إنه لا يدري أي مسافة قطع فاعترضته هذه الجارية .. وسدت عليه الطريق ، فهو يعمل جاهدًا على تنحيتها عن طريقه ، والسير إلى الأمام ..
ونظر إلى الشيخ كالمستغيث ، وأراد أن يتكلم ..
ما ضر لو سمعه الحاضرون ..
ولكن لا ..
إنه لا ينجو من تعليقات أبي أنس ، الفتى الذي يحب الدعابة ، ويتقصدها أحيانًا ..
هل يستطيع الشيخ أن يقرأ ما فيه نفسه ؟
لقد قال له مرة وهو يربت على كتفه :
- اتق الله يا يسار ..
وكان في ذلك اليوم قد استرق النظر إلى فتاة من بنات الجيران ..
تلك كانت نظرة واحدة ..
واحدة فقط ..
فكيف وهو اليوم صريع غانية لعوب .. ليست ..
وعض على شفته عندما وصل إلى هذه النقطة .
آه لو كانت نقية الثوب .. لما ترددت لحظة عن خطبتها .. ولكن .
ولم يشعر إلا والجماعة ينهضون ، ويد أبي أنس فاضل بن أنس يضرب على كتفه الأيمن وهو يقول :
- اصح يا شيخ ..
لقد انتهى الشيخ من حديثه اليوم ، فأين كان سارحًا وشدَّ الشيخ على يد يسار .. وغض هذا بصره تحاميًا لعيني الشيخ .. وخشي أن يقرأ الشيخ ما فيه نفسه ..
ولم يحدث الشيخ يما يريد .
لماذا لم يحدثه ؟
أيخشى أن يسمعه أحد ؟!
وعاد إلى البيت وهو ينقل الخطو بتثاقل ، وكان الجو باردًا والرياح بدأت تشتد ، وبرزت طلائع سحب في السماء ، وقد تكشَّفت الدنيا ، وزال الظلام .. وأخذت الريح تضرب بعض أوراق الأشجار اليابسة المتساقطة على الأرض فتسوقها أمامها ..
ولم يلتفت إلى النهر الهائج ، ولا إلى صف البيوت على الجانبين ، ولا إلى الذين يغادرون بيوتهم طلبًا للرزق ..
لم يلتفت إلى هذا كله ..
لقد كان يلوم نفسه ..
يؤنبها ..
كيف سمح لنفسه أن تسير مع هؤلاء الفتية الذين اجتمعوا على طاعة الله وافترقوا عليه .
أيخدعهم ؟!
إنه لا يريد أن يخدع أحدًا ..
إذا خفي على هؤلاء أمره ، فهل يخفى على الله ؟
الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ..
قال أبو الحسن الورَّاق : وشعر يسار بالدموع تنزل على خديه .. ألا يستطيع أن يقف في وجه الفتاة ؟
فتاة ..
وتلفظ الكلمة باستهانة واحتقار ..
وعندما وصل إلى البيت .. هرع يستنجد بالقرآن ، وجلس يقرأ بصوتٍ كسير وجيع .. وكان يعمر على آيات العذاب فيرددها ويبكي .. ولمَّا انتهى من قراءته ، أقبلت أمه تقول :
ما هذه القراءة يا يسار ؟
ورفع إليها نظرة ، تجول فيها دمعة أخيرة متخلفة ..
وأضافت أمه تقول :
- لقد كنت تبكي ..
وسكتت قليلاً عندما رأته يخفض رأسه .. ثم قالت :
- ما هكذا تكون قراءة الخاشعين يا بني .
قال أبو الحسن الورَّاق : من أين لهذه الأم المسكينة أن تدري ما في قلب يسار .. وليتها درت ..
فهل تستطيع أن تعاونه ؟
إنه لا يخشى على شيء خشيته على قلبه الذي أمضى في مداراته عددًا من السنين حتى رقَّ ولان وأقبل على الله بكل حب وشوق ورغبة بما أعدَّ الله للمؤمنين الصادقين الصالحين ..
فما الذي قذف في طريقه بهذه الجارية ؟!
كيف دخلت في حياته ..
من أي باب تسللت إلى قلبه ؟
ولم ينتبه يسار عندما كان جالسًا على مائدة الفطور ، لم ينتبه إلى أخته سناء التي كانت تنظر إليه كعصفورة وجلة .. إلى شروده وسهومه .. لم ينتبه إليها وهي تقول :
- هل أنت مريض ؟
ولمَّا لم يجبها ، مدت يدها الصغيرة ، ووضعت كفها على ظاهر يده تتحسس حرارة جسده .. فالتفت إليها وقال :
- ما لك يا سناء ؟
فعادت تسأله دون أن ترفع يدها :
- هل أنت مريض ؟
فحوَّل وجهه وهو يغالب ابتسامة حزينة وقال :
- لا ..
ولمَّا ألحت عليه .. قال وقد ضاق بإلحاحها :
- ألا تريدين أن تسكتي ؟
فضربت بملعقتها على الصحن ، فرن رنينًا دافئًا امتزج بأنغام ضحكاتها المتقطعة ، وبرزت كحبات اللؤلؤ المرصوف وقالت :
- لا أسكت .
ونظر إليها بعتاب ، وكأنه ضبطها متلبسة بمخالفة ، وقال :
- لماذا ؟
فاسترسلت بضحكاتها وأسلوبها الطفولي وقالت :
- هل أنت مريض ؟
قال :
- نعم ..
قالت :
- ما الذي يوجعك ؟
وربت على شعرها الكستنائي وقال :
- قلبي ..
فنهضت وهي تنفر برأسها الصغير ، فتقفز ظفيرتها من على صدرها إلى ظهرها .. وقالت :
- سآتيك بالدواء الذي تستعمله أمي ..
وأمسكها من يدها وهو يقول :
- إنه لا يؤلمني بالمعنى الذي تفهمينه ..
وبعينين فيهما آيات البراءة والوداعة والصفاء ، نظرت إليه وقالت بحنان :
- كيف ؟
قال ، وهو يحاول أن يوضح لها ما يريد ؟
- إنه فقط .. فقط .. أصابه بعض الغبار .
وضحكت ضحكت بديعة وهي ترتد برأسها إلى الوراء ، وقالت ، وهي تحاول أن تخلص يدها من يده :
- بالله عليك خبرني .. كيف يستطيع الغبار أن يصل إلى القلب ؟
وترك يدها وهو يشاركها الضحك .. والقطة الكبيرة تدور في المكان وتموء .. وأمه .. بنشاطها المعتاد .. تروح وتجيء تضع صحون الطعام .. فلما تم إعداد المائدة ، أشار إلى سناء .. ومد يده وهو يقول : اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وقنا عذاب النار ، بسم الله .



...

 

 

 

 

 

 

التوقيع

    

رد مع اقتباس
قديم 17-07-2005, 12:09 AM   #18
 
إحصائية العضو







هند غير متصل

هند is on a distinguished road


افتراضي



( الجـــزء السادس )

في بيت الجارية

قال محمد بن إسحاق الموصلي :
لم يكن أما يسار إلا أن يغير طريق ذهابه إلى محل أبيه ، لكي يتجنب رؤية الجارية ، سيسلك الطريق المعاكس ، وإن كان طويلاً ، ولم يتعود على سلوكه من قبل .
ولكن .. ما العمل ..
ومضى في الطريق المعاكس ، فرأى كثيرًا من الأشخاص الذين يعرفهم ، ومر بأبي الفداء ، حاملاً طفله فداء الدين وقفًا أمام بيته . وكان طفله قد تماثل للشفاء ، فأخذ يبتسم للمارة وهو يحرك يده ويتلفت برأسه الصغير ووجهه المتورد المتفتح كزهرة القداح .. وكانت بعض الأشجار قد خلعت أرديتها وأخذت تتهيأ لاستقبال الربيع .
ومضى يسار ، وحمد الله على السلامة ، فد مر اليوم الأول والثاني والثالث دون أن يراها . ولكن صورتها لم تغادر خياله .. وصوتها يهمس في أذنه ، ونظرتها .. وفي كل يوم يزداد شوقًا وتلهفًا .. والمكان الذي احتلته في قلبه بدأ يتسع . ولكنه كان يقاوم ويحاول أن يأسو جراح قلبه .
قال أبو الحسن الورَّاق : في مساء اليوم الرابع ، ذهب يسار بعد صلاة العشاء ، إلى بيت القاضي الشيخ محمد صالح ، وكان مجلس الشيخ عامرًا بالمسائل الفقهية الجلية ، والحكم الثاقبة ، والنوادر اللطيفة ، وأقباس من جنائن الحديث والتاريخ والأدب . وكان الشيخ المفوه ، يدير الحديث ويأتي بكل طريف وحديث .
وقد تأخر ذلك المساء في بيت القاضي ، فلما خرج ، كانت السماء قد ادلهمت بالغيوم ، وأخذت ترسل رذاذًا ، فأسرع يسار إلى منزله ، خشية أن يدركه المطر . وقبل أن يصل إلى البيت بخطوات ، برز من زاوية مظلمة ، رجل متوسط القامة ، أسود ، وقال بصوت هادئ :
- هل تسمح يا سيدي ؟
ونظر إليه يسار ، وتين ملامحه ، إنه خادم الجارية .. مريد .. وعاد هذا يقول مرة أخرى :
- إن سيدتي مريضة .. وهي تود أن تراك .
لقد ظن أنه تخلص منها نهائيًا ، وظن أنها لن تعترض طريقه . ولكن هاهو خادمها العربيد يأتي ليذكِّره بها ، ليجذبه إليها .
قال يسار وقد تملكه الغضب :
- اغرب عن وجهي .
ولكن الخادم بقي في مكانه وقال بصوت خفيض :
- إنها مريضة يا سيدي ..
وهتف يسار قائلاً :
- ويحك يا رجل . وما شأني بمرضها ؟
وسكت قليلاً ثم أضاف :
- ادع لها طبيبًا .
فأجاب الخادم بلهجة صادقة :
- لم أجد الطبيب في بيته يا سيدي . فأرسلتني أدعوك .
ولما نظر إليه يسار متعجبًا ومستغربًا ، أضاف الخادم يقول :
- ربما تريد أن تسرُّك بأمر يا سيدي .
قال يسار وقد رفع يده يهم بطرق الباب :
- لتسر واحدًا من معارفها .
وتأخر الخادم خطوة وقال :
ولكنها لا تثق إلا بك .
وهتف يسار وهو يريد أن يتخلص :
- من أين تعرفني يا رجل ؟
فأجاب الخادم بكل جدية :
- من من الناس من لا يعرفك يا سيدي .. من من الناس في بغداد من لا يعرف يسارًا ..
ولما رآه ساكتًا مضى في كلامه :
- إنها يا سيدي في حالة يرثى لها .. إنك لو رأيتها يا سيدي ، لرق لها قلبك ..
من يدري .. ربما لا تعيش إلى الغد .!
ولم برق في السماء ، ومسَّت قلبه العبارة الأخيرة ، فهتف مأخوذًا :
- لا تعيش إلى الغد ؟
وهزَّ الخادم رأسه وهو يؤكد :
- الأعمار بيد الله يا سيدي .
استوضح قائلاً :
- وماذا تظنها تريد ؟
فطأطأ رأسه ، وقال بصوت يَنُمُّ عن التأثر والحزن العميق :
- ربما تريد أن تتوب .
وغمَغم يسار ، وكأنه لا يصدق ما يسمع :
- وما الذي يمنعها من التوبة ؟
الله يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن كثير .
قال وهو يرفع رأسه الذي تساقط عليه الرذاذ ، وقال :
- ربما تريد أن تبوح لك بسر ..
ودق قلب يسار وهو يحرك شفتيه :
- سر ؟
ولم يشعر يسار إلا كما يشعر السابح الذي ألقي في اليم ، فنال منه الجهد والتعب ، وأخذت الأمواج تتقاذفه إلى حيث تشتهي ولا يشتهي ..!!
قال أبو العرفان : وفي الطريق سأله الخادم قائلاً :
- لقد قلت لي مرة .. اتق الله واجتنب المعاصي .
والتفت يسار ، ليرى مدى الصدق في سؤاله ، فلم يستطع أن يتبين من معالم وجهه . ولكن نبرات صوته أوحت بأكثر مما يستطيع وجهه الملفوف بالظلام أن يوحي . وكان الرذاذ الخفيف اللطيف ينزل متمهلاً وكأن السماء تداعب به وجه الأرض .
وأجاب يسار بعد أن سار خطوات وقال :
- اترك ما أنت فيه ..
وقبل أن يسأله الخادم ، وقف وأضاف :
- إن أرض الله واسعة .
كانت الفوانيس تبدو باسمة مستسلمة مسرورة بما ترسل السماء من رذاذ ، وكان بعضها يبدو خائفًا وجلاً قد انخنس نوره مترقبًا لما قد تأتي به بعد ذلك ، ولاسيما في هذا الموسم من آخر الشتاء .
ولما اقتربا من بيت الجارية ، قال يسار :
- لا تتركني وحدي ..
ولم يفهم الخادم ما يريد .. فأضاف موضحًا :
- لا يجوز لرجل أن يختلي بامرأة غريبة عنه .
عندما فتح الخادم باب الغرفة التي ترقد فيها الفتاة ، طارت إلى أنف يسار رائحة مسك فتيق ، وبدت الغرفة في تأثيث فاخر ، وفي صدرها سرير قرطبي ، يتدلى فوقه سراجان يقال أن حكيم بن محمود قد أتى بهما من بلاد الفرنك ، في آخر سفرة له إلى تلك البقاع . وقد تمددت الجارية على ذلك السرير القرطبي بعد أن وصل الغطاء الأبيض الموشى بخيط الموصلين إلى صدرها .. وارتاح شعرها الأسود الطويل على ترائبها .
كانت الجارية تئن وتتأوه ، وتتلوى من الألم . ولم يصدق يسار أول الأمر ، وقد تسمرت قدماه في أول الغرفة ، وظن أنه قد خدع ! ولكن تردده لم يطل .. فقد التفتت إليه بعينيها المتضرعتين ، فخفق فؤاده وانجذب إليها كالمسحور ، حتى إذا صار قريبًا منها قال بصوت اجتهد أن يكون خافتًا كأنه من دنيا الأحلام :
- سرشير ..
وأجابته بعينيها ، وهي تصغي إليه ، تستمع لألحان صوته العذب ، وصدرها الذي يغطي بعضه شعرها الطويل الأسود اللامع ، يعلو ويهبط .. وراح يسار يردد كالنائم :
- كيف حالك يا سرشير ؟
وتبسمت وهي تغالب دمعة متألمة ، وقالت بصوت يشبه الأنين :
- لقد خشيت أن أموت ولا أسمع اسمي يتردد على لسانك ..
فهتف كالمأخوذ :
- سرشير ..
وأجابته وقد نسيت أنها مريضة :
- يسار ..
قال :
- أنت ملء القلب يا سرشير .
وتحرجت الدمعة على خدها طربًا ، وقالت والابتسامة تشرق على وجهها :
- يسار .. أنا ..
وهتف مرة أخرى :
- أنت يا سرشير .. أنت ملء القلب .
وانتقلت على أنغام صوته ، إلى عالم مملوء بالرياحين ، فتحركت في مكانها وأرادت أن تجلس ، ولكن الألم عاودها .. فتأوَّهت ، وتلوت في فراشها وأخذت تئن أنينًا يشبه النحيب . وكان ينظر إليها ، ويحس بقلبه الغض يتلوى معها ، ويئن ، ويتمنى لو زال عنها الألم .
كانت جدران الغرفة مصبوغة باللون الوردي الفاتح والسراجان المتدليان فوق السرير يضيفان على الغرفة بهاءً ورونقًا ، والموقد الصيني في جانب الغرفة يشيع الدفء .
وعندما خفَّت عنها وطأة الألم ، نظرت إليه بعينين تنطق بالندم وقالت :
- إنني ..
وتطلَّع إليها ، إلى شفتيها القرمزيتين ، إلى حبات العرق التي تصببت على جبينها نتيجة الحمى ، يريد أن يسمع ما تقول ..
ولكن الدموع غلبتها ..
لقد أرادت أن تخبره بكل شيء ، بكل ما جرى ، أرادت أن تعتذر .. أن تقول له إنها لم تكن تدري أنها ستواجه فتى من نور ينهزم أمامه الظلام ، لو أراد أن يسلك فجًا لسلك الشيطان فجًا غيره ..
لقد تساقط حولها كثيرون ..
انهالوا على أقدامها ..
تمنى الواحد منهم لو يحظى منها بنظرة ، بابتسامة ، بكلمة ..
أية كلمة تنطق بها ..
أمَّا هو ..
هذا الفتى الراهب ..
وعادت تنظر إلى وجهه الجميل الذي تحتضنه بكل حنان لحية دافئة تزيده جاذبية وجمالاً .. وأخذت تشتار لذيذ الشهد من عينيه التي تومض ببريقٍ يخطف القلوب ..
وكان لا يزال يتطلع إلى شفتيها القرمزيتين يريد أن يسمع ما تقول ..
عندما قال لها بصوته المتألم :
- أنتِ تبكين يا سرشير .
قالت وهي تنظر إليه متشبثة :
- إنني أخشى أن أموت .
وهتف دون وعي :
- عافاك الله يا سرشير .
ثم أضاف يطمئنها :
- إن صحتك جيدة .
قالت ، وقد سرها أن تنظر إلى عينيه اللتين روَّعهما كلامها :
- هل تريدني أن أعيش ؟
قال :
- إنها إرادة الله ..
وبقلب ينبض بالإيمان والتقوى أضاف :
- والحياة ليست بأيدينا .. إنه مالكنا .
قالت وهي تتألم :
- ولكني مثقلة بالذنوب .
فهتف من صميم قلبه الموجع :
- توبي إلى الله .. اسأليه أن يغفر لك .
ونظرت إليه بضراعة ، وقالت :
- لماذا لا تدعو لي يا يسار ..
وقبل أن يحرك شفتيه قالت :
- أنت مستجاب الدعاء ..
وهزَّ رأسه وهو يجب ، بأسلوب العارف :
- إن الله يجيب المضطر إذا دعاه .
وأدارت رأسها إلى الناحية الأخرى ، وهي تبكي بصمت فلما رأى الدموع تنساب على خدِّها ، تحطمت جميع الأقفال التي أقامها على قلبه ، وفتحت الأبواب كلها دفعة واحدة .. وهتف كالمجنون :
- سرشير ..
وأضاف متضرعًا :
- كفكفي دموعك يا عزيزتي .. ارحمي قلبي .
والتفتت إليه وقالت :
- أنت تحبني .. أليس كذلك ؟
وتولَّت العيون الجواب ، وسكتت لغة الكلام ، من أين للألسن أن تفهم لغة العيون ؟!
وأرادت مرة أخرى أن تبوح له بما في نفسها ، أن تخبره بكل ما جرى .. ولكن في اللحظة التي فتحت فيها فمها لتتكلم ، دخل الخادم يحمل الدواء في قدح .
- هذا الدواء يفيد يا سيدتي ..
وكانت لا تزال تنظر إلى يسار .. فأسرع يتناول الدواء من الخادم ، واعتدلت في الفراش ، وتمنت لو يسقيها الدواء بيده ..
وقرب يده بالقدح ، وانتظر أن تمد يدها لتأخذه وقال :
- خذي .. بسم الله المشافي ، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم .
- وتناولت القدح ، وشربته على دفعات .. ثم بقيت لحظات رافعة رأسها ، تنظر إلى سطر منقوش على حائط الغرفة لم تتبين معالم كلماته ، ثم عادت فتمددت ، وسحبت الغطاء ، وأخذ صدرها يعلو ويهبط ، وسمعها تئن أنينًا خافتًا وتتوجع ..
ثم هدأ صدرها ، واستسلمت للنوم ..
وبقي يسار ينظر إليها وكأنه في حلم .. ثم التفت إلى الخادم ، وسأله بصوت خافت :
- منذ متى وهي على هذه الحال ؟
فأجاب الخادم ، وكان يبدو على ضوء القناديل الخافتة فاحم السواد :
- منذ يومين يا سيدي .
قال يسار :
- وهل تناولت دواء خلال اليومين ؟
فهز رأسه قائلاً :
- هذه أول مرة تتناول فيها الدواء .. من يدك .
وسكت مريد قليلاً ثم أضاف :
- لقد كانت تلح علي أن أدعوك .. منذ اليوم الأول لمرضها ، كانت تقول : لابد أن يعلم .. أريد أن أحدثه بكل شيء .
ونهض يسار ، وهو يلقي عليها نظرة عطف وحنان ، وقال :
- سأعودها غدًا .. إن شاء الله .





 

 

 

 

 

 

التوقيع

    

رد مع اقتباس
قديم 17-07-2005, 12:10 AM   #19
 
إحصائية العضو







هند غير متصل

هند is on a distinguished road


افتراضي



( الجــــزء الســــابع )

إني صائم

قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي نزيل بغداد :
لم تتساقط الأقفال كلها كما ذكر الشيخ أبو العرفان ، فقد استمر يسار يقاوم مقاومة الأبطال ، ولكن أنَّى له الثبات ، وهو الفتى الذي لم يجرب حيل النساء !!
قال أبو العرفان : وانقطع عن الذهاب إلى المسجد الذي يصلي فيه صلاة الفجر ، ولم يعد يحضر حديث الشيخ ، وتلقفه حكيم بن محمود ، وحشى أذنه بخيالات وأوهام وحكايات ، أقل ما فيها يقسي القلب ولا يذكر بالرب .
قال أبو الحسن الورَّاق : وكان أبو محمود هذا ، واسع الحيلة عظيم المكر ، شديد الدهاء ، وكان يجد في ألاعيبه هذه لذة وتسلية لا يجدها في غيرها .. ومن ألاعيبه أنه استطاع أن ينتزع سعيد بن منصور من بيته ويضمه إلى فرقته !!
فقد نشأ سعيد في بيت علم وتقى ، وأبو الشيخ رحمه الله ، كان عـالمًا فاضلاً ، تفجر ينبوع الحكمة على لسانه .. إلا أنه لم يكن به ميل إلى التأليف .
في هذا البيت الكريم نشأ سعيد ، وكان يُضرب به المثل في السلوك الحسن . وقبل سنتين أصيب بمرض ألزمه الفراش عددًا من الشهور ، فأخذ حكيم هذا يتردد عليه ، ويتودد إليه ، وصار يقص عليه حكايات أهل الفسق والمجون ، حتى توطَّدت العلاقة بينهما ، وازداد تعلق سعيد بحكيم .. وعندما نفض عن ثوب المرض ، صار لا يخرج إلا معه ، ولا يجد الراحة إلا بمجالسته .
قال : وظني الذي أكاد أقطع به ، أنه لا يستمر معه طويلاً وسيأتي اليوم الذي يحن فيه إلى منازله الأولى ، وقد ترك له أبوه رحمه الله وصية ، ولكنه لم يلق عليها نظرة إلى يومنا هذا .!
قال أبو العرفان : ولم يذهب يسار إلى بيت الجارية كما وعد ، فقد استيقظ في اليوم التالي بعد أذان الفجر بمدة طويلة .. وسابق قرص الشمس في الصلاة ، فاعتبر هذا دليل الهبوط في إيمانه ، وجعله يعيد النظر في نفسه ..
أتكون الجارية قد خدعته ؟!
ربما .. بل من المحتمل جدًا .
ولكنه سمعها تئن .. وتتأوه .
لقد رآها تتلوى من الألم ..
تتساقط الدموع على خديها .
وتمثلت له كأنها تنظر في عينيه وتقول :
- هل تريدني أن أعيش ..
ثم وهي تقول :
- أنت تحبني أليس كذلك ؟
لاشك أنه تسرع ، وتسرع كثيرًا ..
أيكون قد كتب عليه أن يمتحن بهذه الجارية ؟!
وعادت قصة يوسف الصديق تتمثل أمامه .. كما سمعها من فم الشيخ .. شاب ، في عز قوته وفتوته وجماله ..
تدعوه امرأة .. نبيلة عزيزة جميلة ..
فيقول لها بكل إباء :
- لا ..
ويسجل القرآن موقفه هذا بحروف من نور ، ترددها الأجيال إلى قيام الساعة ، وكلما استجدت حادثة مثلها ، أو قريبً منها : } إنه كان من عبادنا المخلصين { .
وصرخ يسار وه يكاد يتمزق من الألم :
- أنا أبلغ مرتبة الإخلاص ؟!
كيف استطاع يوسف أن يصبر ..
وكل شيء .. كل شيء ..
حتى الجدران الأربعة ، والأبواب الموصدة ، المرأة العاشقة ، تبذل له كل شيء ..
تتودد إليه .. تتوسل ..
تتمرغ على قدميه ..
ولكنه قال كلمته : لا ..
أي قوة إيمانية كان يتمتع بها ؟
لابد أن يكون ما قام في قلبه ، أعظم وأجل مما تستطيع امرأة مهما بلغت من الحسن والحيلة والدهاء ، أن تصل إليه وتنال منه !!
لقد غسل قلبه من هذه المرأة .. وملأه بمعان أخرى ، مادتها من نور ، ومصدرها السماء ، فهو دائم التحليق عاليًا عاليًا ولا ينزل إلى الأرض إلا بمقدار ما يتناول منها ما يعينه على الصعود والصمود ..
وتنهَّد يسار وهو يردد بصوت مسموع :
- ذلك مثل ضربه الله للفتية المؤمنين : } إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين { .
إن المؤمن ليمتحن بالغنى والفقر والمرض والسجن ..
ولكن هذا الامتحان ..
آه يا ربي ..
لا أستطيع .. لا أستطيع يا رب .
ومر يوم ، ويوم ، ويوم .. وبعد صلاة العصر من أحد الأيام ، رأى يسار أن يذهب إلى المقبرة ، يستمد من صمت القبور حديثًا بليغًا يعينه على مواصلة السير ..
كيف وصل العارفون إلى ما وصلوا إليه ؟
إنه يتذكر عندما ذهب مرة ، وقرأ بعض ما كتب على القبور ، لقد أمدته تلك الزيارة بطاقة إيمانية دفعته إلى مضاعفة الجهد ومواصلة السير .. لاسيما عندما التفت إلى صاحبه يسأله :
- لماذا ترتفع المقبرة عن الأرض المحيطة بها ؟
فأجابه أبو الحسين وهو يتنهَّد :
- رب قبر قد صار قبرًا مرارًا ..
مستشهدًا بقول الشاعر ، دون أن يأتي على الشطر الثاني من البيت .
ليذهب هذا اليوم .. فلعل هذه الزيارة تستطيع أن تغسل من قلبه صورة الفتاة ..
الفتاة ..
الفتاة ..
المريضة المسكينة التي كانت تتألم ، تتوجع ، تئن ..
وعادت الصور تعرض في مخيلته ..
لم تكن تقوى على النهوض ، كانت تنظر إليه بعينيها الجميلتين وكأنها تستغيث ودمعة متوسلة من عصارة القلب تدحرجت على خدها ..
لقد أحب تلك الليلة .. أحب كل ما فيها ..
أحب الرذاذ المتساقط الذي أرسلته السماء برفق كأنها تخشى أن توقظ الأرض النائمة ..
والخادم الذي لم يرد أن يغادر دون أن يصحبه إليها ..
حتى جدران الغرفة ، والسرير القرطبي الذي يقال أن أميرات الأندلس يستعملنه ، والقناديل المتألقة .. والقدح الذي تناولت منه الدواء ..
ولم يشعر إلا وهو يقف على باب بيتها في نهاية سوق الخبازين ، وكان الوقت قد قارب المغرب ..
ورفع يده يهم بطرق الباب ..
ولكنه توقف ..
وأخذت يده تهبط بهدوء ، حتى استقرت إلى جانبه .
ثم استدار عائدًا .. من حيث أتى ..
ومشى خطوات ..
بطيئة ، ثقيلة ، متمهلة ..
ثم وقف ..
لقد شعر بشيء خفي يشده إلى الخلف .. إلى بيت الجارية ، فالتفت ينظر إلى الدار ..
هذه نخلة باسقة تقف أمام الباب باعتزاز ، وقد تعلَّقت الشمس بجدائلها .. كيـف لم يرهـا من قبل ؟!
وهناك أطفال يلعبون بكرات من الصوف يتقاذفون بها بأرجلهم .. وصبية صغيرة ترتدي ثوبًا أزرق تنتشر عليه خطوط بيضاء ، تسير إلى جانب أمها وهي تنظر إلى الأطفال وتضحك .
وطفل أشقر أطل من النافذة وقد أرسل تفاحة ربطها بخيط وأخذ يؤرجحها فهو يتسلى بهذه اللعبة ..
السماء تبدو صافية ..
كان كل شيء في هذه المحلة يبدو لعينيه جميلاً ومحببًا ..
البيوت المتلاصقة على الجانبين ..
والزهور التي تطل من الشرفات ..
والدكان القديم الذي يقع في نهاية الشارع .
وأطفال المحلة ..
والناس الذين يتكلمون بهمس .
وبيت الجارية ..
إنه يضم أجمل فتاة في الدنيا ..
وعاد مرة أخرى ، وقد عزم على أن يطرق الباب ، لقد أيقظت هذه الأحلام مشاعره ، وازدادت رغبته ، وملأت حواسه فأقبل ملهوفًا يريد أن يطرق الباب ..
ولكنه قبل أن يتقدم إلى الخطوة الثالثة تذكر ..
تذكر حديث الشيخ في آخر مرة حضر فيها إلى المسجد ، كان يتحدث وعيناه تتألقان بالنور ، ونظراته تنفذ إلى الأعماق .. وعبدالله بن الشيخ إبراهيم ، ومحمد الذهب ، وأبو الحسن علي بن حسين ، وعبود وسلمان النجدي ، وغيرهم . كلهم يستمعون إليه .. أما هو فقد استطاع أن يتحاشى النظر إلى الشيخ طول الوقت لئلا يفتضح ..
وتذكر كيف ضرب الشيخ مثلاً للسائرين إلى الله ..
ترى أين مكانه ؟
هل هو في حال المتحرج من الجبل ؟!
وإلى أين وصل ؟
أتقف هذه المرأة في طريقه ؟
وغضب يسار وهو يرى أنه قد أهين بجره إلى هذا الطريق .. وعزم على أن يقابل الجارية ليرى ماذا كانت تريد أن تقوله .. ولكي يصرخ في وجهها ، سيقول لها صراحة :
- أنا أكرهك .
سوف يتخلص منها بلا ريب ..
وأسرع الخطو ..
وطرق الباب ..
وانتظر ..
انتظر طويلاً .. فلم يفتح الباب !
وطرق مرة أخرى .. وتمنى لو سمع صوتًا .. أي صوت .. فلم يسمع إلا شقشقة العصافير على النخلة الباسقة التي تجاوزت في ارتفاعها سطح الدار .. وأراد أن يعود .. ولكن ..
وتذكر أن الطرق المسموح به ثلاث مرات ، وقد طرق مرتين .. ورفع يده ..
قال أبو العرفان : أخبرني من أثق به ، أن الجارية كانت قد أبصرت بيسار عندما أقبل ، وإنها كنت تقف وراء الباب تنظر إليه من ثقب صغير .. قال : فلما طرق الثالثة ، انتظرت حتى هم بالانصراف ، ثم فتحت الباب .. وبدت له بشعرها الطويل الأسود اللامع الذي أرسلته على كتفيها ، وعينيها الكحيلتين ، وأنفها الصغير المستقيم ، ووجهها الذي عادت إليه العافية فأكسبته بهاءً ورواءً .
ورحبت به بابتسامة غمرت كل أعضائها ، وبصوت كالهمس قالت :
- تفضل ..
وقبل أن يتعذر ، رآها تترك الباب مفتوحًا ، وتتقدمه إلى غرفة الاستقبال .. ولم يشعر إلا وهو هناك ، والجارية تشير إليه بكل رقة وتدعوه للجلوس . ثم تركت الغرفة ، وعادت بعد قليل وقد زيَّنت شعرها بوردة بيضاء ، وحلمت إليه في صينية مستديرة قدحًا من عصير الرمان .
وأمام هذا نسي حديث الشيخ ونسي نفسه ، ونسي كل شيء وعاد لا يعيش إلا هذه اللحظة .. ولا يدري كيف امتدت يده إلى القدح الذي يحاكي لونه لون شفتيها ، وهل كان ينظر إلى القدح أم إليها ! كان ينظر إليها كالمسحور ، ولم ينتبه إلا على صوتها وهي تصبح :
- انتبه يا سيدي .. العصير ..
كانت يده قد مالت بالقدح ، وكاد العصير يتبدد على ثوبه .
ونسي يسار الغرض الذي جاء من أجله .. ولم يشعر إلا وهو يقول لها بصوت خافت متقطع :
- كيف حالك ؟
قالت وهي تنظر في عينيه ، وكأنها تريد أن تنفذ إلى قلبه :
- الحمد لله .
قال :
- أنت أحسن حالاً .. أليس كذلك ؟
فاهتزت الوردة التي تزين شعرها ، وقالت :
- بفضلك يا سيدي .
قال وكأنه يهمس في أذنها التي يزينها القرط اللؤلؤي :
- الفضل لله وحده .
قالت وابتسامة السرور تملأ وجهها :
- أنت ناولتني الدواء .. وكان فيه الشفاء .
وغض بصره .. وبقي صامتًا لحظات .. والقلوب تتحدث بدقَّاتها الرتيبة .. ثم نظر إليها كالولهان وقال :
- لم أعد أصبر يا سرشير ..
وأجابته وعطر أنفاسها يلامس وجهه :
- ولا أنا ..
وكان لا يزال يحمل القدح بيده عندما قالت :
- لقد صنعته لك ..
قال بنفس الصوت الخافت الحالم :
- وما يدريك أنني سأجيء ؟
قالت وهي تشير بأطراف أناملها الخضبة :
- قلبي حدثني ..
ورفع القدح إلى فمه ..
والتقت العيون في عناق طويل ..
وأدنت كرسيها وهي تقول :
- اشرب .. أنا صنعته .. بيدي ..
ومدت يدها .. تريد أن تسقيه .
واقتربت من يده ..
ولم تبق إلا مسافة قصيرة .. قصيرة ..
وارتفع صوت المؤذن لصلاة المغرب ..
الله أكبر ..
الله أكبر ..
فألقى يسار بالقدح وكأنه أصيب بلذع .. ونهض وهو يقول :
- إني صائم ..
قالت :
إنه أذان المغرب .
ولكنه أسرع نحو الباب وهو يقول :
- يجب أن أنصرف .
وخرج يسار ، والدنيا تميد به ، ولا يدري كيف قادته قدماه إلى هنا .. إلى بيت الجارية ..!
قال أبو الحسن الورَّاق : ومنذ ذلك اليوم تغيَّر يسار ..
لم يعد كما كان .. لم يعد ذلك العابد الزاهد الذي تملأ عليه العبادة أقطار حياته .
قال الشيخ جواد : قد يعزف الرجل عن نساء الدنيا كلها ، ولكن امرأة واحدة تستطيع أن تتسلل إلى قلبه وتحتل مكانًا فيه فلا تغادره .



 

 

 

 

 

 

التوقيع

    

رد مع اقتباس
قديم 17-07-2005, 12:11 AM   #20
 
إحصائية العضو







هند غير متصل

هند is on a distinguished road


افتراضي



( الجـــزء الثامن )

سر الجارية

قال محمد بن إسحاق الموصلي :
لم تمض على خروج يسار ساعة من الزمن ، حتى سمعت الجارية طرقًا قويًا على الباب اهتزت اه جنبات الدار ، فأسرعت تفتحه لترى من الطارق .
وطالعها رجل طويل عريض كبير الأنف صغير العينين ، قد كور فوق رأسه عمامة قديمة مهملة ، واشتمل برداء من الجلد مما يستعمله المسافرون . وقال الرجل بصوت جهوري ضخم :
- أين مريد ؟
وقبل أن تجيب ، ودون أن ينتظر جوابها قال :
- أخبريه بأن القافلة ستغادر غدًا ، بعد صلاة الفجر .
ثم أداره ظهره ومضى دون أن يلقي عليها نظرة، أو يحاول سماع الجواب. لكنها صاحت تقول:
- إلى أين ستغادر القافلة ؟
ودون أن يلتفت ، أو يكلف نفسه عناء الوقوف ، قال :
- إلى الشام .
قال أبو الحسن الورَّاق : واهتزت الجارية لسماع الخبر ، وقد فوجئت به .. إلى الشام ..!!
ماذا يريد مريد من الشام ؟!
أتراه يريد أن يتركها .. دون أن يخبرها أو يطلعها على موضوع سفره ؟!
هل نسي مريد يوم جاء به أبوها طريدًا شريدًا عاريًا ..
كان ذلك منذ سنين مضت ..
يوم كانت سرشير صغيرة تلعب في حديقة البيت عندما أقبل أبوها على جواد أدهم ، وأقد أردف خلفه غلامًا نحيفًا في غير هزال لا يستر جسمه البرونزي إلا خرقة تستر عورته . كان الغلام يبدو غريبًا متوحشًا ، تلمع عيناه ببريق مخيف . فلما رأته تملكها رعب مفاجئ ، فهربت صارخة إلى أحضان أمها التي طوقتها بذراعيها وهي تقول :
- لا تخافي .. لا تخافي يا بنتي .
ثم ترجل أبوها ، وأمر بأن يؤخذ الغلام إلى الحمام . وحاول أن يتمرد ، فكلمه بلطف ، وربت على رأسه ، فانصاع الغلام . ثم كساه بدلة بيضاء أضفت عليه سمتًا مقبولاً ، وأحضر له مؤدبًا علَّمه كثيرًا مما يحتاج إليه أمثاله ، وبقيت مدة لم تحاول الاقتراب منه أو الكلام معه . وكان هو أيضًا ينعزل في ركن من الحديقة الكبيرة التي تطرز حواشيها الأزهار من كل نوع ، وتنتشر في أرجائها الطيور الصغيرة الملونة ، طيور الجنة ، وعدد من البط يختال قرب حوض الماء .
ولم تمض أيام حتى تغير الغلام تمامًا .. لم يعد ذلك الغلام النحيف العري الجسم الموحش .. كانت تسترق إليه النظر وهو يأكل ، وتسترق إليه النظر وهو يجلس أمام مؤدبه . وقد كانت ترميه بكرة الصوف أحيانًا أو ببقايا التفاح ، فإذا نظر إليه شزرًا لاذت بأمها ..
وتجرأت يومًا على الاقتراب منه ، وحدثته .. فلم يرد عليها بكلمة واحدة ، وكان ينظر إليها ، وكأنه ينظر إلى طير صغير جميل .
وبعد ما يقارب الشهر على مجيئه ، أشار إليه أبوها يومًا .. فتبعه طائعًا ، بعد أن ارتدى ثوبًا جديدًا جميلاً . وفي المساء عاد الوالد يتبعه الغلام ، وكان في أشد حالات الانفعال والهياج .. وأخذ يتحدث بلا حذر . وكأنه فقد صوابه :
- لا أدري كيف يثق السلطان بهذا الرجل ؟
ومضى يخاطب أمها :
- كان هناك الوزير مندلي ، قال للسلطان إن هؤلاء لا يؤمن جانبهم يا مولاي ، لا يكن قصرك مأوى لأمثال هذا .
قلت للسلطان :
- أنا أتكفل به يا مولاي .. أنا أستطيع أن أجعل منه شخصًا آخر ، سأعلمه كل ما تريد .
ولكن الوزير الوثني استطاع أن يقنعه .. فأشار بيده يقول :
- أرى أن تضمه إليك .
وضرب كفًا بكف وهو يقول متغيضًا :
- أتذهب جهودي عبثًا ؟
وأشارت الوالدة ، وكانت جارية شقراء فاتنة ، من بلاد التركستان قالت :
- وماذا في ذلك ؟
فأجابها وهو ينفث لهيبًا من النار المتأججة في صدره :
- إن قلبي لا يطمئن إلى هذا الوزير .. إنه مخادع . إني أخشى أن يدبر مكيدة تؤدي بنا وبالسلطان وبالمملكة كلها ..
ثم سكت حتى هدأت ثائرته ، وقال بصوت متألم :
- أردت أن أجعله في خدمة السلطان .. لعله ينفعه .
لم تكن تدرك معنى لما يقوله أبوها ، ولكنها تشعر بأن هناك ما يشير إلى خطر متوقع الحدوث ، وأنا أباها كان يحذر السلطان ملك الهند من هذا الخطر ، ولكنه لم يلتفت إليه ، ولم يعره أهمية .
كيف يستطيع أبوها أن يقنع السلطان وهو لا يتقن إلا صناعة الغناء ! كان أبوها مغني السلطان ، وكان يطربه في ليالي الأعياد والمناسبات .. وكان مقربًا محظوظًا من جميع الذين يترددون على القصر .. إلا الوزير ! فلم يكن يرتاح إلى وجوده ، ولولا مكانته في الغناء ، لاستطاع إبعاده بسهولة .
ومضت سنون ، وارتاحت إلى الغلام الذي شب قويًا ذكيًا مخلصًا . وحدث ما توقعه أبوها . ففي إحدى المرَّات ، عندما خرج السلطان إلى الصيد كعادته في كل عام ، استولى الوزير مندلي على كرسي المملكة ، وطلب عون المماليك الهندية الوثنية فلبت نداءه . وأخذ يتعقب أعوان السلطان محمود الخلجي بالقتل والسجن والتعذيب .
فقتل أبوها .. وماتت أمها غمًا ..
واستطاع أن ينفذ وصية سيده ، فقد كان يوصيه في كل مرة :
- إذا وقع مكروه فلا تبق في هذه البلاد ، خذ سرشير وأمها وغادر البلاد بسرعة .
ولكن الوالدة أبت إلا أن تموت إلى جانب زوجها ، وأخذ الخادم سرشير وغادر المدينة سرًا ، بعد أن جعلها ترتدي ملابس غلام جركسي . ولما علم مندلي بهروبهم ، أمر خمسة من رجاله بأن يتبعوهما .
وعلى مسافة يومين أدركهم رجال الوزير . فوقف عربيد بانتظار القوم . وشعرت الجارية بأن نهايتها قد اقتربت .. فصرخت تقول :
- لماذا وقفت .. هل نسلم أنفسنا ؟
ولم يجب .. فقد وصل الجنود ، وترجَّلوا عن ظهور الخيل ، وتقدَّموا للقبض عليهما ..
كانت تقف قريبًا منها شجرة عظيمة ، حط عليها عدد من الطيور والعصافير ، وصاحت سرشير مرة أخرى وهي تلوذ بالشجرة :
- هل نسلم أنفسنا .. إنه الذبح ..
وحدث ما لم تتوقع ..
فقد ألقى الخادم بنفسه على الجنود ، واستولى على سيف أحدهم ، ثم أخذ يقاتلهم بشجاعة نادرة أذهلتها ، وأثارت إعجابها ، وجعلت الطيور تجفل مخلقة في السماء .. وكان خفيفًا نشيطًا ، سريع الحركة ، استطاع في أقل من ساعة واحدة أن يجندل ثلاثة منهم ، ولاذ الاثنان الآخران بالهرب .
وقف عربيد وصدره العريض يعلو ويهبط ، والسيف في يده يقطر دمًا وقد شعر بهمٍّ عظيم يزاح عن صدره .. فقد انتقم لسيده .
واحتفلت به الجارية بإعجاب وقالت :
- أنت بطل ..
ولم يرد عليها ، وإنما اتجه إلى الخيل ، فأمسك بجوادين ، امتطى أحدهما وأمرها أن تمتطي الآخر ، ثم انطلقا ينهبان الأرض ، حتى وصلا إلى بلاد فارس . فأقاما هناك سنين ، استطاعت الجارية خلالها أن تتقن اللغة الفارسية . وانقطعت عنهما أخبار الهند . ولم يصل إلى علم الخادم إلا أن السلطان محمود الخلجي قد لجأ إلى السطان عبدالحليم ، وقد وعد الأخير بنصرته ، ثم بلغه أن الوزير مندلي قد أرسل وراءهم من يتعقبهم ، وأقسم لينتقمن من عربيد شر انتقام . وأشارت عليه الجارية بالسفر إلى بغداد .. وفي هذه الرحلة أنفقوا كل ما لديهم من مال ومتاع ، حتى إذا وصلا إلى بغداد قالت الجارية :
- هل فكرت في أمرنا يا عربيد ؟
فأومأ برأسه وقال :
- إنني أعرف رجلاً تاجرًا، كان صديقًا لوالدك رحمه الله، وكان يتردد عليه عندما يزور منداو..
فانبسطت أساريرها وقالت :
- من هو .. ما اسمه ؟
ودون أن يلتفت إليها قال :
- أنسيته .
واصطحب الجارية ، وذهب يسأل ويتطلع في الوجوه في سوق التجار لعله يجده .. وهناك رآهما حكيم بن محمود ، وعلم أنهما غريبان يبحثان عن مأوى ، فرحب بهما ، وقدَّم لهما هذا الدار بكل ما فيه من أثاث ومتاع .. وكانت الجارية قد تعلَّمت اللغة العربية عندما تعلمت القرآن في منداو ، وكانت لغة الطبقة الراقية في الهند .. وتعلَّمها عربيد أيضًا لاتصاله بعدد من التجار العرب الذين كانوا يفدون على الهند لغرض التجارة .
ولم تمض في تأملاتها بعيدًا .. فقد أقبل مريد ، وكانت تبدو عليه السرعة والاهتمام .. ودخل دون أين يتلفت إليها ، وتوجه إلى غرفته .. فأسرعت في أثره . فإذا به قد أعدَّ كل شيء ، وحزم أمتعته ولم يبق إلا أن يحملها ويذهب .
فارتاعت لهذا ، ولم تصدق عينيها ، وهتفت بجنون :
- إلى أين يا مريد ؟
ودون أن ينظر إليها قال :
- سأغادر بغداد .
وهتفت به :
- وتتركني يا مريد ؟
فأجاب بكل هدوء :
- نعم .
وصرخت دون وعي :
- لماذا ؟ لماذا يا مريد .. هل آذيتك ؟
ووقف مريد وصدره العريض يعلو ويهبط ، وقد بدا قويًا رائعًا في تناسق جسمه ولون وجهه ، وقال بصوت هادئ :
- لقد قضيت ما مضى من حياتي عبدًا لك .. فأردت أن أقضي ما بقي منها عبدًا لله .
فهتفت به وهي تمسكه من يده :
- ما الذي يمنعك وأنت هنا ؟
فأبعد يدها بلطف وقال :
- أريد أن أذهب إلى بلد لا يعرفني فيه أحد .. أريد أن أهجر الماضي بكل ما فيه من تعاسة وهوان ..
واستعطفته بنظراتها وقالت :
- منذ متى وأنت تعيش في هذه الأفكار ؟
فتنهَّد وقال :
- من يوم التقيت بالشاب العابد الزاهد يسار ..
ومضى يتكلم عنه بصوت عميق يوحي بشدة تأثُّره :
- أنت لا تدرين أي رجل هذا ! إنني أنظر إليه من بعيد ، فأراه كأنه ذهب إلى الآخرة ، واطَّلع على ما فيها ثم عاد إلى الدنيا ، فهو دائم الرغبة والرهبة .. لا تغادره صورة المعذبين في النار ، ولا صور المتنعمين في جنات النعيم ..
إنه رجل .. لا يعرفه كثير من الناس .
كانت تصغي إليه ، وتود لو مضى في وصفه أكثر مما وصف .. إنها تدري أي رجل هو .. فمنذ اللحظة الأولى ، منذ رأته في بيت حكيم بن محمود ، عرفت أنه لا كالرجال الذين رأتهم ، إنه نسيج وحده .. ولذلك فقد أشفقت عليه من نفسها ، وأشفقت على نفسها منه .
ومضى مريد يقول :
- منذ التقيت به لأول مرة ، وأنا أفكر في الكلمات التي قالها لي .. قال : بل أنت مريد .. المريد هو صاحب الإرادة القوية .. اتق الله واجتنب المعاصي .. وفكرت في نفسي ، وفكرت فيك ، وفكرت في يسار .. هذا الفتى الذي يملك المال والقوة والجمال .. مَنْ مِن النساء من لا ترغب في يسار ..؟
ولكنه الفتى النظيف الذي لا يدع شيئًا يلوِّث قلبه الأبيض . لا يغرنك بعض ما ترين من نزوله .. فإنه لا ينزل إلا ليعلو ، ولا يدنو إلا ليبتعد ، ولا يهبط إلا ليحلِّق .. إنه رجل يحاسب نفسه بعد كل هفوة يرتكبها .. ولا يزال بها حتى يقيمها على الجادة البيضاء .
وسكت مريد ، وظل صدره العريض يعلو ويهبط ، وكان يبدو كالبركان الذي ضاق بالنار المتأججة في صدره فأراد أن يقذفها ..
قالت :
- ولكن يا عربيد ..
فقاطعها بحدة :
- لقد سماني يسار ( مريد ) ، ولا أريد أن أستبدل به غيره حتى ولا واسمي القديم .. وقد رضيت أنت به .
وعادت تقول مرة أخرى :
- ولكن يا مريد ..
وقاطعها أيضًا :
- أريد أن تسمعي كلامي أولاً .. ماذا ينفعك هذا المدعو حكيم ، إن ألاعيبه ستعود بالشر العظيم ..
وصاحت قبل أن يستمر :
- مريد .. اسمعني ..
قال :
- لا فائدة يا سيدتي .. لقد دفعت الأجرة ، وسأغادر غدًا .
وصرخت مرة أخرى وقد اعتراها الغضب :
- اسمعني يا مريد .. اسمعني .
ثم سكتت قليلاً ، لتستعيد هدوءها .. ثم قالت بصوت اجتهدت أن يكون في غاية الرقة :
- هل تستطيع أن تنتظر لعدة أيام .. فلعلي أجيء معك .
فهزَّ رأسه بإصرار وقال :
- أبدًا .. لقد تقطَّعت العلاقة بيننا .. إنني لم أعد أصلح لك ، ابحثي عن غيري .. إنني أريد أن أسلك الطريق الذي سلكه يسار .. لقد تبت يا سيدتي . أتفهمين معنى كلمة تبت ..؟
وهمست تقول :
- أنا أيضًا سأتوب .. أقسم لك .
وحمل أمتعته وهو يقول :
- كلا .. هذا آخر لقاء بيننا ..
وقبل أن يخرج ، هتفت تقول :
- انتظر ..
وغابت قليلاً ، ثم عادت وهي تقول :
- خذ هذا .. استعن به على قضاء حوائجك .
ونظر إليها نظرة جامدة .. كانت تحمل كيسًا من النقود مدت يدها به إليه ، وظنت أنه خير ما يقدم لهذا الخادم المخلص الأمين .
ولكنه قال :
- لا يا سيدتي .. أنا لا أريد أن أصل إلى الله بالمال الحرام .. المال الحرام لا يوصل إلى الله يا سيدتي .. لقد كسبت بعض ما حصلت عليه بكدِّ يدي .. بتعبي .. ليالي طويلة مرت علي وأنا لم أذق طعم النوم .. أريد أن أقف بين يدي ربي وأنا نقي الثوب ، نقي الجسد ، نقي القلب . لا يلوثني أثر من آثار المعصية ..
أفهمت يا سيدتي ..
إني مهاجر إلى ربي ..
ومضى مريد يحمل أمتعته في حزمة كبيرة على كتفه ، وتبعته الجارية إلى الباب ، ثم وقفت تشيعه بنظراتها ، حتى احتواه الظلام الذي بدأ يزحف محتلاً مواقع النهار .. ولم تشعر إلا والدموع تنهمر على وجنتيها ..
لقد ذهب مريد ..
لقد فهم إشارة يسار عندما قال له : إن أرض الله واسعة ..
وشعرت الجارية كأن شيئًا عزيزًا قد انتزع منها .. شخص كان يشاركها آمالها وآلامها ، تقاسمت معه السرَّاء والضرَّاء ، حتى إذا كانت في أحوج اللحظات إليه .. تركها ..
تاب ..
وتنهَّدت وهي تنظر إلى الطريق الطويل الذي أخفاه ، فرأت شيخًا عجوزًا مقبلاً يتوكأ على عصا ، وسمعت طفلاً يغني فتردد الجدران صدى صوته .
وردت الباب بلطف ..
ودخلت وهي تفكر في مصيرها ..
ويسار ..
لا .. إنه لا يتزوجها .. إن فورة حبه ستنطفئ إنه كما قال مريد .. سوف يحاسب نفسه حتى يقيمها على الجادة ..
إنه ليس لها ..
إنه ليس من عالمها ..
إنها لا تستطيع أن ترتفع إلى عالمه ، فهل تستطيع أن تدنيه إلى عالمها ؟!
وخيِّل إليها كأنها تسمع صوت حبيب بن مسعود يهمس : لا تفعلي .. بالله عليك .
ثم وهو يقول :
- إن دون الوصول إلى يسار سبعة أبواب ، عليها سبعة أقفال من حديد .
لماذا تركض وراء السراب ؟
من الخير لها أن تنسحب وهي عزيزة مطلوبة مرغوبة ، قبل أن تضطر على الانسجام وهي ...!
سوف تبتعد عن طريقه .. تتهرب منه ..
لن تفتح الباب إذا أتى .
ولكن .. هل تستطيع ؟




 

 

 

 

 

 

التوقيع

    

رد مع اقتباس
قديم 09-08-2005, 10:44 AM   #25
 
إحصائية العضو







هند غير متصل

هند is on a distinguished road


افتراضي



( الجزء التاســـــع )

القلب المهزوم

قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي :
لم يدر يسار كيف أدَّى صلاة المغرب والعشاء ..
لم يدر كيف قادته رجلاه إلى بيت الجارية .. لم يدر كيف سمح لنفسه أن يقول لها ما قال ..
كان في طريقه إلى البيت بعد صلاة العشاء ، وكان القمر كئيبًا حزينًا ، والهواء باردًا ، وغيوم مبعثرة في السماء ..
كيف ذهب إلى بيت الجارية ؟
كان يريد أن يذهب إلى المقبرة .. يريد أن يقرأ بعض ما كتب عليها .. ليستمد منها العزم والصبر والتصميم ، فهي الواعظ المفلق !
ولكن أين وجد نفسه ؟
كانت هناك .. استقبلته .. سمع صوتها .. تحدَّثت إليه بعينيها .. بهمسها .. بقلبها ..
حملت إليه كأس العصير ..
حملته بيدها ..
بنفسها ..
وانتبه إلى نفسه ، فإذا به يقف على باب بيتها ..
هل يصدق ما قيل عن مجنون بني عامر !! ووضع يده على الباب ، لابد أنها وضعت يدها هنا ..
وتلفت حوله ..
هذه النخلة الباسقة التي يتوجها سعف أخضر ، تنظر إليه في صمت وهدوء ، تدغدها الريح أحيانًا فيسمع حفيفها كأنه الهمس ..
وتنهَّد وهو يستند بظهره على الباب .
واشتدَّت الريح ، وانطفأت الفوانيس ، وبدأ وجه القمر شاحبًا لا أثر فيه للجمال .
وعاد يسار يجر الخطى وقلبه يلتفت إلى بيت الجارية ..
وعندما وصل إلى البيت ، واحتوته الغرفة ، شعر بضيق شديد ، شعر كأن جدران الغرفة تشدد الحصار على قلبه المهزوم .. فأسرع يفتح النافذة . وهجم الهواء ، وتنفَّس يسار ملء صدره ، ولم يشعر إلا وهو يردد ما كتبه له الشيخ في يوم من الأيام ، وطلب إليه أن يردده كثيرًا : } رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين { .
وبقي الهواء المغسول بماء النهر يرطب فؤاده ، فشعر بشيء من الراحة .. ثم عزم على أن لا يعود إلى بيت الجارية ، لن تتكرر حادثة اليوم أبدًا .. إنه من الخير أن لا يعود ، سيغسلها من قلبه ، سوف لا يدع لها أثرًا على بساطه .. وإلا ..
قال أبو الحسن الورَّاق : كانت أمه تنظر إليه وتتألم ..
تشعر أن ابنها هذا يعيش مشكلة عظيمة قد أحاطت به ولا يستطيع التخلص منها ..
ولكن ما هي هذه المشكلة ؟
إنها تستطيع أن تتصور كل مشكلة يمكن أن يقع فيها إلا هذه المشكلة !! إن عاصفة قوية قد هبَّت على قلبه فأشاعت فيه الحيرة والقلق ، ولكنه أسدل عليها ستارًا من التصبُّر والتجمُّل محاولاً كتمانها وعدم ظهورها للعيان .. ولكنها ظهرت ..
رغم كل ما كان يبذله من مقاومة .
أما أبوه ، فلم يلتفت على حاله ، فقد كان مشغولاً بالسوق طول يومه ، حتى إذا عاد إلى البيت ، عاد متعبًا منهوك القوى ، لا يود سماع شيء يكدر عليه هدوءه وراحته !
ولم يغب حاله عن أخته الصغيرة اللطيفة الوديعة سناء ، فكانت تنظر إليه وتتألم .. وتسأله في كل مرة :
- ماذا ألمَّ بك ؟
فلا يجيب إلا بتنهدة عميقة ، أو زفرة حارة ، أو يشح بوجهه عنها ، فتنطلق وراء قطتها ..
وكان يسار قد استنفد قواه ، ونال منه الجهد ، ولم يعد يحتمل مجاهدة نفسه ، فقد استطاعت الجارية أن تتغلغل إلى شغاف قلبه .. فلما انجذب إليها ذلك الانجذاب العجيب .. أخذت تتهرب منه !!
فاضطرمت النار في أحشائه ، وتغيرت حاله ، وصار لا يقر له قرار ، وشعر بوحشة قاتلة ، ويأس مرير ، ولم يعرف كيف يداوي ما به ، ولا يريد أن يداوي ما به !
لم يعد له ذلك الهدوء اللطيف ، والطمأنينة التي يجدها في جنب الشيخ وهو يستمع إلى حديثه الذي يملأ القلب نورًا وبهجة ، وإيمانًا ويقينًا ..
وصار يتلوَّى كما يتلوى السقيم ..
ولم يرحم أبو محمود حاله ، فأخذ يشير عليه أن يداوي ما به بشرب الخمر !!
وأجابه بكل عزم وتصميم :
- معاذ الله .. لا كان ذلك اليوم الذي أقارف فيه هذا المنكر .
وأصبحت صلاته خفيفة جافة ، ليس لها جذور في القلب .. كأنها أوراق يابسة على شجرة في طريقها إلى الذبول !
وأخذ يحس في قعر قلبه بنار متأججة ، واضطراب وعدم راحة ، وعرف السر الذي يدعو هؤلاء إلى انتهاب اللذات ، والانغماس في الشهوات ومقارفة المنكرات .
تكشف له سر ذلك كأجلى وأوضح ما يكون ..
إنهم يعيشون حياة قلقة ، جافة ، لا أثر فيها للهدوء أو الراحة ، إنهم يسيرون في طريق متعثر شائك ، يهربون منه إلى طريق أشق منه وأوعر .. إنهم ينتقلون بين النار والرمضاء ..
وعلى كليهما لا يجدون الراحة ولا الهدوء ولا الطمأنينة !!
تكشف له كل هذا .. ولكنه هاهو معهم ..
فلماذا لا يتركهم ..
إلى أين يذهب ؟
إنه لم يعد يصلح للعودة إلى أصحابه ، إلى إخوته الأطهار ، الذين يخشى الواحد منهم أن يتلكم بالكلمة الواحدة إلا بعد تقليبها على وجوهها لئلا يكون فيها شيء من مساخط الله ..
إنهم ينقون الكلام كما ينقي الواحد منا التمر ..
إنهم يصدرون في معظم أمورهم وكأن النار لم تخلق إلا لهم !
أما هؤلاء ..
السادرون في لهوهم وعبثهم .. فكأن الجنة لم تخلق إلا لهم .
ولكن ..
هاهم يكتوون بنار الدنيا ، فلا يجدون لذة للحياة .. وقد يصل الأمر ببعضهم إلى أن يظن أن طريق الخلاص لا يكون إلا بقتل نفسه !!
والجارية ..
لم يعد يدعو الله بأن يبعدها عن طريقه ، بل أخذ يتلهف لرؤيتها ، وينتظر الساعة تلو الساعة لكي يراها .. وأخذ يتصورها في حركتها ، في مشتها ، في ضحكتها ..
في كل شأن من شؤونها !!




 

 

 

 

 

 

التوقيع

    

رد مع اقتباس
قديم 09-08-2005, 10:45 AM   #26
 
إحصائية العضو







هند غير متصل

هند is on a distinguished road


افتراضي



( الجـــزء العاشر )

زهد وحسان

قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي :
وسر أبو محمود لما رأى من تغيُّر يسار ، وصفَّق وهو يقول :
- ألم أقل لكم ، سأسقيه الخمر بيدي .
وكان أبو محمد يظن أنه يستطيع أن يغوي أي شخص مهما كان من علو المنزلة ، والمكانة والزهد والعفاف .. ومهما أحاط بذلك الشخص نفسه ، بأسوار تقيه شر الموسوسين من الجنة والناس أجمعين ! وأن الشيطان لو عجز عن أحدهم ، فلن يعجزه .
قال أبو العرفان : كان حسَّان بن معيقيب أحد هؤلاء الذين سقطوا تحت تأثير حيكم . وقصته كما حدثنا بها غير واحد ، أنه كانت له ابنة عمة ، وكان يحبها كأشد ما يحب الرجال النساء ، وكانت جميلة ، تقيَّة ، مؤدَّبة ، ذات خلق ودين .
عاش معها في بيت واحد ..
ترعرعا سوية .
كانا يلعبان سوية ..
يتذاكران قصار السور من القرآن الكريم ..
كانت تسبقه دائمًا في الحفظ .. وإذا تأخر في قراءة آية أو أخطأ أخذت تنظر إليه وتضحك .
وكانت تعجبه ضحكاتها ..
ولاسيما إذا احتوى فمها الصغير قطعة من الخبز ..
ولكنه كان يغضب كثيرًا إذا استرسلت في الضحك ، وجاوزت الحد الذي يرضيه .
وقد يضربها .. فتذهب إلى أمها تبكي . وإذا غضبت أمها فلا يقوم لها شيء ، فقد تنهال عليه تعنيفًا ، وقد تمنعه من اللعب مع ابنتها زهد . وذلك أقسى عقاب بالنسبة له ..
فهو لا يصبر عنها ..
ولا يجد لذة للعب مع غيرها ..
ولا يعوضه أحد من أطفال المحلة عنها ..
وإنه ليتذكر كيف كانا يحتالان على اللقاء واللعب .. كان يقف في زاوية من الدار ، وتقف هي في زاوية بعيدة ، ويتقاذفان كرة من الصوف ، أو يتحدثان بالإشارة ..
كانا يضحكان كثيرًا ..
إنه لا ينسى ضحكتها أبدًا ، ولا ينسى عندما ترفع يدها الصغيرة وتخط على الحائط كلمة التحذير : أمي ..
فيهرع إلى أقرب مكان يختبئ فيه .
كانت تسرق منه غطاء الرأس وتهرب في المحلة ، فيتبعها يركض وراءها ، يحاول أن يمسكها من ضفائرها التي تتراقص على ظهرها . ولكنها تروغ من بين يديه بكل خفة . فإذا أوشكت على التعب عادت إلى البيت ولاذت بأمها .. فيقف لاهثًا يتمنى لو ظفر بها ! ولكنها تقف وراء أمها ، وتضع الغطاء على رأسها ، وتخرج لسانها الأحمر الصغير .. شامتة ومتحدية ..
كانت أمها قوية شديدة صارمة ، وكانت عبوسًا متجهِّمة ينضح الحنظل من وجهها .. إذا رأت بقعة أو وسخًا على ثوب ابنتها زهد ، عنَّفتها ، وألقت اللوم على حسَّان ..
لا يدري لماذا كانت تكرهه .. ولماذا تحاول النيل منه أمام والده ..
ومع كل ما كان يقاسي من أمها ..
فإنها كانت تلك .. تلك هي الأيام الحلوة في طفولته ..
ثم استيقظ ذات يوم فلم يجدها ..
لم تدغدغ ضفيرة شعرها وجهه ..
ولم يسمع زقزقتها ..
قيل إنها سافرت مع أمها ..
وقيل أن أمها قد تزوجت .. وأنها انتقلت إلى بيت الزوج ..
وقالت له أمه وهي تمسح دموعه :
- لا تبك يا بني .. إنها ستأتي .. ستزورنا مع أمها ..
وأخذ يعد اللحظات والساعات والأيام ..
وطالت غيبتها ..
وكان يبكي كلما خلا إلى نفسه ..
وكان يحتفظ ببعض اللعب ، والأشياء الصغيرة الجميلة التي تركتها .. ولم ينسها .. ولن ينساها أبدًا .
ثم علم أنها زارتهم مرتين .. ولكنه كان نائمًا وقت الظهر !
فعزم على أن لا ينام وقت الظهيرة ما دام حيًا ..
ولكنه لم يرها ..
ومرت سنوات ..
وشبَّ الفتى .. تقيًا صالحًا يتردد على مجالس أهل العلم ..
وبقيت صورة زهد مستقرة في نفسه .. في قلبه ..
حتى عاد ذات يوم من المسجد .. بعد أن أدَّى صلاة الجمعة ..
وعندما دخل البيت ، سمع صوتًا يقول :
- هاهو قد عاد .
ووقف مكانه ..
لقد رأى على بعد خطوات منه فتاة طويلة نحيفة متوردة متفتحة رائعة ..
كانت تنظر إليه ..
كأنها لا تصدق ..
وأخذ قلبه يدق بسرعة ..
وأراد أن يتكلم ..
فاحتبست الكلمات في فمه ..
ورأى الدموع تطفر من عينيها ..
فهتف بكل قلبه :
- زهد .
وتقدمت خطوة ، ومدت يدها وهي تجيب :
- حسَّان .
ولم تتحدث الألسن .. ولا العيون ..
وتشابكت الأيدي في لهفة وشوق ..
وانهمرت الدموع ..
ونسي حسَّان كل ما حوله ، ولم ينتبه إلى وجود أمها وأمه وأخته وأبيه ..
وقال وهو ينظر في عينيها الواسعتين الكحيلتين :
- زهد .
فهتفت ملبية :
- حسَّان .
قال وهو لا يكاد يصدق عينيه :
- أنت كبرت يا زهد .
قالت :
- وأنت يا حسَّان .
قال :
- لقد بكيت وراءك يا زهد .
قالت :
- وأنا يا حسَّان .
قال :
- كدت أموت يا زهد .
قالت :
- وأن يا حسَّان .
قال :
- لماذا لم تأت يا زهد .
قالت :
- لم أستطع يا حسَّان .
قال :
- كنت أتضرع إلى الله أن يجمعني بك يا زهد .
قالت :
وأنا يا حسَّان .
قال وهو ينظر إلى ضفائر شعرها اللتين تدلتا على صدرها :
- أنت جميلة يا زهد .
وتورَّدت خدودها وهي تقول :
- وأنا يا حسَّان .
كانت القلوب تتحدث بأكثر من هذا ..
والعيون بريد القلب إلى القلب ، تروي أحاديث السنين التي مضت واللسان لا يفصح إلا بالقليل .. القليل .
وبقيت الأيدي في عناقها الطويل .
وسألها بلهفة :
- ستبقين هنا زهد ..
فهزَّت رأسها وهي تنظر في عينيه :
- أجل يا حسَّان .
ثم سمع أمها تقول :
- نعم يا حسَّان .. ستبقى كما تشاء .
وسبحت يدها في رفق بالغ .. فتركها ..
وقد أحس في صوت أمها مزيجًا م الحزن واليأس .. ثم نظر إليها ، وأقبل يسلم عليها ..
ولم تكن كما تصورها في طفولته .. فقد نهضت واعتنقته .. وأخذت تنظر إليه وتثني عليه . لم تكن طويلة ولا ضخمة ولا صارمة ، كانت امرأة عادية كباقي النساء ، تحمل قلبًا طيبًا ، يتأثر ويبكي ، ويحب ويكره .
لقد توفي زوجها الثاني .. فعادت إلى بيت أخيها ..
وستقيم ..
وستبقى زهد إلى جانبه ..
وفي المساء ، عاد حسَّان بعد صلاة العشاء ، ولم يتأخر كعادته كل ليلة .. لم يذهب إلى مجلس الشيخ أبي الوفاء ، بل أسرع إلى البيت ليرى ، وليتحدث مع زهد .. كانت الدنيا لا تسعه من شدة الفرح .
ولكن فرحته لم تقف عند هذا الحد ..
فقد سمع أباه يحدث عمته في أمر زواجه من زهد ..
وأخذ قلبه يدق بشدة ، وتلهَّف لسماع الجواب ، ولكنه لم يسمع شيئًا .. فبات تلك الليلة ساجدًا ، ورافعًا يديه إلى السماء سائلاً المولى الكريم الرحيم أن يمنَّ عليه بزهد .. وعندما ارتفع صوت المؤذن لصلاة الفجر ، خرج مع أبيه إلى المسجد .
وتمنى لو حدَّثه أبوه ..
لو أخبره بما قالته عمته ..
ولكن أباه مضى يردد أدعية الصباح ، ودعاء المشي إلى المسجد ..
حتى همَّ بأن يسأله !
ووقف أبوه فجأة ..
والتفت إليه ، وقال :
- لقد وافقت بعد إلحاح طويل ..
ولم يصدق حسَّان أذنيه ، وتمنى لو كرر أبوه العبارة ، وأراد أن يصيح : ماذا يا أبي .
وتمهل أبوه ، وقد اختار ناحية مظلمة من الزقاق ، لكي تستر الانفعال الذي يظهر على وجه ابنه حسَّان .. ثم عاد يقول :
- لقد وافقت ..
وتنحنح قبل أن يضيف :
- ستتزوج ابنة عمتك يا حسَّان .
هكذا هجمت عليه السعادة مرة واحدة .. وهجم حسَّان على أبيه يقبله من وجهه ويده .. ثم خرَّ على الأرض ساجدًا لله شكرًا على ما أنعم عليه .
وتزوجها ..
وعاش معها تسعة أشهر ..
تسعة أشهر كأنها رؤيا ..
كانت تحدثه برؤى كثيرة لطيفة تراها في منامها ، وكانت تلك الرؤى تتحقق كما تراها ..
وكان يستيقظ بعد منتصف الليل فلا يجدها إلى جانبه ، ثم يراها قد وقفت في ناحية تصلي ..
كأنها رابعة العدوية ..
أو إحدى العابدات الصالحات ..
كانت تعيش في عالم الملائكة ..
كانت كأنَّها حورية من حور الجنان ، جاءت في زيارة قصيرة إلى الدنيا ثم عادت إليها خفيفة مسرعة ..
تسعة أشهر ..
تسعة أشهر فقط ..
ثم ماتت ..
وأظلمت الدنيا في عينيه ، وهام على وجهه ..
كانت الشمس الذي تضيء له دنياه ..
كانت الابتسامة الحلوة التي تملأ نفسه نورًا وبهجة ..
كانت اللحن الجميل الذي يطربه بأنغامه ..
كانت ..
وكاد يجن .. لولا أنه كان يراها في منامه .. وتواسيه وتصبِّره ، وتقول له :
- لا تيأس يا حسَّان .. إنني أنتظرك .
وقالت له مرة :
- ارحم نفسك يا حسَّان ..
ولم يجد أبوه وسيلة أو حيلة لتسليته ..
وفي تلك الأيام التقى به حكيم بن محمود ، فأخذ يشير عليه بأن يداوي ما به بشرب الخمر .. وهاله أول الأمر سماع هذه الكلمة ! ونظر إلى حكيم بغضب .. ولكنه تقبلها بعد ذلك .. وذهب معه إلى الأماكن المنزوية .
وفي المساء الذي قارف فيه هذا المنكر .. رأى زوجته في المنام .. رآها تهرب منه إلى مروج بعيدة خضراء .. أما هو فقد رأى نفسه واقفًا في خرائب سوداء مهدَّمة ..
ثم لم يعد يراها بعد ذلك ..
لم تعد تواسيه ..
لم تعد تصبره ..
لم تعد .. لم تعد !!
وغرق فيما هو فيه إلى أذنيه ..




 

 

 

 

 

 

التوقيع

    

رد مع اقتباس
قديم 09-08-2005, 10:47 AM   #27
 
إحصائية العضو







هند غير متصل

هند is on a distinguished road


افتراضي






( الجزء الحادي عشر )

الزائر الجديد

الزائر الجديد

قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي نزيل بغداد :
شتان ما بين معلم الناس الخير ، وبين من نصَّب نفسه داعيًا إلى النار ، هاديًا إلى الضلال ، دالاً الناس على طريق المغضوب عليهم أو الضالين ، ممن ذمهم الله في كتابه الكريم .
وحكيم بن محمود ، فيه خصلة من النوع الثاني .. ولعله لم يتلقَّ في صغره ما يمنعه من الانزلاق إلى مهاوي الرذيلة في كبره !
قال : والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجر من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .. كما جاء في الحديث .
قال أبو العرفان وفي إحدى الأمسيات ، وبعد صلاة المغرب .. التقى هؤلاء في بيت الجارية ، فلما اكتمل الجمع ، سأل أبو محمود :
- أين الخادم ؟
قال سعيد بن منصور :
- لقد علمت أنه ترك الخدمة ..
فقاطعه حبيب بن مسعود وقال :
- إنه تاب .. إنه لم يرض لنفسه هذا العمل !
وصرخ حكيم بن محمود وهو ينهض غاضبًا :
- هل تريد أن تنغِّص علينا ليلتنا يا حبيب ؟
فهز حبيب رأسه ، وأجابه بصوت هادئ :
- كلا .. إنما تكلمت بما علمت .. ودونك سرشير فاسألها ..
قال سعيد :
- من الأفضل أن نعيده إلى خدمتها ، سنغريه بالمال ..
فضحك حبيب وقال :
- إنك لن تجده ، ولن يأتي ..
وقبل أن يسأله واحد منهم مضى يقول :
- إنه ترك بغداد .. ولا أحد يدري إلى أين ذهب ، لقد أراد أن يذهب إلى مكان لا يعرفه فيه أحد .. أراد أن يبدأ حياة جديدة بيضاء ..
فهتف سعيد مؤيدًا :
- لقد أحسن والله صنعًا ..
وسأل أبو محمود :
- وما يدريك أنه قد ذهب إلى مكان لا يعرفه فيه أحد ؟
قال حبيب مؤكدًا :
- رأيته عشية اليوم الذي ترك فيه هذا البيت ، فاستوقفته وسألته أين يريد .. فأجابني بأنه يريد التفرغ للعبادة ، يريد أن يبدأ حياة جديدة لا تشوبها معصية .
فضحك أبو محمود وقال باستخفاف :
سيعود إلينا .. سوف يندم .
فأجابه سعيد .
- لا يا أبا محمود .. إنه لا يعود ..
فضرب أبو محمود بقبضة يده على المائدة ، وقال مؤكدًا :
- بل يعود .. وسوف ينحني على أيدينا يقبِّلها يسألنا أن نعفو عنه .
فرفع حسَّان بن معيقيب رأسه ، وكان قد ظل صامتًا طول الوقت ، ونظر إلى حيكم وقال :
- لا أظن ذلك .
وضحك أبو محمود ، وقال وهو يحوِّل وجهة الحديث :
- ليذهب .. لا حاجة لنا به .
ثم نظر وجه حبيب ، وأدنى رأسه وقال بصوت خفيض وكأنه يريد أن يبوح بسر خطير :
- سوف يأتينا من هو خير منه .
وهتف سعيد بن منصور :
- من هو ؟
أما حبيب بن مسعود ، فقد خشي أن يتكلم ، لئلا يكون ..
ونظر أبو محمود في وجه حبيب وهو يقول :
- من تظنه يا حبيب ؟
أما هذا ، فقد روعته لهجة حكيم ، وبقي صامتًا جامدًا ينظر إليه . لعل الشيطان قد عملها ..
ونقر أبو محمود على المائدة بإصبعه وهو يقول :
- قد وقع صاحبك يا حبيب ؟
ولم يصدق حبيب ما سمع ، وقال بكل ثقة وهو يردُّ عليه .. ولم يكن قد علم بما جرى من الأمور :
- هيهات ..
قال أبو محمود ، وهو ينقر على المائدة بشكلٍ رتيب :
- إنه سيأتي ..
فرفع حبيب يده اليمنى ، وقال وهو يحرِّك إصبعه في وجه حكيم :
- هذا محال .. إن يسارًا لا يقع ، إنه كالنسر لا يحلق إلا عاليًا .
وضحك أبو محمود وهو يقول متحديًا :
- وإذا جاء هذه الليلة ؟
قال حبيب جازمًا :
- إنه لن يأتي ..
وعاد أبو محمود يستثيره ، وينقر على المائدة ويقول :
- وإذا حضر ؟
- إنه لن يحضر .
ولم يعلِّق حسَّان بن معيقيب ، أما سعيد بن منصور فقد هزَّ رأسه وقال :
- لننتظر .
وقال حبيب بانفعال :
- إن يسارًا لا يقع .. أنتم لا تعلمون أي رجل هو ..
وراح يتحدث عن يسار :
- كان يصوم يومين في الأسبوع ، عدا رمضان ، وكان يقوم كل ليلة .. إنه يعيش في هذه الدنيا ومع الناس ، ولكن قلبه ، ولكن روحه لا تعيش إلا في السماء ..
من مثل يسار ..
وتنهَّد وهو ينظر إلى القناديل التي أضاءت المكان ، وقال وكأنه يخاطب نفيه :
- من في الدنيا مثل يسار ..
وضحك أبو محمود بتهكُّم وقال :
- كذلك كنت أن يا حبيب .
وأجاب حبيب بصوت كأنه الهمس ، وقال بأسف وندم :
- كلا .. لم أكن مثل يسار .. ولا نصفه .. ومع ذلك فأنت السبب ، وعليك الوزر .
وصاح أبو محمود وهو يتصنَّع الغضب :
- اذهب يا أخي .. اذهب إلى صلاتك وعبادتك وزهدك ..
وتنهَّد حسان بتوجع ، وقد أثارته كلمة زهد .. وراح يردد وهو يتطلع في وجه حكيم :
- نداء دعا زهدًا فخف له قلبي ..
ثم نكس رأسه وراح يدمدم مع نفسه بصوت خفيف لا يتبينه أحد . وكان سعيد ينظر إلى حسَّان ويتألم لحاله ..
وقال حبيب ، وكأنه يخاطب نفسه :
- لا يا أبا محمود .. ليس كما قلت .. لقد كنت أنت السبب في كل ما نحن عليه الآن .. أنت تعلم أنني لا أستطيع أن أترككم .. لأني تلوثت معكم .
وضحك أبو محمود ، وقد سرَّه ما رأى من حال حبيب وقال :
- لماذا لا تعود إلى سابق عهدك ؟
قال حبيب وقد أطرق مفكرًا :
- قلت لك لا أستطيع ..
وقبل أن ينتهي حبيب من جملته الأخيرة ، طرق الباب طرقًا خفيفًا فانبسطت أسارير حكيم ، ونهض مزهوًا وهو يشير إلى حبيب ويقول :
- هذا هو صاحبك قد حضر .
وخرج من الغرفة .. ولم يصدق حبيب ، وبقي معلقًا نظره بالباب ، وانفرج فم سعيد بن منصور عن ابتسامة حائرة ، وتعلقت العيون بالباب تنظر من القادم ..
وعاد أبو محمود وهو يجر وراءه شابًا تطوق وجهه لحية سوداء وتسبقه رائحة عطر زكي ..
وهتف أبو محمود بسرور :
- أقدِّم لكم ضيفنا الجديد .. يسار .
وشهق حبيب بن مسعود ، ولم يصدق عينه ما ترى ، ونهض سعيد وقد مد يده مرحـبًا .. أما حسَّان بن معيقيب ، فقد بقي في مكانه تحيط بفمه ابتسامة حزينة .
ودخل يسار مطرقًا خجلاًا ، ولم يرفع نظره إلى أحد من الحاضرين .. وجلس دون أن يتحرك ..
ومضى حكيم يدير الحديث ، وينثر الدعابة والنكتة ، فيضج الجميع بالضحك ، ما عدا حبيبًا الذي أخذ بما رأى .. وما عدا يسارًا أيضًا .. الذي لم يشارك إلا بابتسامة حيية تمر على شفتيه .
ولم يشعر يسار بوجود حبيب .. ومضى أبو محمود وقد أطربه ما أحرزه من ظفر لم يكن يتوقعه ، واجتاحته موجة من السرور أفقدته رشده .
وانحنى على يسار يسأله عن حاله ..
فأجاب يسار بهمس :
- إنني في أسوأ حال ..
وضحك أبو محمود وهو يقول :
- إنه الحب يا أخي ..
وأطرق يسار ، وقد التهب وجهه بحمرة الخجل .. ثم همس في أذن حكيم :
- إنني لم أرها منذ مدة ..
فنهض أبو محمود وقد استخفَّه الطرق وقال :
- ستراها اليوم .. إنها ستأتي .
ولم يصبر حبيب ، فصرخ محتجًّا :
- هذا محال .. إن هذا لا يكون ..
والتفت يسار فرآه !
وكاد يذوب خجلاً ..
إنه يحتج ..
حبيب بن مسعود يحتج ..
وعلى من ؟
على يسار .. الذي طالما نصح حبيبًا بالإقلاع عمَّا هو فيه ، وكان يذكره ويقص عليه كثيرًا من أخبار المتقدمين ، وكان حبيب يشعر بالندم ، وقد يبكي .. إن حبيبًا هو الذي يحتج . إنه يلتقي معه في المكان الذي كان يحذره منه !
وصرخ حبيب مرة أخرى :
- ما الذي جاء بك يا يسار ؟
ونهض أبو محمود فدفعه زاجرًا :
- وأنت ما الذي جاء بك ؟
وتنهَّد يسار ، وشعر بالامتنان العظيم لحكيم ، لقد أنقذه في الوقت المناسب . ولكن هذا صرخ مرة أخرى :
- إن هذا ليس مكانك يا يسار .. إن هذا لا يليق بك .. أنت لا تنزل إلى هذا المنحدر .
وكاد يهب حكيم وسعيد في وجهه ، لولا أن طرق الباب طرقًا عنيفًا . فسكت الجميع ، ولم يتحرك أحد منهم ، وتعلَّقت الأنظار بحكيم ، فهزَّ هذا رأسه وهو يقول :
- لا أدري من الطارق ، سوف تفتحه هي ..
وكانت الجارية في الداخل ، فأسرعت تفتح الباب .. ولما رأت القادم هتفت بكل جوارحها :
- مريد .. أنت عدت يا مريد ..
وأفسحت له وهي تقول :
- لقد كان قلبي يحدثني بأنك ستعود .. تفضَّل .
وسكتت ريثما تلتقط أنفاسها وقالت :
- إن مثلك لا يفرِّط في الأمانة .. لقد كانت ثقة أبي رحمه الله في محلها ..
فأجاب مريد دون أن يتحرك من مكانه :
- جئت أدعوك للعودة إلى الهند .
وبينما وقفت تنظر إليه وعلامات التعجُّب والاستفهام على وجهها ، مضى يقول :
- جمعتني القافلة برجل رحَّالة قادم من هناك .. وأخبرني ..
فقاطعته مستعجلة :
- ماذا أخبرك ؟
قال :
- أخبرني بأن السلطان عبدالحليم قد جهَّز جيشًا كبيرًا ، استطاع أن يدحر جيوش الممالك الوثنية التي خفت لنجدة الوزير الغادر ..
وأعاد السلطان محمود على مملكته في منداو .
وهتفت فرحة ومستبشرة :
- أتراه صادقًا فيما قال ؟
فأجاب مؤكدًا :
- كل الصدق .. لقد رأى ذلك بعينيه ، وأخبرني بأن كثيرًا من الذين هربوا قد عادوا إلى منداو ، وعادت لهم أملاكهم .
واستبد بها الفرح ، فأرادت أن تجذبه من يده لكي يدخل ويحدثها بكل شيء .. لكنها تذكرت .. أنه إذا رأى هؤلاء القوم مرة أخرى فسوف يغضب ، وربما يذهب ويتركها ولا يعود إليها بعد ذلك .
وسألته قائلة :
- متى تريد أن نذهب ؟
فأجاب :
- غدًا صباحًا .. إن شاء الله .
ثم أضاف قائلاً :
- نذهب أولاً في قارب من بغداد إلى البصرة ، ومن هناك تركب البحر في سفينة إلى الهند ..
قالت ، وقد غمرتها الفرحة ، فتنفست ملء صدرها وقالت :
- الله .. كم كنت أتمنى أن أرى البحر ، وأن أشمَّ نسيمه .
قال ، وكأنه يريد أن ينصرف :
- سأمر عليك غدًا صباحًا بعد ارتفاع الشمس فلا تتأخري .
قالت وهي تحاول إرضاءه :
- كما تشاء .. ولكن أين ستنام هذه الليلة ؟
فأجاب وهو يتنفس بارتياح :
- في المسجد ..
وسكت قليلاً ، وكأنه يريد أن يستحضر شيئًا غاب عنه وقال :
- إنه خير مكان يجد فيه المرء الراحة لنفسه وقلبه .
ثم ودَّعها وهو يقول :
- أرجو أن تكوني على استعداد .. غدًا صباحًا .
فلوَّحت بيدها وهي تقول :
- سأكون في انتظارك .
وقبل أن ترد الباب ، رفعت رأسها إلى السماء ، فرأت سربًا من الطيور محلقًا ، عائدًا إلى عشه ، يتغنى بصوت فيه معنى الحث والاستعجال لبلوغ المكان قبل أن يرخي الليل سدوله .
وخيَّمت عليها موجة من الحزن ..
إنها ستعود إلى الهند ..
ستكون وحيدة .. بلا أب ولا أم ..
حتى مريد .. ربما سيرى من واجبه أن يوصلها فقط ، ثم يتركها ويذهب إلى إحدى التكايا التي يتعبد فيها الزهاد . إنه يبدو وكأنه طلَّق الدنيا ثلاثًا .. نفضها من قلبه ، فلا يعود إليها ، ولا يسمح لها بالعودة إليه ، مهما أغرته بمباهجها .
يقال إن البحر واسع واسع أوسع من دجلة ، وأوسع من أي نهر رأته في حياتها ..
أصحيح أنها ستذهب في البحر .. في الطريق الذي سلكه السندباد في رحلاته السبع .. وهل سترسو السفينة على جزيرة تقف على ظهر سمكة !!
لابد أنها سترى من عجائب الدنيا أكثر مما قرأته في قصة السندباد .
ومريد .. هذا الأسود الذي يحاكي الليل في سواده ، إنه يحمل قلبًا أشد بياضًا من النهار .. مع نقاء سريرة وصفاء ذهن وإخلاص ليس له مثيل .
وردَّت الباب ثم عادت لتأخذ زينتها ، ثم تقضي بقية الليل مع القوم الذين حضروا .






 

 

 

 

 

 

التوقيع

    

رد مع اقتباس
قديم 09-08-2005, 10:53 AM   #28
 
إحصائية العضو







هند غير متصل

هند is on a distinguished road


افتراضي



( الجـــزء الثاني عشر )

تذكرة الشيخ

قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي نزيل بغداد :
قال أبو العرفان : كانت الجارية ترتدي حلة وردية زاهية ، وقد تقدمها عطرها الفواح ، واكتملت زينتها ، ولكنها بدت حزينة أسيفة على غير عادتها .
وألقت نظرة سريعة على الحاضرين ، فلما رأت يسارًا وجمت وتسمَّرت في مكانها .. وبدا عليها وكأنها فوجئت .. كـأنها لم تكن تعلم بمجيئه .. وحولت نظرها إلى حكيم .. فضحك هذا وقال :
- إنه يسار .. ألا تعرفينه ؟
وتقدَّمت على مهل ، فسلمت على يسار ، ومالت إليه ، ورحَّبت به ، ولكن بتحفظ واحترام كثير ..
وجلست إلى جانبه .
فلم يتحمل حبيب هذا ، فترك المجلس وخرج وهو ينفخ من شدة التأثر ، ولما رأى القلق الذي اعترى يسارًا ، بادر يقول :
- لا عليك .. إنه سيعود .. وسيشرب الخمر حتى ينسى نفسه .
وكان يسار يتمنى ألا يعود حبيب .. لأنه شعر بأشد الحرج في حضوره ، وهنا رفع حكيم كأسًا ، قدَّمه إلى يسار وهو يقول :
- خذ .. اشرب ..
وهزَّ هذا رأسه ، ونظر في عيني الجارية كأنَّه يستنجد بها ، فلم يجد لديها الرغبة في ذلك ، وأشارت بيدها تمنعه ..
فالتفت يقول :
- أنا لا أشرب الخمر ..
وضحك أبو محمود وهو يمد يده بالكأس ويقول :
- اشرب .. اشرب يا يسار ..
إنها تزيل عنك الخجل ، وتذهب الهم ، وتنسيك الدنيا ، ولا تعيش إلا هذه اللحظات .
وتردد يسار .. وقال مرة أخرى :
- لا .. أنا لا أشرب الخمر .
وخيل إليه في تلك الساعة ، أن الدنيا تدور به .. فقد نما إليه أن صاحبه أبا الحسين عندما سمع بما آل إليه أمره ، قال :
- اتركوه .. فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه ، متمثلاً بالحديث .
وطرق سمعه قول أبي أنس :
- كنت والله أظن أن أساسه أقوى من هذا ..
ولم يعلق ناقل الخبر .. وكأنه يؤيد ما قاله !
والتفت يسار ينظر إلى هذا الواقف على الذي يحمل كأس الخمر بيده ، ويحثه على الشرب ..
- اشرب .. اشرب .. خذه يا يسار .
وطالعه وجه أمه الحزينة المتألمة ، وهي تنظر إليه ولا تستطيع شيئًا ، وأخته الصغيرة سناء ، وهل تحمل قطتها الكبيرة ، تنظر إليه بإشفاق ..
وعاد صوت حكيم يقول بإلحاح :
- أين أنت يا يسار .. خذ .
وقرَّبه منه ، فتناوله يسار .. وبقي الكأس في يده ..
وهنا أطلق أبو محمود ضحكة عالية ، وكأنه قد نال غاية ما كان يتمناه .. وصرخ وقد استبد به الفرح :
- عليَّ بحبيب بن مسعود .. أين هو .. ألم أقل له .. سأسقيه الخمر بيدي ؟
ولم يفهم يسار معنى لما قال حكيم ، وظلَّ يدور في دوَّامة من الأفكار ، وأخذت صور أصحابه الفتية الذين كان قد قضى شطر حياته معهم في المسجد وكان الشيخ يحدثهم ..
أخذت صور هؤلاء تتعاقب عليه ..
فإذا بأبي الذهب يعض على يده ..
وتخيل أبا الحسين ، علي بن حسين ، بوجهه المستدير ، وشعره القصير ، وهدوئه المعتاد ، وابتسامته الخفيفة اللطيفة ، وإيماءاته القريبة البعيدة .. تخيَّله وكأنه يقول :
- إنه لم يبتعد كثيرًا ، ومهما ابتعد فسوف يعود ..
أما أبو محمود ، فقد مضى يهذي في نشوة المنتصر :
- لقد بذلت للجارية ألف دينار لكي تأتي بك إلى هنا ..
لقد أقسمت أن أسقيك الخمر بيدي ..
اشرب .. اشرب يا يسار ..
أين حبيب بن مسعود ؟
والتفت يسار ينظر إلى سرشير ..
أحقًا ما يقول هذا ؟
إنه لا يكاد يصدق مما يسمع ..
ألف دينار من أجل أن يسلبوه دينه ؟!
من أجل الإيقاع به بين فكي الشيطان !
ونظر في عيني الجارية ، فروَّعها منظره .. وهزَّت رأسها تنفي بكل شدة وتقول :
- لا تصدقه .. لا تصدقه يا يسار .. إنه ..
كان سعيد بن منصور ، قد وضع الكأس أمامه ، وبسط ذراعيه على المائدة ، وجلس يتسلَّى بالنظر إلى ما يدور ..
وبقي حسَّان بن معيقيب ساكتًا ، سارحًا في تأملاته وأحزانه التي لا تنتهي مردِّدًا بين فترة وأخرى بصوت خفيض رتيب :
- مناد دعا زهدًا فخف له قلبي ..
وتذكر يسار في تلك اللحظة ..
كان أبو أنس قد التقى به عصر هذا اليوم في السوق الكبير ، وسلَّمه رقعة مطوية قال إن الشيخ قد بعثها له ..
وحوَّل الكأس من يده اليمنى إلى اليسرى ، وخفضها حتى لامست المائدة ، ثم مدَّ يده يتحسس الرقعة في جيبه ، فأخرجها ، وفضَّها ، فقرأ فيها :
(( إني أذكِّرك .. إن الشيطان سوف يدخل عليك من أبواب شتى ، وعلى رأسها المرأة .. فاعتصم منه بذكر الله الدائم ، وبغض نظرك ، وتلاوة القرآن .
وذكر نفسك ، أن وجه المرأة الجميل هذا ، صائر إلى جيفة قذرة يقتتل عليها الدود ، وأن في الجنة من الحور العين ما تستحي منهن الشمس الطالعة )) .
كانت الرقعة بخط الشيخ نفسه ..
إن الشيخ لم ينسه ولم يهجره كما خيل له ..
هاهو يذكِّره ..
ويحذِّره ..
وكان أبو محمود مستمرًا في الضحك ، مستمرًا في إغرائه على شرب الكأس .
أما الجارية ، فقد لاحظت التغير الذي طرأ على وجهه ، فسحب نفسها قليلاً قليلاً ، ولاذت بقرب حسَّان . وأخذ سعيد بن منصور ينظر إلى القناديل التي بدأ نورها يسطع ..
ومضى أبو محمود يحثُّه ويغريه :
- اشرب .. لابد أن تشرب ..
أنا الذي جئت بك إلى هنا .. أنا الذي أخرجتك مما كنت فيه من العبادة .. أنا الذي أخرجتك من المسجد ..!
متِّع نفسك .. انس الدنيا .. فغدًا نموت .. نموت ونترك الدنيا لغيرنا ..
وزادت كلمات حكيم في يقظته ..
غدًا نموت .. ونقف بين يدي الله للحساب .. سيحاسبنا على كل شيء .. على كل خطوة ، كل كلمة ، كل معصية ، وسوف يهتف كثير من الناس : } يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا { .
ونكس رأسه ينظر في الرقعة ، وخيل إليه كأنه يسمع صوت الشيخ يحدِّثه .. يحذِّره .. يطرق أذنيه : (( إني أذكِّرك .. إن الشيطان سوف يدخل عليك من أبواب شتى ، وعلى رأسها المرأة .. فاعتصم منه بذكر الله الدائم ... )) .
وقبض أبو محمود على يد يسار التي تحمل الكأس ، وأراد أن يرفعها إلى فمه وهو يقول :
- اشرب .. اشرب يا يسار .
وعاد حبيب بن مسعود كما ذكر سعيد ، وصرخ من مكانه محذِّرًا :
- لا .. لا تشرب يا يسار .. لا تشرب .
سر أبو محمود لرؤية حبيب ، وأراد أن يريه كيف يستطيع أن يسقيه الخمر بيده .. وراح يلح على يسار وهو يقبض على يده يريد أن يرفعها بالكأس إلى فمه .. وكان في عمله هذا فرحًا مزهوًا كأنه يقوم بما يستحق عليه الثناء والتقدير ..!!
وهتف يخاطب حبيبًا :
- انظر .. ها أنا أسقيه الخمر بيدي .. ألم أقل لك ؟
وكان يسار قد وصل إلى حدٍّ لا يطيق معه الصبر .. فانفجر غاضبًا ، ونهض ثائرًا ..
ورمى الكأس في وجه حكيم .
وركل المائدة بقدمه .. فتحطَّم كل ما كان عليها .
وانهال على حكيم ضربًا ..
وأظلمت الدنيا في عينيه ..
وانقلبت المائدة .
وهربت الجارية وقد أصابتها شظايا كأس تحطم بالقرب منها فجرح ساقها .. ولم يقف في وجه يسار شيء .
لقد قذف بكل ما في نفسه ..
مرة واحدة ..
لقد جمع الران الذي تراكم على قلبه ، وكوَّره وألقى به في وجه حكيم .. وفرح حبيب بن مسعود ..
وتنهَّد حسَّان بن معيقيب وهو يجلس صامتًا مبتسمًا وقد أعجبه المشهد .. ولم يحاول سعيد بن منصور شيئًا يقلل من هياج يسار ..
وخرج يسار .. وصوت الشيخ يرن في أذنيه :
(( إن وجـه المرأة الجميل هذا ، صائر إلى جيفة قذرة يقتتل عليها الدود ، وإن في الجنة من الحور ما تستحي منهن الشمس الطالعة )) .
واهتزَّت النخلة طربًا وهي تشيع يسارًا ..
ولمعت الفوانيس بنور جميل ..
وشعر كأن الجدران ، والبيوت ، والدنيا ..
الدنيا كلها ، ترحب به ..
أين كان كل هذه المدة ؟



 

 

 

 

 

 

التوقيع

    

رد مع اقتباس
قديم 09-08-2005, 10:55 AM   #29
 
إحصائية العضو







هند غير متصل

هند is on a distinguished road


افتراضي




( الجزء الأخير )

ومضى في طريقه إلى المسجد ..
إنه يريد أن يرى الشيخ ..
أن يجلس بين يديه ..
أن يعترف بتقصيره ..
وكان الطريق طويلاً ، والمنعطفات كثيرة ، والبيوت تقف على الجانبين .. ولم يسمع أصوات المسلمين عليه ..
ولا الفقير الذي مد يده يسأله الصدقة ..
ولا أحدًا من الناس ..
كان يريد أن يصل إلى المسجد ..
أن يعود إلى سابق عهده ..
أن يعود إلى الله بقلب تائب خاشع منيب ..
لم يكن يظن أنه يستطيع أن يفارق أحدًا من أصحابه ..
لم يكن يظن انه يستطيع أن يبتعد عنهم ..
كيف ابتعد كل هذه المدة ؟
لقد كان في رحلة خطرة .. المحظوظ فيها من يعود منها سالمًا .. لا له ولا عليه ..
لقد كان صغيرًا يوم بدأ يعتاد المساجد .
وكان صغيرًا يوم أخذ يتردد على حديث الشيخ .
كان أبو الذهب يطرق عليه الباب كل يوم .. يوقظه ، ثم يقوده من يده في طريقه إلى المسجد . كان يحنو عليه ، كما يحنو الأخ الكبير على أخيه الصغير ..
إنه يتذكر تلك الأيام ، وتلك اللحظات .
لقد كانت ملء السمع وملء البصر ..
وعبود .. الفتى الطويل الأسمر ، الذي أمضى سنوات عديدة وهو يحاول العثور على فتاة لكي يخطبها لنفسه . فلم يوفق !
لأنه لم يجد الفتاة التي تناسبه ، أو التي تناسب أمه كما يقول أخوه !!
وعبدالله بن الشيخ إبراهيم ، الفتي الطيب .. اللطيف الوديع ، الذي ذهب يدرس الطب .. والذي كان يراه يذرع ساحة المسجد ذهابًا وإيابًا وهو يحاول حفظ سورة التوبة ..
وأبو أنس .. وخلاصاته التي لا تنتهي ، ودعاباته ، وروحه المرحة ، ومشاريعه الكثيرة التي يبنيها في الهواء ، وحكاياته عن أمه ، وكم مرة تخطئ في العد .
وأبو الحسن .. علي بن حسين .. وسمته الهادئ اللطيف ، ودروسه الفقهية التي تعلمها في المدرسة المستنصرية .. وصاحبه جاسم الذي لم يكن يفارقه في ذهابه وإيابه ، وقصته مع الشاب الذي سخر من صلاته ، فرأى ذلك الشاب رجلاً يأتيه في المنام وينهال على ظهره ضربًا بالسياط ، حتى استيقظ وأثر السياط ظاهر على ظهره !!
وغيرهم .. وغيرهم ..
كانوا يحيطون به .. يحبونه .
بل يراه بعضهم قدوة له .. ويتمنى لو بلغ مبلغه !
أيستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟!!
ومضى يسار يريد أن يصل إلى المسجد قبل انفضاض الجماعة من صلاة العشاء .. إنه لا يريد أن يطرق على الشيخ باب بيته .. لأنه لم يتعود أن يزوره في الليل ..
وتمنَّى لو استطاع أن يطير .. أن يصل ..
وتذكر العم عثمان ( أبو البحر ) .. هذا الذي تجاوز المائة من العمر .. والذي وقف مرة يخاطبه ويقول :
- ليتني نشأت في طاعة الله كما نشأت يا يسار .. فهنيئًا لك ..
ثم رفع المنديل يسمح دمعة ترقرقت بها عينه وقال :
- لقد طال أجلي وقلَّ عملي ..
إنه لا ينسى هذا ..
ولا ينسى والده ، وكان يتمتم بعد صلاة الفجر فيقول :
- الحمد لله الذي رزقني ولدًا صالحًا تصل دعواته إلى قبري .
وأمه الحزينة المسكينة .. التي كانت تنظر إليه وتبكي بصمت ، والتي سمعها قبل أيام تقول لأبيه بصوت خافت :
- لا أدري ما الذي جرى ليسار .. كلمه يا رجل .. كلمه لعله يحدثك .
وأخته الصغيرة سناء .. لم يعد يداعبها .. ولا يسألها عن قطتها .. حتى شكت لأمها فقالت :
- لماذا لا يكلمني يسار ؟ هل هو مريض ؟
والشيخ ..
لقد كان يحبه كثيرًا ، كان لا يمل سماع حديثه . كان يرغب بالمزيد المزيد ..
وهل لدى الشيخ إلا كل نافع مفيد ؟ كان يتحدث وكأنه يغرف من بحر ليس له ساحل ..
إنه في طريقه إليه ..
سيقص عليه ما جرى ..
سيقول له ..
ماذا يقول ..؟
ورأى المسجد أمامه .. ببنائه القديم ، وجدرانه التي يخيل للناظر إليها أنها توشك على التداعي ، ومئذنته المتواضعة ..
وتقدم بخطوات بطيئة مترددة ..
لقد شعر كأن حجارة المسجد تنظر إليه بعتاب ..
وكأن جدرانه التي تتطلع إليه بصمت قد فرحت بقدومه ..
إن هذا المسجد يعرفه .. إن كل حجارة فيه تعرفه ..
كم مرة حضر إلى المسجد قبل أن يحضر أي إنسان ..
كم مرة قضى الساعات الطوال .. قائمًا مصليًا ، أو قارئًا للقرآن .. أو ذاكرًا لله تعالى ..
لقد كان مكانه في الصف الأول من صلاة الجماعة ..
ومع التكبيرة الأولى ..
وتعدى باب المسجد وهو يقدم رجله اليمنى ويقول :
- اللهم افتح لي أبواب رحمتك ..
إن أبواب رحمة الله مفتوحة دائمًا ، لم تغلق في ساعة من ليل أو نهار ..
أين التائبون .. الآيبون .. النادمون ..
هذه الشجرة الكبيرة في ساحة المسجد .. في مكانها لم تتحرك .
والفوانيس المضيئة ..
وزير الماء ..
وخادم المسجد .. حميد بن سلوم الرقاق .
وتقدَّم يسار ..
كان المصلون قد خرجوا ..
ولكنه لم ييأس .. فلعل الشيخ تخلَّف بعد صلاة العشاء ..
وصدق ظنه ..
كان الشيخ واقفًا ، مستندًا بظهره إلى الدعامة الوسطى من المسجد ، وكان ينظر إلى يسار ، بعين الوالد الرفيق الرحيم ..
وتقدم يسار ..
خجلاً مترددًا كأنه يحمل أوزار الدنيا ..
واقترب منه ..
فسلَّم عليه ..
وهيئ له كأنه سمع الشيخ يرد عليه ..
وشعر بيده توضع على كتفه ..
وسمع صوته المضمخ بعبير القرآن وهو يتلو :
} قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعًا . إنه هو الغفور الرحيم { .
وهشَّ قلبه لهذه الآية.. وشعر كأنه يسمعها لأول مرة.. تحملها الملائكة.. ويهتف بها المسجد..
وشعر كأن كل شيء ..
حتى الفوانيس الكبيرة ..
وحتى النخلة الواقفة هناك ..
وكل حجر في هذا البناء الطاهر ..
استقبله .. فرح به .. سر بعودته .. فتح ذراعيه له ..
وأراد يسار أن يقول شيئًا أن يتكلم ..
أن يقص على الشيخ ما جرى له ..
ولكنه لم يستطع ..
لقد تحوَّلت كلماته إلى دموع .
وعاد صوت الشيخ ، الهادئ الوقور يتلو من القرآن الكريم .. ما وجد فيه يسار ، شفاء ، وأملاً ، ورحمة ، ورغبة في العودة إلى الله : } وإني لغفَّارٌ لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى { .



تمت ولله الحمد


هند


 

 

 

 

 

 

التوقيع

    

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
اعملوا بها وثوابكم عند الله... محمد بن فهد الرجباني :: القسم الإسلامـــي :: 17 03-06-2013 09:37 PM
فضل العشر الأواخر وليلة القدر صادق الود :: الخيمة الـرمضـانـية 1431هـ :: 10 08-09-2010 10:33 AM
حديث: ((من فطَّر صائماً..)) يعم الغني والفقير بنت الذيب :: الخيمة الـرمضـانـية 1431هـ :: 10 04-09-2010 07:58 AM
حسين الدوسري: حديث المتروك جسد مواقف شعب الكويت برجس ناصر البراك :: قسم السياســة والإقتصاد والأخبار :: 0 23-05-2010 12:29 AM

 


الساعة الآن 08:15 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
---