أمسكت بيد صغيرها إلى السوق راجلةً مع أول خيوط الصبح، نصف ساعة وتصل إلي السوق، لا تملك ترف ركوب سيارة أجرة.. بيتها أحوج إلى تلك النقود، لا مفر من بيع قُرْطها الذهبي.. العيد بعد غدٍ ولابد من ثياب جديدة وطعام جيد لصغارها، لن تقبل أو تحتمل نظرة حرمان أو انكسار في عيونهم، وخاصة في يوم العيد يوم الفرح الأكبر للصغار، لابدّ أن يبتهج صغارها مهما كلّفها ذلك..
زوجها مريض قعيد البيت لا يعمل منذ شهر مضى.. تبخّر ما معهم من نقود قليلة رغم فقرهم.. فعِزة أنفسهم وكرمهم جعل الجميع يحسبونهم أغنياء من التعفف، ظلّت ليالي وأيام تصارع لهيب الجوع مدخرة الطعام لزوجها وصغارها كي تبقى هامَتُها عزيزة ويدها عُليا.. توحي للجميع أنها تعيش في رغدٍ من العيش، واليوم تبيع قُرْطها كي لا يُهتَك سترهم، زوجها عامل اليومية لم يدخر وسعًا في سبيل سعادتهم، أفنى عافيته لأجلهم كثيرًا يمضي إلى عمله الشاق عليلاً وبعد عودته أول الليل مكدودًا يملأ البيت سعادة بضحكاته ومزاحه ودعاباته الجميلة، ظلّ كنسمة صيف أو شجرة ظليلة في بيداء محرقة لم يفارقه الرضا أبدًا وإن عصفت بهم الأحوال أو عبست لهم الدنيا.. هو نخلة سامقة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
صَحَت من شُرُودها على صياح ابنها يشير إلى الأرض المفروشة بآلاف العملات الورقية، جمدت في مكانها لا تدري ما تفعل؟! أتمضي في سبيلها وتدع النقود وشرّها؟ أم تلتقط النقود؟ أشارت إليه أن يجمع النقود في حجره لكنه أبَى..-
لا.. لا.. يا أمي ليست لنا.. سيغضب الله منا.. سيأتي الشرطي ويأخذنا.تبسّمت في رضا..
- خُذْها يا بني.. لقد فسدت الذمم، وخربت الضمائر، أخشى أن تقع النقود في يد خائنة.
جمعت النقود في حجر صغيرها بيد مرتعشة وظلت تروح وتجيء في الشارع علّها تجد صاحبها أو من تودع لديه النقود.. بيد أن الطريق كان خاليًا والحوانيت مغلقة، شعرت بالنقود وكأنها جبل ثقيل تحمله على رأسها.. وما كاد يفتح أول حانوت مع شروق الشمس حتى هرولت إليه وألقت النقود بين يديه عساه يعثر على صاحبها، ولما ولت مدبرة ناداها:-
- يا امرأة ما اسمك.. وأين بيتك؟-
ما لك واسمي وبيتي دعني وشأني..
ومضت، وفي الطريق إلى السوق راودها الحلم.. آه لو هذا المال لها.. إذًا لذهبت بزوجها إلي طبيب المدينة واشترت كل يوم دجاجة أو نصف كيلو من اللحم وخبزًا أبيض وفاكهة وحلوى وثيابًا كثيرة لأولادها ومرتبة ووسادة من القطن.. ولن تنسى نفسها، ستشتري ثوبًا جديدًا وصابونًا معطرًا ودهان شعر لتبدوا أكثر بهاءً في عين زوجها.
تمتمت في ضيق.. كدت أنسى الجيران سأذهب إلى السوق وأشتري أوزة كبيرة وبطة وأُعِدّ وليمة مشهودة لجميع الجيران.
ولم لا أستأجر لزوجي حانوتًا يجلس فيه معززًا ليُرحم من الكدّ والضنك؟! لم يعد بدنه العليل يحتمل مشقة العمل كأجير يومية.
تبسمت ساخرة.. أتحلم وتطمع في كل هذا دفعة واحدة،
وقبل أن تبلغ نهاية الشارع لحق بها صاحب الحانوت ودعاها للقاء صاحب النقود.. ملأها الضيق والرهبة وأبت الرجوع معه..-
عادت إليكم نقودكم فما تريدون منا.
مشت ورائه بعد إلحاح.. بالغ صاحب النقود في شكرها والامتنان ومدّ يده بلفافة من النقود إليها لكنها أبت بشدة.. بيد أنه رفض إلا أن يضع النقود في جيب الصبي،
ورجعت إلي بيتها.. ولما قصّت على زوجها الأمر غضب وانتفض من رقاده..-
يا أم الأولاد أتأخذين أجرًا على الأمانة والشرف.. رُدّي إليهم مالهم.. الله الغني.
صدق زوجها.. كان في نفسها شيء من النقود فليس من المروءة أن نتقاضى جزاء لكوننا شرفاء أمناء.. أخذت بيد صغيرها ومشت في الطريق إلى السوق لتردّ المال وتبيع قُرْطها الذهبي.