حكى ابن جرير الطبري حكاية رجل فقير طالما نام لياليه بلا عشاء, وطالما امضى نهاره بلا غداء, كان قد جاوز الثمانين من العمر, كان يعول ثماني انفس وهو تاسعهم لا يجدون ما يسدون به جوعهم. كان رجلا مؤمنا موقنا ان الله هو الذي قسم الارزاق فأعطى لحكمة ومنع لحكمة, جاءته امرأته لبابة فقالت: يا أبا غياث هذا ثالث يوم لم نذق فيه طعاما وقد هدنا الجوع, فاخرج فالتمس لنا شيئا, قال: افعل ان شاء الله, خرج يجول في طرقات مكة حتى اذا اشتد الحر وخارت ساقاه ألقى بنفسه في ظل جدار, جعل ينكت التراب بيديه, فلمست يده شيئا فإذا هو حزام, فتحه فإذا هو مليء بالدنانير الذهبية, قام من فوره الى داره, فدخلها ونادى امرأته وقص عليها ما وجده قالت له: خذ منه دنانير واشتر لنا بها شيئا فإننا مضطرون, والمضطر يأكل الميتة.
قال لها: لا والله لن يمسه احد حتى نعرف صاحبه, لعله يجود لنا منه شيئا, فإني والله لن أُدخل جوفي حراما قط, ولا لأهل بيتي, وخرج قاصدا الحرم يبحث عن صاحب الحزام.
يقول الامام الطبري: رأيت رجلا من خراسان ينادي: يا معشر الحجاج من وجد هميانا (حزاما) فيه ألف دينار فرده علي أضعف الله له الثواب, فقام اليه الشيخ الفقير فقال: يا خرساني بلدنا فقير اهله, ولعله يقع في يد رجل مؤمن يرغب فيما تبذله له حلالاً فيأخذه ويرده عليك, قال الخراساني: كم يريد? قال: العشر مئة دينار, قال: لا, ولكن نُحيله على الله تعالى, وافترقا, وفي اليوم الثاني ذهب الشيخ الفقير الى الحرم فوجد الخراساني ينادي: يا معشر الحجاج ووفد الله من وجد هميانا فيه ألف دينار ورده أضعف الله له الثواب, فقام الشيخ اليه فقال: يا خراساني قد قلت لك بالامس ونصحتك, فاجعل له عشر العشر (عشرة دنانير) فيرده عليك, ويكون له في العشرة ستر وصيانة, قال الخراساني: لا نفعل ولكن نحيله على الله عز وجل, فلما كان اليوم الثالث ذهب الشيخ الى الحرم فسمع الخراساني ينادي بالنداء نفسه الذي كان ينادي به من قبل قال له: يا خراساني قلت لك اول من امس ان تعطي من وجده العشر مئة دينار, وقلت لك امس ان تعطيه عشر العشر, عشرة دنانير, فلم تقبل, فاعطه دينارا واحدا عشر عشر العشر, يشتري بنصف دينار قربة يسقي عليها المقيمين بمكة بالاجرة, وبالنصف الآخر شاة يتخذها لعياله, فقال الخراساني: لا لا نفعل ولكن نحيله على الله عز وجل, فرأى الشيخ انه لا حيله له في الامر, وانقطع آخر خيط من حبال آماله, والشيخ يعلم ان من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه, فقال للخراساني: تعال خذ هميانك (حزامك الذي توضع به النقود) يقول الطبري: فمشيا وتبعتهما حتى بلغا الدار, فدخل الشيخ ومعه الخراساني فأعطاه الهميان, ففتح الخراساني الهميان واخذ يعد الدنانير ويقلبها فقال: هذه دنانيري كاملة, ثم وضع الخراساني الهميان على كتفه وخرج, ولم ينظر في وجه الشيخ, ذهل الشيخ مما رآه, وكذلك زوجه وبناته, فلما ابتعد الخراساني ويئسن منه سقطن على وجوههن والجوع والضعف واليأس يعصف بهم, واخذن يبكين, فجأة سمع الشيخ حركة خارج الدار, فلما نظر فإذا الخراساني قد رجع فسأله عما ارجعه? فقال: يا شيخ مات ابي, وترك ثلاثة آلاف دينار, وكان قد اوصاني بأن اتصدق بالثلث (ألف دينار) وقد اوصاني بأن افرقه بأحق الناس عندي, فوالله منذ خرجت من خراسان ما رأيت رجلا احق به منك, فخذه بارك الله لك فيه, ووضعه وذهب الى حال سبيله.
يقول الطبري: فما راعني الا الشيخ يسرع خلفي يدعوني قال لي: لقد رأيتك تتبعنا من اول يوم, وانك لمبارك فتعال معي الى الدار, يقول الطبري: وقد كنت غلاما صغيرا, فأدخلني, ثم نادى: يا لبابة يا فلانة وفلانة, حتى جئن جميعا, فأقعدني عن شماله, وحل الهميان, وقال: ابسطوا ايديكم, واقبل يعد دينارا دينارا حتى اذا بلغ العاشر قال: وهذا لك, حتى فرغ الحزام, ونال كل واحد منا مئة دينار, ثم التفت الشيخ الى زوجه فقال: أرأيت يا لبابة ان الله لا يضيع اجر الصابرين? يا لبابة لقد منعنا انفسنا دينارا حراما, فجاءنا الله بألف حلال, قال الامام محمد بن جرير الطبري: وقد نفعني الله بهذه الدنانير فتقويت بها في طلب العلم, وكتبت العلم سنين, وبعد ست عشرة سنة عدت الى مكة, وسألت عن الشيخ وبناته, فعلمت ان الشيخ توفي بعدما فارقته بأشهر, ووجدت البنات ملكات تحت ملوك, فكنت انزل على ازواجهن واولادهن فأروي لهم القصة, ويكرمونني غاية الاكرام, وسألت عنهم بعد ذلك بأربعين سنة, فعلمت انه لم يبق منهم احد رحمة الله عليهم جميعا, حدثت هذه الحكاية سنة 240ه¯.
سر ياقلم واكتب الأبيات منقوشه ؛؛ بيوت شعر تشرفني معانيها
للصاحب اللي يمد الطيب وينوشه ؛؛ من روس قوم على العليا مبانيها
رفقة شرف ماهي بالتلفيق مغشوشه ؛؛ يسمع بها قاصي العرب ودانيها
______________________________
لوضاقت الدنيا على راعي الطيب ؛؛ يبقى شذى طيبه على الناس طايب
الغيم في صدر الثرى صوت ترحيب ؛؛ والطيب هو فعلك يا راعي النجايب
وفي كل يوم تشرق الشمس وتغيب ؛؛ وتبقى أنت الحاضر والكل غايب
الشاعر عبدالمحسن محمد المشاري