فن القراءة
رغم أن الكتاب والباحثين قد كتبوا عن جميع الفنون، من فن الحرب، وفن الرسم، وفن السياسة، وفن الإصغاء، وفنون أخرى، إلا أن الكتابة عن فن القراءة قد يحتاج إلى وقفة وتأمل، وسبب قلة الكتابة والبحث في قضية “فن القراءة” تعود ـ كما أعتقد ـ لأن الكتّاب والباحثين قد أتقنوا نسبة معقولة إن لم تكن عالية من هذا الفن، وبذلك يعتقدون أن لا حاجة للبحث والكتابة والتعمق في هذا الميدان، الذي يرون أنه تحصيل حاصل، وليس الجدار المهم والحيوي الذي يحتاج لفرسان بارعين للخوض فيه والقتال في ربوع ساحاته المتعددة الأوجه والأشكال.
قضية القراءة ذات خصوصية لا تشبه الميادين الأخرى في الحياة، فقد يتعلم ويدرس ويبحث أناس في اختصاصهم العلمي أو الأدبي وسواه، وهؤلاء يبحثون ويقرأون في الأدب وأولئك في السياسة والاجتماع، يضاف إلى ذلك العدد الهائل من الذين يقرأون في المناهج التعليمية في مختلف المراحل الدراسية من الابتدائية والثانوية حتى الجامعية وبحوث الدراسات العليا وما بعدها.
الكثيرون لا يرون في القراءة” الفن” الذي يحتاج إلى وقفات وتأمل ووضع خطوط عامة وخطوات دقيقة وتفصيلية عند الخوض في غمار تجاربه، وآخرون يرون أنه مجرد “هواية” لا تحتاج إلى الجهد الكبير، وأنها تشبه هواية المشي والسباحة وممارسة الألعاب الأخرى، وطيف ثالث، يجد في القراءة تشتيتا للفكر وإضاعة للوقت، والخوض في غمار مسارات سراب لا معنى لها، وثمة من يعتقد أن دروس الحياة أهم بكثير من فوائد القراءة والمطالعة والتعمق في دهاليز هذه العوالم الكثيرة والمتشعبة والمتشابكة.
لكن يبقى الرأي القائل إن المعرفة قوة، يتقدم جميع تلك الآراء والأفكار والتصورات التي تذهب مذاهب شتى، وتتوقف هنا بواقعية، وتبتعد هناك عن الواقع بكثير، إذ إن ما متفق عليه عبر العصور وفي مختلف الأمم والشعوب أن القراءة تبقى المنبع والمصدر الأساسي للمعرفة التي تفتح بدورها النوافذ والأبواب للكثير من الإبداع والتطور، وفي مقدمة ذلك ما يميز الشعوب ويحمي المجتمعات من الأخطار الداهمة التي تهدد الفرد والأسرة والمجتمعات.
وبقدر ما تحتاج القراءة إلى اهتمام متقدم فإن “فن القراءة” واحد من التقاليد المجتمعية التي يتدرب على مفرداتها وأجوائها الناس جيلا بعد جيل، وعندما يشاهد الجيل الجديد من سبقوهم وقد عقدوا علاقة صداقة مع الكتاب، فإنهم ـ وبدون شك ـ سيعيشون تلك الأجواء ولا نقول يقلدون من سبقوهم، والسبب في ذلك، أن القارئ يتميز بامتلاكه المعرفة التي اتفقت الأمم والشعوب على أنها قوة، وبهذا فإن المرء يعشق امتلاك القوة خاصة إذا كانت من تلك الناعمة، وهو ما يطلق على المعرفة.
وللأسف جميع المؤشرات والدراسات والمشاهدات اليومية في مجتمعاتنا تشير إلى تخلف موغل في هذا الميدان الهام والخطير.