أدبُ المرء عنوانُ سعادته وفلاحه وقلِّةُ أدبه عنوانُ شقاوتِه وبواره .
فقد دلّت الدلائل الشرعية على أهمية الأخلاق والآداب ، ومن ذلك قول الله تعالى : ( يا أيها الذينَ آمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودُها النَّاسُ والحجارة ) . قال ابن عباس وغيره : ( أدِّبُوهم وعلِّمُوهم ) . وقال رسوله صلى الله عليه وسلم : ( أكملُ المؤمنينَ إيماناً أحسَنُهم خُلُقا ) أخرجه الترمذي . وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن المؤمنَ ليُدْرِكُ بحُسْنِ خُلقه درجة الصائم القائم ) أخرجه أبو داوود . وجاء قوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما بعثتُ لأتمم مكارمَ الأخلاق ) . وقد اعتنى فقهاء الإسلام وأئمة الدين بالأدب قبل العلم ، فها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ( تأدّبوا ثم تعلّموا ) . وابن المبارك في قولته الشهيرة : ( لا يَنْبُلُ الرجلُ بنوعٍ من العلم مالم يُزِّين علمَه بالأدب ) . وأخرج أبو نعيم في حلية الأولياء عن ابن المبارك أيضاً قوله : ( كادَ الأدبُ أن يكون ثلثي الدين ) . وقد جعل أهلُ العلم من أهم المقاييس التي يجب توفرها فيمن يؤخذ عنه العلم والمعرفة الأدبَ وحُسنَ الهيئة ، قال النخعي رحمه الله ورضي عنه حكايةً عن القوم : ( كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه، نظروا إلى سمته وصلاته وإلى حاله، ثم يأخذون عنه ) . وقد بيّن الإمام ابن القيم رحمه الله مفهومَ الأدب وأسرارَه وضوابطَه في الشرع ، بحيث يكون هذا الخُلُقُ نوراً منبعثاً من مشكاة النبوة. ومفهوم الأدب كما أشار إليه الإمام القُشَيْرِيُّ رحمه الله في الرسالة بأنه جماعُ الخير وحاصلها التفقُّهُ في الدين ، والزهدُ في الدنيا ، والمعرفةُ بما لله عز وجل من حقوق . و قد بيّن الإمام ابن القيم رحمه الله هذا المفهومَ وأسرارَه وضوابطَه في كتابه القيّم مدارج السالكين وأن الأدب هو : ( اجتماع خِصال الخير في العبد ، وأنه على ثلاثة أنواع : ( أدبٌ مع الله سبحانه ، وأدب مع رسول الله وشرعه، وأدب مع خَلْقه ) . والمقصود أن الأدبَ مع الله تبارك وتعالى هو القيامُ بدينه ، والتأدُّبُ بآدابه ظاهراً وباطنا ً. وأما الأدبُ مع الرسول فالقرآنُ مملوءٌ به فرأس الأدب معه كمالُ التسليم له ، والانقيادُ لأمره ، وتلقِّي خبره بالقبول والتصديق . ومن الأدب معه أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي ، ولا إذن ولا تصرُّفٍ حتى يأمر هو ، وينهى ويأذن كما قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تُقَدِّموا بين يدي اللهِ ورسولِه ) . وأما الأدب مع الخَلْق فهو معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم ، فلكلِّ مرتبةٍ أدبٌ ، والمراتب فيها أدب خاص . فمع الوالدين أدبٌ خاص ، وللأب منهما أدب هو أخصُّ به ، ومع العالِم أدب آخر ، ومع السلطان أدب يليق به ، وله مع الأقران أدب يليق بهم ، ومع الأجانب أدب غير أدبه مع أصحابه وذوي أُنسه ، ومع الضيف أدب غير أدبه مع أهل بيته ، ولكل حال أدب .
جعلنا الله وإياكم من المتخلقين بأخلاق الإسلام المتأدبين بآدابه .