الحمد لله رب العالمين ، وليّ الصالحين ، وخالق الناس أجمعين . والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ الأمين ، إمام المُتقين ، وسيد الأولين والآخرين ، وعلى آله وصحبه والتابعين . وبعد ؛
فيُعد الحج ركنٌ ركينٌ من أركان الإسلام ، وشعيرةً عُظمى من شعائر الدين ، وهو آخر ما فُرض من الشعائر والعبادات التي رسم الله تعالى حدودها وبيّن معالمها ، كما أنه عبادةٌ تكاد تجمع فضل أركان الإسلام لما فيها من الشمولية ، وما لها من المنافع الكثيرة جداً في مختلف جوانب الحياة . وإذا كان الكثير من الناس يحصرون تلك المنافع في بعض الجوانب الدنيوية غالبًا ؛ فإن للحج منافع أُخرى عظيمة جداً في الجانب الأُخروي الذي هو غاية الغايات من حياة الإنسان .
وفيما يلي عرضٌ لبعض منافع الحج العُظمى التي تظهر في مُختلف الجوانب الدنيوية والأُخروية ، ومنها على سبيل المثال ما يلي :
(1) الفوز بدخول الجنة مصداقاً لما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العُمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة " ( رواه البخاري ، الحديث رقم 1773 ، ص 285 ) .
وتأتي هذه المنفعة من أعظم منافع الحج التي لا يُمكن أن يكون هناك أعظم منها ؛ فدخول الجنة عند المسلم أعظم المقاصد ومُنتهى الغايات التي يعمل طول حياته لأجلها ، ويسعى سعياً حثيثاً للفوز بها .
(2) غفران الذنوب فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أُمه " ( رواه البخاري ، الحديث رقم 1521 ، ص 246 ) .
والمعنى أن من كان حجه مبروراً غفر الله تعالى ، ورجع من حجه بلا ذنوبٍ ولا خطايا ، وهذا بلا شك من أعظم المنافع والمكاسب إذ إن غفران الله تعالى لذنوب العبد يُرجعه طاهراً نقياً خالياً من الذنوب ؛ فيبدأ بعد ذلك حياةً جديدةً نقيةً بعيدةً عن كل ما يؤثر فيها أو عليها من قولٍ أو عمل . وإلى ذلك يُشير أحد الباحثين بقوله :
" ومن الناحية النفسية الصِرفة يشعُر المسلم بعد أداء فريضة الحج بأنه قد تطهر من آثامه وذنوبه ومعاصيه ، وتحرّر من مشاعر الإثم والذنب ، وهي من المشاعر التي تقودُ إلى المرض النفسي " (1).
(3) تحقيق التقوى وتعميق معناها في النفوس من خلال تعظيم شعائر الله تعالى التي تتجسد بوضوح في أداء مناسك الحج وشعائره المختلفة مصداقاً لقوله تعالى : { ذلك ومن يُعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } ( سورة الحج : الآية رقم 32 ) .
وفي هذا الشأن يقول أحد الكُتاب : " وما من مسلمٍ يُعظم شعائر الله ، وما من مسلمٍ يخشى الله تبارك وتعالى ، وما من مسلمٍ يُنفذ ما أمر الله به ويبتعد عما نهى الله عنه إلا رزقه الله حلاوة الورع ، وحسن الالتزام ، وطهارة الاستقامة .. وإذا كانت القلوب تحيا بتقوى وورعٍ من الله جل جلاله ؛ فإنه تبعاً لذلك تحيا الأجساد والجوارح هي الأُخرى بالتقوى " (2) .
(4) تنمية الشعور الذاتي بالعِزةٍ والفخر للانتماء إلى هذه الأُمة المُسلمة العظيمة من خلال المُشاركة الفاعلة ميدانياً ووجدانياً في هذا الموسم الكبير وهذه المناسبة الإسلامية العظيمة التي يلتقي فيها أبناء الإسلام من مشارق الأرض ومغاربها في مكانٍ واحدٍ وزمانٍ واحدٍ ، لغايةٍ واحدةٍ يناجون ربهم ويُلبونه بلسانٍ واحدٍ ، ونداءٍ واحدٍ ، وهم يرتدون ملابس واحدة ، ويُمارسون عباداتٍ وشعائر واحدة لا فرق فيها بين شخصٍ وآخر . وفي هذا المعنى يقول أحد الكُتاب :
" ومن خلال هذا التجمع الإسلامي الكبير الذي يُعتبر أكبر مؤتمرٍ في العالم ، يشعر المسلم بالعِزة والفخر والانتماء إلى أُمةٍ عظيمةٍ كانت وما زالت خير أُمةٍ أُخرجت للناس " (3)
(5) تحقيقٌ مبدأ الأُخوة الإيمانية بين أبناء المسلمين عن طريق تكوين العلاقات الإيجابية بينهم في مختلف المجالات والميادين الحياتية التي يكون موسم الحج فرصةً عظيمةً يُمكن للحاج من خلالها أن يتعَّرف على إخوانه المسلمين القادمين من مشارق الأرض ومغاربها ، وأن يلتقي بهم ، ويجتمع معهم في جوٍ إيمانيٍ زاخرٍ بأعظم معاني الأخوة الإيمانية الصادقة التي لا فرق فيها بين عربيٍ ولا عجميٍ إلا بالتقوى . وإلى ذلك يُشير أحد الكُتاب بقوله :
" ولا يوجد مظهر من مظاهر الأُخوة في أي دين إلا في الدين الإسلامي ، ويتعمق مفهوم الأُخوة الإسلامية أكثر وأكثر في الحج ، فالجميع يأتون من أقاصي الكرة الأرضية ، تختلف لغاتهم ، وتختلف عاداتهم وتقاليدهم ، ولكنهم يجمعهم الأخوة في الله ، والأُخوة في الدين ، والأُخوة في العقيدة ، يستقبلون بيت الله الحرام فيطوفون ويصلون ويسعون . ويقفون في عرفات يؤدون جميعاً مناسك الحج " (4)
(6) تربية الحاج التربية السِلمية حيث إن في قيام الإنسان بالحج إلى بيت الله الحرام ، وأدائه الصحيح لشعائره ومناسكه تربيةٌ سلميةٌ مثاليةٌ على الكيفية التي ينبغي أن يعيش الإنسان بها حياته في أمنٍ وأمان ، وسِلمٍ وسلام مع من حوله من المخلوقات ، وما حوله من الكائنات . وهو ما أشار إليه أحد الكُتاب بقوله :
" وأحسب أن موسم الحج يُعد أُنموذجاً لحياة السلام التي يجب أن تعيشها البشرية مهما كثُرت أعدادها وتباينت اتجاهاتها ؛ فانظر إلى تحريم حمل السلاح في الحج حيث جعل البيت مثابةً للناس وأمناً . وحرَّم صيد البر كله على المُحرم ، وحتى حصى الرمي لزم أن يكون صغيراً في حجمه يُرمى بأصابع اليد دون شحذٍ وقوةٍ ومُبالغةٍ ... ، وحتى في الأقوال حرَّم الجدال مخافة أن يستفحل الأمر ويجُر إلى الأذى والخصومة والشجار " (5)
وفي ذلك كله دروسٌ تربويةٌٌ عظيمةٌ تُشير في مجموعها إلى أن تشريعات وشعائر وآداب الحج تُمثل نظاماً تربوياً سلمياً يُفترض أن يتربى عليه أبناء الأمة المسلمة ، وأن تظهر آثاره وتطبيقاته في كل شأن من شؤون حياتهم ، وكل جزئيةٍ من جزئياتها .
(7) تعظيم الله سبحانه وإقامة ذكره جل في عُلاه تحقيقاً لقوله تعالى : { ويذكروا اسم الله في أيامٍ معلومات } ( سورة الحج : الآية رقم 28 ) . وقوله تعالى : { واذكروا الله في أيامٍ معدودات } ( سورة البقرة : الآية رقم 203 ) .
والمعنى أن جميع شعائر الحج ومناسكه لا تخرج في مجموعها عن كونها إقامةً لذكر الله تعالى ، وهو ما يؤكده الحديث النبوي الشريف الذي ثبت عن أُم المؤمنين عائشة ( رضي الله عنها ) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" إنما جُعل رمي الجِمار ، والسعيُ بين الصفا والمروة ، لإقامة ذكر الله " ( رواه الترمذي ، الحديث رقم 902 ، ص 218 ) .
وهكذا يمكن القول : إن كل مناسك الحج وشعائره المختلفة لا تخرج عن كونها ذكراً لله عز وجل سواءً كانت قوليةً أو عمليةً .
وبعد ؛ فهذه بعض منافع الحج العظمى التي تجعل من هذه العبادة العظيمة زاخرةً بالكثير من المعاني والمضامين والدروس التربوية التي علينا جميعاً أن نستلهمها ، وأن نحرص على الإفادة منها ، وأن نسعى لتأكيد معانيها السامية ، وتطبيقها في واقع حياتنا . والله الهادي إلى سبيل الرشاد .
****