خَـان فـ هَـان
.
حرص الإسلام على كل خُلُق فاضل ، وعلى كل معنى جميل .
فَحثّ على الوفاء " فوا ببيعة الأول فالأول أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم" رواه البخاري ومسلم .
وأمر بأداء الأمانة " أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك " رواه أبو داود والترمذي .
وحرص على الوضوح والـنُّـصْح ..
قال جرير بن عبد الله : بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم . رواه البخاري ومسلم .
ومن هنا فإن من تمسّك بتلك المبادئ السامية سَمَـا بنفسه ، وعلا شأنه .. وكان عند الله أعـزّ وأعظم من بيت الله .
ليس دمـه فحسب ، بل دمـه ومالـه وعِرضه .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : ألا أي شهر تعلمونه أعظم حرمة ؟
قالوا : ألا شهرنا هذا .
قال : ألا أي بلد تعلمونه أعظم حرمة ؟
قالوا : ألا بلدنا هذا .
قال : ألا أي يوم تعلمونه أعظم حرمة ؟
قالوا : ألا يومنا هذا .
قال : فإن الله تبارك وتعالى قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم إلا بحقها ، كَحُرْمَةِ يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا . رواه البخاري بهذا اللفظ .
ونظر ابن عباس إلى الكعبة فقال : ما أعظم حرمتك وما أعظم حقك ، والمسلم أعظم حرمة منك ؛ حَرّم الله ماله ، وَحَرّم دمه ، وَحَرّم عِرضَه وأذاه ، وأن يظن به ظن سوء .
ونظر ابن عمر يوما إلى البيت أو إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك .
قال سعيد بن ميناء : إني لأطوف بالبيت مع عبد الله بن عمرو بعد حريق البيت إذ قال : أي سعيد أعظمتم ما صنع بالبيت ؟ قال : قلت : وما أعظم منه ؟ قال : دم المسلم يُسفك بغير حقِّـه .
وَحرّم الإسلام ترويع المؤمنين ، فقال عليه الصلاة والسلام : " من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه ، وإن كان أخاه لأبيه وأمه " رواه مسلم .
وقال : لا يحلّ لمسلم أن يُروِّع مُسلماً . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
قد تعجب إذا علمت سبب وُورد هذا الحديث !
وذلك أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه ، ففزع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يَحِلّ لمسلم أن يُروِّع مسلما
كل هذا مُشعِر بعظيم قدر المؤمن عند الله .. وعظيم حُرمَتِـه .
غير أن هذا القَدْر قد يَزول
وتلك المكانة قد تتلاشى أو تضعف .. عندما يَنزل المؤمن من عليائه ، أو يتخلّى عن عِـزِّه .
فإنه ما رَفَع قَدْرَه إلا الإيمان .. وما أعلى شأنه إلا التمسّك بالمبادئ العِظام
وحين يتخلّى عن ذلك أو بعضه فإنه يُزِل نفسه منازل المهانة .. أو يُسكنها مساكن الذّلّـة .
حين يَخون الأمانة .. فإنه يُهدِر قَدْرَه ..
وحين حفِظ الأمانة .. علا قَدْرُه .
يَد المؤمن لو قُطِعت فإنه تُفدى بِنصف دِيَـة
وحين يَخون فإنها تُقطَع في مقابِل خمسة دراهم !
ولذا حين اعترض المعرّي .. وادّعى تناقض الشريعة ، فقال :
يد بخمس مِئين عَسْجَدٍ وُدِيَتْ = ما بالها قُطِعت في ربع دينار ؟!
رَدّ عليه أهل العِلم .. فقال قائلهم ، وهو القاضي عبد الوهاب :
صيانة العضو أغلاها ، وأرخصها = صيانة المال ، فافهم حكمة الباري
كان الفضيل بن عياض لِصّـاً يَقطع الطريق ..
ذَكَر الذهبي في السِّيَر عن الفضل بن موسى قال : كان الفضيل بن عياض شاطراً يقطع الطريق .
هكذا كان !
كان الجميع يَحذره ..
وكانوا يَخشون شَـرّه !
فتاب وأناب .. ولزِم محراب العبودية .. فصار أهل العِلم يُجلّونه .. ويَقبَلونه ويُقبِّلونه !
بل صارت أقواله مناراً لأهل الإسلام .. ونبراساً لأهل الإيمان .
فإذا قال قولاً أصغى إليه الجميع .. واستمع له الحاضر والبادي !
فكم بين كونه لِصّـاً يَقطع الطريق .. وبين كونه صالحا عابدا عالماً تُقطَع إليه المفاوز ، وتُضرب إليه أكباد الإبل ؟!
فيا بُعد ما بين الحالين !
الأولى حال " خَان فـ هَان " والثانية حال " صَان فَـعَـزّ وكان "
قال ابن القيم رحمه الله :يا مغرورا بالأماني ! لُعن إبليس وأُهبط من منزل العز بترك سجدة واحدة أُمِرَ بها ، وأُخْرِج آدم من الجنة بلقمة تناولها ، وحُجِبَ القاتِل عنها بعد أن رآها عيانا بملء كف من دم ، وأمر بقتل الزاني أشنع القتلات بإيلاج قدر الأنملة فيما لا يحلّ ، وأمر بإيساع الظهر سياطا بكلمةِ قَذْف أو بقطرة سكر ، وأبان عضوا من أعضائك بثلاثة دراهم ؛ فلا تأمنه أن يَحْبِسَك في النار بمعصية واحدة من معاصيه ، (وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا) .
منقووووول