رحلة استكشافية في وسط الجزيرة العربية(5-من أبها إلى نجران ) - ::: مـنتدى قبيلـة الـدواسـر الـرسمي :::

العودة   ::: مـنتدى قبيلـة الـدواسـر الـرسمي ::: > :::. أقسام ( دغــش الــبـطــي) الأدبـيـة .::: > :: قسم القـــصص والروايـــات ::

إضافة رد
انشر الموضوع
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 04-05-2005, 02:16 AM   #1
 
إحصائية العضو








العماني غير متصل

العماني is on a distinguished road


افتراضي رحلة استكشافية في وسط الجزيرة العربية(5-من أبها إلى نجران )

من أبها إلى نجران




لم تتجاوز مسافة المرحلة الأولى التي تبدأ من معبر غابة معروفة 32 كيلومتر، ويتعلق الأمر ببعض الهكتارات التي لا يتجاوز علو أشجارها الشوكية ستة أمتار.
أما وديانها فتتداخل مع هضاب محصحصة تتحول فيما بعد إلى أكوام من الكرات غير المرتبة.
أما الشعاب ذات المنحدرات الدائرية فهي مجزأة إلى قطع أرضية مزروعة. لقد ازداد عدد سكان هذه المنطقة منذ أن فرض الملك سلطته عليها.
وبجوار خميس مشيط كان مضيفنا المدير المالي للمنطقة قد أرسل ابنه ليبحث عنا حيث لحقت سيارته بقافلتنا. ويعد خميس مشيط مركزا تجاريا مهما. أما البيت الذي سنذهب إليه هو عبارة عن مزرعة محصنة بأسوار عالية تعلوها أشجار شوكية. وهو عبارة عن برجين متقابلين يفصل بينهما فناء داخلي. وفي ظرف نصف ساعة كنت قد أطفأت ظمئي، وقد أعجبت بالرسوم الجميلة المزركشة ذات الأشكال الهندسية المحيطة بالجدران، كما أشبعت بخوراً مثل صبي المذبح (في المسيحية) في الأسبوع المقدس، وكانت رائحة العطور تملأ البيت، منبعثة من إناء من النحاس المرفوع على أرجل.
أتذكر أني نمت طويلاً حينما كان فيلبي يتحاور مع المضيف. كما أن رأس ريكمان كانت تتأرجح، أما جاك فكان يثبت المبخرة بيديه في انتظار أن نسمع عبارة تفضلوا التي ستحررنا من هذا الانتظار، لأنها تعلن عن وصول الأكل لقد انتظرنا أربع ساعات جالسين متربعين وأيدينا محشورة في جيوب معاطفنا السمراء، ولتحيا المجاملة. كان مضيفنا عبد الوهاب مسرورا بهذا اللقاء ونحن أكثر، كنا نغرق أيدينا في صحن الأكل الممتاز الذي قدمه لنا.
كان فيلبي يسليني بقوله: إنه انتظر جواب أحد الأمراء خلال عشرة أيام في الطائف؟ كان يتردد عليه يومئا دون أن يتطرقا للموضوع الذي كان في ذهنهما. وفي الأخير كان فيلبي هو الرابح من هذا لأنه عرف كيف ينتظر.
وكان ريكمان يلخص هذا الوضع عندما كان يهمس إلي من خلال فتحة باب كبير أسود ذي مصراعين منقوشين: "يافليب، في الشرق إن من يريد ربح الوقت يضيعه والذي يريد ضياع الوقت يربحه ".
وقد كان الجهل بهذه الحقيقة سببا في معارك غير مجدية بين أوربيين ومشارقة. وقد ختمت الجلسة بهذا الدرس في الفلسفة، وعدنا إلى خيمتنا ونحن نسير تحت ضوء القمر الناصع وخيال ظل المنازل ذات الميزابات البارزة.
وفي هذا الصباح كانت دابتان تتقدمان خطوات نحو الخيمة، إنه جمل متعجرف يطارد حلمه مجترا، وحمار خادم منقاد يدوران في حلقة مفرغة فوق بيدر. قوائمهما غارقتان إلى النصف في التبن، يجران خلفهما طفلاً يلوح خلفهما بقضيب صغير من الخشب. وعندما يراد فصل الحب عن التبن يقوم الرجال بذر هذا الخليط في مواجهة الريح بالمذراة، حيث يتجمع التبن في مكان يتكوم فيه، بينما يسقط القمح تحت أقدام مذريه.
وأتساءل، ألم يكن من الأفضل لدول الشرق الأوسط استيراد هراوات صغيرة تستعمل باليد، ومحاريث مناسبة للجمل وحبوب مختارة. ثم بعد ذلك تأتي الجرارات والسدود في مرحلة ثانية. إن المستقبل البعيد للبلدان العربية لا يتمثل في البترول ولا في الأشغال التقنية الكبرى، فهذه لن تكون إلا مساعدات (دعائم) قوية، بل إن هذا المستقبل يتمثل في إعادة تشجير البلد، وهذه مهمة ثقيلة لو تحققت فإنها ستؤدي إلى تغيير جذري في الحياة.
يعد وادي بيشة أحد الأودية الكثيرة والجافة في المملكة العربية السعودية. أما مجراه الذي حفرته الأمطار النادرة السقوط فيضيف في الصحراء على مسافة مئات الكيلومترات. ولهذه الوديان المشتتة عدد كبير من الروافد يطلق عليها شعيب.
ها نحن أولاء نعبر وادي بيشة من أجل معاينة صخرة مغطاة بالنقوش والرسوم، وبعد ذلك سنذهب للسلام على الشيخ سعيد بن مشيط أمير ورئيس قبيلة شهران الذي يعيش في قصر محصن. وقد كلفتني هذه الزيارة احتساء12 فنجاناً من القهوة والشاي كما شاهدت فيها صورة رجل ذي بنية رياضية، وذي أنف غليظ وشفتين مزمومتين تحيط بهما لحية سوداء داكنة. يظهر أن مزاج رفقائنا لم يكن رائقا، فقد أخبرنا مسفر بأن حالة إحدى الشاحنات لا تسمح لها بمواصلة الطريق. فأجابه فيلبي بروح رياضية: وما الفرق؟ "نحن سنواصل وأنت ستلحق بنا بصحبة السائق ولو تطلب منكم الأمر السير ليل نهار".
وقد كانت الشاحنة مستعدة للانطلاق هذا المساء"إن شاء الله " فالأمر أقل خطورة مما كان يتصوره السائق.
وعندما أشاهد كل مرة عملية جمع العفش وتفريغه من جديد أغبط مرافقينا على صلابتهم. فالحقائب المعدنية ممتازة شرط أن تجنب حرارة الشمس التي تسبب ارتفاع درجة حرارة بعض المواد مثل الأفلام التي توجد داخلها مثلاً.
عبد الوهاب هو المسؤول المالي لمنطقة عسير التي وصفها ابن خلدون في القرن الخامس عشر الميلادي قائلاً: "عندما غادرتها لم أجن إلا على نفسي ". نأمل أن تستمر عسير في استحقاق هذا الوصف، وفي تسيير هذا الشعب المتواضع الذي لا تربكه اهتمامات الحضارة المعاصرة. لكن الأوهام مقلقة في هذا المجال.
أما الشعوب المتنقلة (الرحل) فقد أصبحت مدعوة للتحضر ولتقبل هذه العدوى في جميع الحالات.
لقد أصبحت الوطنية هي المعوض عن ذلك، لكن في أية شروط؟ إن الإسلام دين موحى، وغير محرف، وتكفي ثغرة واحدة لينهار البناء بأكمله.
كنت أستمع إلى ضجيج الصحراء جالسا في ديوان عبد الوهاب متوسدا متكأ مكعبا مزينا ببعض قطع الزجاج من حجم خمس سنتيمترات مدمشقة باللون الأزرق والوردي والبنفسجي.
كان فيلبي قد عايش الزمن الذي كان يخفي فيه وزير المالية في المملكة العربية السعودية خزائن الدولة تحت (حصيرة بيته). وهذه حكاية صحيحة، ذلك لأن الميزانية السنوية للبلد قبل ثلاثين سنة لم تكن تتجاوز أبدا 000، 150 جنيه إسترليني. واليوم مع تفجر البترول. فإن الدخل الوطني ارتفع إلى ستين مليون جنيه.
ويحلو لي أن أتخيل مضيفنا في خميس مشيط وهو يكرس التقاليد العتيقة وينام برأسه على وسادات مصنوعة من جلد الجمال ممتلئة بالريالات التي تطنطن تحت رأسه مانعة إياه من النوم. تمثل الأودية والشعاب الهيكل العظمي لشبكة الاتصالات في البلد، والقوافل جميعها تعبر هذه الشعاب ولا تستثنى قافلتنا من هذه القاعدة.
بعض الأودية تجري من الجنوب إلى الشمال لتعرج بعد ذلك غربا منهية حياتها الصاخبة في البحر الأحمر.
ليس من السهل تحديد نظام الخريطة المائية للحجاز وعسير، ومع ذلك يجب تتبع الخيوط الدقيقة لهذا النظام إذا أردت رسم الخريطة المائية لهذه المنطقة المعروفة جزئيا.
وبدون الدخول في التفاصيل نورد نوعا من المشكلات التي تطرح يوميا:
في يوم 2 ديسمبر وفي الكيلومتر 31 من هذه المرحلة من رحلتنا كنا نعبر مجرى شعيب الحشرج أحد روافد وادي شد ورافد وادي المسيرق ورافد وادي تثليث ورافد وادي الدواسر الذي ينتهي في الصحراء شرق سلسلة جبال طويق.
وفي لحطة الانطلاق أخبرنا بوجود قافلة مؤلفة من ست شاحنات قادمة خلفنا بمسافة يومين. ما هذا؟ هذا بدون شك صدى بعيد لمرورنا من هناك. ويظهر أن الأمر كذلك لأننا لم نسمع عن خبر هذه القافلة بعد ذلك.
سنمر اليوم بمحاذاة واحات تندحة التي تشمل حوالي 150 مزرعة مسيجة. لقد سبق لفيلبي أن مر من هنا قبل 15 سنة، ولم يكن هناك إلا مسكنان مأهولان. وهذا دليل جديد على المصير الذي تلقاه الحياة المستقرة بمجرد ما يزول خطر الغارات القبلية. وهذا التوسع يؤكد رغبة كل بدوي من الرحل في أن يصبح حضريا. لا يطلب البدوي المتنقل، عندما تتوافر الظروف، أكثر من امتلاك قطعة من الأرض وزرع لأنها هي التي ستحرره جزئيا من حيرته ومن شراسة حياته الدائمة. وفي هذه الحالة تنتظم الأسرة البدوية في مجموعتين: الأولى تهتم بالزراعة في الواحات والأخرى ترعى القطيع في الصحراء.
هاهي ذي القافلة تعبر فجاجاً كثيرة الارتجاج بين الصخور الوردية وذات لون الكريمة فوق حجر الجرانيت المتآكل. وبعد تجاوزنا عدداً من القطعان وأضرحة كبيرة محاطة بشكل دائري بصفائح أحجار متراكمة، أفطرنا في ظل صخرة عظيمة شكلها شكل قارب وفي قمتها نبتتان تمتد جذورها في شقوق الأرض. ها نحن أولاء نعبر سهلاً رمليا يتراوح عرضه ما بين المترين وثلاثة كيلومترات، وهو محاط بأكوام غير مرتبة من الصخور المدورة. وبين نبتة وأخرى لا يتجاوز علوها مترا واحداً، كنا نشاهد حوالي ستة أرانب وأفراخ الحجل وبعض الغربان وحوالي عشرين رأساً من الغنم. وفي الجهة الأخرى كانت توجد ستة جمال تتقدم محملة بمواد تسير على غير نظام، ترعى عشبة من هنا وأخرى من هناك بشفاهها المتدلية. كانت ترفع رأسها مجترة ملقية نظرة على الصحراء ثم تواصل طريقها نحو الهدف الثابت: المرحلة المسائية، آبار المياه.
خلال مرورنا كنا نلتقط بعض الرسوم الثمودية. وكانت الهضاب التي تبعد عنا كثيرا مخططة من جوانبها بلفافة كبيرة من نبتة الوسمة عظلم الوردية اللون. إنها صخور البوكسيت أصل مادة الألمنيوم.
وفي المساء كانت خيمتنا تتكئ على كومة من الرمال مقابل ركام من الصخور. وفيما كنت أدلف ببذلتي التي أحاضر بها، وفي يدي بندقية، فإذا بي أشاهد قطا متوحشا ينزلق تحت الصخور بين رجلي. لقد فاتني وقت إطلاق النار، وكنت سأحقق نصراً لو كنت جئت به إلى الخيمة، وقد حاولت خلال نصف ساعة بعد ذلك لكن دون نتيجة.
كانت نيران المخيم تلمع، وأكوام الدخان ترتفع صاعدة في عنان السماء. وكانت النجوم تسير مع الكواكب في سماء صافية وعميقة إلى حد يسبب الدوران. لقد كتب المستكشف الفرنسي Charcot: "إن الرحلة الاستكشافية التي تكون فيها مغامرات غالباً ما تكون سيئة التنظيم ". وفي هذه الحالة فإن رحلتنا هذه تعد مثالية.
لقد قام رجالنا بصيد جيد، وقد حملوا لي معهم جربوعا، وهو حيوان طوله 15 سنتيمترا، ناعم الجلد، وبلون الرمل: رمادي وأبيض، وهو يوجد بكثرة في المملكة العربية السعودية. وأثره يشاهد في كل جهة في الصحراء، ورجلاه الأخيرتان التي تشبه أرجل حيوان الكنغر طويلة جداً، يستخدم النصف المقدم منها للجلوس عليهما. كانت الجربوعة تثبت فينا عينيها الدائريتين والواسعتين الفاقدتي القدرة على المقاومة، وهما تعلوان أنفها الأفطس. أما الذيل الذي يتجاوز طوله طول الجسد فينتهي بمنقار أبيض.
وعلى الرغم من أنها كانت مربوطة في رجل السرير فإنها كانت تثب إلى علو يتجاوز طولها بعشر مرات، وكان ريكمان يضحك وهو يتربع رجليه تحته. لقد أيقظتني من نومي مذعورا مرتين عندما كانت تقفز أمام وجهي.
وفي الفجر كانت قد حفرت نفقا على عمق 80 سنتيمتر ثم تحررت. ولم أرها فيما بعد، فلتستقبلها عفاريت الصحراء تحت الأرض.
سيكون فطورنا هذا الصباح في منحنى قرن القاعة، على صخور علوها 150 متراً، وهي سهلة إلى حد ما، أما قمته فتشتمل على طبقات من الصخور المزركشة بعدد من التوائم السيامية التي تحيط بالجبل على شكل مدرجات منحدرة.
ومنذ قرون خلت كان الثموديون يقصدونها سواء بهدف ترصد بعض الأعداء أو للتمتع بالمناظر الجميلة، وقد خلفوا وراءهم مئات النقوش موقعة بمادة بلون الحديد على الجهة السوداء من الصخرة.
يؤدي بنا هذا الطريق نحو واحة طريب حيث ما زالت توجد نقوش ورسوم ثمودية من بينها واحد يمثل أربعة رؤوس وأربع أذرع.
وبين الفينة والأخرى كنا نتجاوز خيمة سوداء أو سمراء ذات سطح أفقي رمادي، مندفعة بين أكوام من الصخور. مساكين هؤلاء البدو، إنهم يحيون ويموتون تحت هذه الأمتار العشرة المربعة من الشعر الذي ينسجونه بأيديهم.
كان هناك جدار صغير من اللبن يتفرع عنه سور من الحصى، محاط ببعض فروع الأشجار الشوكية. هذا كل شيء. لقد تجاوزنا خلية عائلية في الصحراء. وهذا يجعلني أفكر في قول لورنس الذي كتب في "أعمدة الحكمة السبعة" قائلاً: إن نمط العيش البدوي قاس؟ حتى بالنسبة لأولئك الذين تقاسموا معهم حياتهم. أما بالنسبة للأجنبي فإنه مرعب.
هذه هي واحة طريب ذات المزارع المحصنة وبدون كلس في النوافذ. أما أهلها فليسوا شرسين أبدا، وقد كانت بعض نسائهم المحتجبات تخرجن كالطيور من حقول البرسيم.
كان هناك رجل يتقدم نحونا، إنه مفلح الذي تعرف عليه فيلبي. وفي الحقيقة إن الذي كان يهمه ليس هو مفلحا بل أختاه شرف وزهرة اللتان أثارتاه بجمالهما.
كنا نقف خارج مزرعتهم أمام باب صغير مغلق بفروع الأشجار اليابسة. وقد استغلت هذه الفرصة لأخذ صور للنساء اللواتي كن يلبسن ثيابا خضرا وصفرا باهتة. كما أنهن كن يرتدين حجابا أسود ممسوكا من فوق رؤوسهن بخيط بلون البرتقال. وقد حزمت بأطرافه بعض القطع النقدية تتدلى من العقال فوق العنق وعلى الكتف، بالإضافة إلى زوج من الجواهر المتعددة الألوان الزاهية الممزوجة بعدد من القطع المكونة من أطراف الرصاص والخشب والجلد.
ما يشد الرجل إلى المرأة البدوية صغيرة كانت أم كبيرة هو صوتها الهادئ الذي يشبه صوت مجرى الماء البارد، رخيم، وأحيانا تتخلله نبرة حزينة، لكنه دائما مليء بجمال غير محدد.
لقد تسلقنا إلى القمة التي يسكنها مفلح عن طريق أدراج مبنية بالطين ودائرية من جهة اليمين.
كانت سهلة التسلق، لأنها واسعة وقليلة الانحدار، وما كنا ندري كثيراً عما إذا كنا نصعد درجا أم أننا نتسلق منحدراً هادئاً.
كانت هناك ممرات كثيرة تؤدي إلى الرمال الرطبة في الوادي، أما المنازل فتعيش في الظل الذي يشبه الظلام الذي يحصنها من العدو المزدوج: البدو المهاجمون والشمس.
لقد دخلنا المكان الذي تقيم النساء فيه وهو عبارة عن غرفة واسعة محاطة من ثلاثة جوانب بأرائك مصنوعة من مادة منحدرة من التراب المدكوك، وهي مغطاة بأقمشة ضعيفة.
كان يوجد هناك قدر وطنجرتان معدنيتان ومهراس جميل من النحاس وقربة ماء، وهذه كلها تشكل في مجموعها زينة النساء القرويات. ودخان موقدين من النار يخرج من خلال فتحات في سقف الغرفة. همهمت امرأة عجوز بتحية وذراعاها متكئتان على واجهة الجدار المغطاة. يمكنها أن تطمئن فنحن لم نر شيئا من وجهها.
مررنا ببناء مؤلف من ثلاثة أو أربعة أدوار: واحد منها مخصص للحبوب، والآخر للرجال، والثالث للنساء وهو الذي يكون دائما من جهة القمة، وبعده وصلنا إلى السطح المطل على الوادي، وهو محاط بأسوار صغيرة ذات فتحات مطلية بالجير الأبيض، تسمح للأبناء بأن يناموا في العراء.
لم ير فيلبي مرة أخرى شرف وزهرة، فالسنوات تحسب بضعفها عند البدو: أما شرف فكانت قد انتقلت من ربيع العزوبة إلى صحراء الزواج، أما زهرة فماتت.
وعلى هذه الحقيقة التي نواجهها دائماً في الحياة واصلت القافلة سيرها متجهة نحو الشمال، تاركين خلفنا الثلاثين مزرعة في الواحات المتشابكة على علو عشرة كيلومترات، حيث تهجم الحيوانات على الأشجار الكثيرة المثمرة والمنتشرة في هذا المكان، بارية قواعدها جاعلة منها أشكالاً تشبه الأواني.
وفي نهاية المرحلة تسلقنا معاً أنا وفيلبي إحدى القمم حيث كان يلمح إلي بأنه هو الذي اكتشف صخور البكسيت الموجودة في هذه المنطقة. ومن الأكيد أنه كان هناك منجم بهذه الصخور ليس إلا.
فهل يستغله أحد؟ تلك قضية أخرى.
وحيثما تكون في هذه القمة؛ فإن الرؤية تمتد بك فوق الأفق المجهول.
وفعلاً وإلى هنا كنا فقط نقتفي أثر المستكشف فيلبي في رحلته خلال الفترة 1936-1938م.
وغداً سنترك هذا الأثر. وبعد أن استيقظت من نومي ذهبت لأغسل وجهي أمام صخرة كبيرة حيث من السهولة وضع الإناء الذي كنت أغتسل فيه، وفجأة وجدت نفسي وجهاً لوجه مع راعية بدوية كانت تراقبني بذهول واضعة على رأسها آنية معدنية غير مستوية، فهربت بسرعة فيما كانت الشمس تسطع فوق خوذة رأسها السلمية. تتبعها بعض أنثى الماعز السوداء التي كانت تلوح من بين حواجز الجرانيت ذات الأشعة التي تشبه الثلوج القديمة المتجمدة. وكان هناك قندس (طائر) يقف على غصين يراقب اغتسالي.
وبعد أربعة كيلومترات من السير توقفت القافلة عند بئر زيوة من أجل التزود بالماء النقي وذلك بعد أن أزلنا عن وجهه الرائحة الخفيفة التي خلفتها القرب ورائحة بول الحيوانات.
وبينما كنت أرمي بالرصاص حجلين كان رجالنا يسحبون قربهم مرددين أناشيد خاصة بأماكن الماء في الصحراء.
لقد بني بئر زيوة بإتقان من أحجار يصل قطرها إلى مترين، وماؤه لا يبعد إلا بستة أمتار عن السطح.
وبالقرب من البئر نحتت علامة على صخرة محددة اتجاه الماء، وهي عبارة عن دائرة تتوسطها نقطة، وهو أسلوب قديم في تحديد مكان البئر حيث إنه يقيه من الاندثار في حالة انهمار سيول عنيفة تمسحه أو تهدم تجهيزاته الموجودة.
وفي الكيلومتر 12 كانت توجد بئر معيزل. وما دام هناك ماء؛ فإن المنطقة ستكون مأهولة طبعاً. وكان هناك بدوي يراقبنا في اندهاش دون أن يتحرك من مكانه. وهو ذو وجه يشبه وجه القراصنة، وخصلات شعره طويلة وهي مشدودة إلى بعضها ومحاطة بغترة باللونين الأحمر والأبيض يرتديها على رأسه، كما أنه كان يتمنطق بحزام به مسامير من النحاس وضعت فيه خراطيش الرصاص.
فما زال أثر النزاعات القريبة العهد التي كانت تدور بين القبائل باديا: هناك ثلاثة أبراج غير مأهولة ومحطمة، وعشرات من أشجار النخيل ذابلة أصبح بعضها مجرد جذوع سود بدون عسب.
كان هناك جربوع على شكل بقعة فضية، فهرب أمامنا مثيرا نقعاً من الغبار عند كل قفزة. مررنا بأثر سيارات أمير كان يصطاد حديثاً في هذه المنطقة. لقد أكثر فيلبي من التوقف من أجل وضع الخريطة، فهذا اهتمامه الكبير والهدف الأساسي من سفره. وقد كنا نساعده في حدود إمكاناتنا.
يتسع الوادي بين الكيلومتر 25 إلى الكيلومتر 27 ليصل عرضه إلى 300 متر. كانت هناك الكثير من عرائش الثمام التي تعلو كل واحدة منها كومة من الرمال التي جمعتها الرياح. وكلما كنا نفكر في أننا نستطيع العبور من إحدى الممرات التي كانت أمامنا كنا نزداد سوءا، إذ كلما اندفعت السيارة في هذه التراكمات كنا نجزم أنها ستبقى محجوزة في القمة. وقد جرت العادة أن يسبق القافلة رجلان إلى أن يجد أحدهما الممر المناسب.
أما بالنسبة لفيلبي. فإن الأمر محلول ما دامت سيارته الجيب قد عبرت. وليس على الشاحنات إلا أن تقتفي أثره حيث إنها يجب أن تلحق بنا في المخيم مساء.
وفي الكيلومتر 33 عثرنا على أثر غريب وهو عبارة عن مثلث من الأحجار يمتد مسافة 265 متراً في السهل. لأي شيء كان هذا؟ هل للصيد أم للزراعة؟ من المستحيل معرفة ذلك. فالبدو لا يعيرون اهتماماً لتاريخهم سوى بعض الحكايات المتعلقة بالأنساب العائلية.
وتحت تأثير معتقد وراثي متعلق بالخوف، بمجرد أن شاهدتني امرأة راحت تهرول وتصيح رافعة ذراعيها نحو الخيام الملتصقة بالصخور.
كانت رمال النفود البعيدة تتطاير إلى هنا مالئة جوانب التلال التي نقف عليها غباراً. هذه الرمال تكون أحيانا ناصعة كرمال شواطئنا، وأحيانا تكون بلون العنب تحتاج دائماً إلى تجديد لاعقة كل ما يصادفها، وقد كانت هذه الرمال تساير توجه الرياح العاتية.
كنا نسير في مجرى واد غارق بين التلال محفور الجوانب تتراءى به زوابع دائرية.
وهاهي ذي أمامنا بئر ثالثة تسمى بئر القري، وهي محفورة في الأرض ممتلئة بدعامات من فروع الشجر. وكانت هناك امرأة تلبس ثوبا أسود ممسكة بهذه الدعامات، تتقلد صنيديقاً مستطيلاً مغلقا بقماش بنفسجي. إنه مرقد طفلها الصغير الذي كان مغطى بقطعة من القماش وملفوفا بشرائط كما تلف مومياء صغيرة، وعلى الطفل أن يتحمل الشهور الأولى من ولادته وخاصة خلال الصيف الذي تصل درجة الحرارة فيه إلى 45 درجة و 50 درجة.
وفي أثناء كل مرحلة كان رجالنا يتسلون بجمع الأعواد اليابسة، وفي هذه المرحلة تخاصم خمسة منهم فيما بينهم بصوت مرتفع، وذلك بسبب قطعة من الأعواد. وفي الحقيقة إنهم كانوا منقسمين إلى مجموعتين: العرب في مجموعة والأفارقة في مجموعة أخرى، كل مجموعة كانت توقد نارها منفصلة. وقد أرجع مسفر رئيس الفريق المياه إلى مجاريها بسرعة.
وبمجرد أن تنتهي هذه الأحداث الصغيرة يعودون كلهم إلى العمل.
كنا نقطع بالتتابع واديي جربا: أبودلقم وسلام اللذين تشرف عليهما بالتتابع جبال وتلال دليم، وربيض، وسد، وأخيرا ضور السلم، وهو الذي سننصب قريبا منه خيمتنا في الجهة الجنوبية. كان عداد المسافة يشير إلى أننا قطعنا 1576 كيلو متر منذ انطلاقنا من جدة.
إننا نتسلق هضبة ذات قمة مفتولة تذكرنا بلون الفهد المخطط بالأبيض والأسود.
كانت هناك خمس سيارات تحوم قبل أن تتوقف على الصخور المطلة على المخيم تنعكس عليها خيوط الشمس الوردية ساعة الغروب.
وكل صباح كان الرجال يقومون للصلاة بتأثير من فيلبي الذي كان يصلي معهم. وبعد ذلك بقليل كان ريكمان ينهض هو الآخر ليتلو دعوات صلواته اليومية.
في الخامسة والنصف من كل صباح، وبالضبط عند غياب آخر نجمة من السماء حيث يمكن أن نتبين شعرة ممدودة أمام عيوننا، كان الفريق بأكمله يولي وجهه صوب مكة بعد الأذان أو بالأحرى بعد التكبير للصلاة:
الله أكبر
أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله
حي على الصلاة
حي على الفلاح
الصلاة خير من النوم
الله أكبر
لا إله إلا الله
يقفون قي احترام متضرعين إلى الله، بينما عيونهم تتثاقل بالنوم، وأحيانا ترتعد من شدة ا لبرد.
وبعد ذلك نكون دائرة متلفعين بعباءاتنا حول النار ذات الدخان الشرس. وعند مطلع الفجر كنا نرى الألوان المختلفة تشع من حولنا: الوردي والأصفر والأزرق. بعدها تتوالى أصوات دقات النحاس مع صوت دقات حبات القهوة داخل الهاون في نغمة منتظمة وسريعة وفجأة تسمع ضربتين معلنتين عن وقت تناول القهوة بالهيل، كل منا يشرب في فنجانه بما في ذلك الحليب المغلي، نتناولها مع أحاديثنا التي كانت تدور غالبا حول المرحلة القادمة أو التي قبلها.
كانت الساعة قد تجاوزت السادسة عندما كنت أحاول تسلق جبل ضور السلم الذي يشبه لون أرضه لون الخبز السكري، وهو يطل على المخيم كامرأة مهانة. كان يرافقني بداح المرشد ومسفر الثاني أحد رجالنا، وقد كان يجب علي التخلي عن إقحام بداح في تسلق الثلثين الأخيرين من هذه القمة. فهو مريض بالقلب وغالبا ما كان ينبطح على الأرض في الظل من فرط ما يبذله من جهد. أما الثلث الأخير فيظهر أنه صعب جداً. إذ هناك صخور عظيمة مكورة ليس بينها فتحات، وهي تغلق المسالك تماماً. وعلى بعد 15 متراً من القمة كان الأمر يزداد صعوبة، وكان علي أن أحاول المرور من بعض المسالك فوق القمة التي كان المرشد المرافق لي يعطيني أسماءها.
رجعنا إلى المخيم في التاسعة ونحن نمسح حبات الجرانيت التي تسربت إلى داخل ثيابنا.
عزائي في هذا الفشل أنني قمت بمعاينة الوجهين الآخرين من ضور السلم بعد الانطلاق، لكنني اخترت أسوأهما.
كانت رحلتنا تحاول تجنب الطرق المعروفة، وكان فيلبي يجري في كل قبيلة مقابلة مع أحد أفرادها الذي سيتخذه مرشداً مقدماً له بقشيشاً جيداً كما كان كريماً معه كلما وجد أنه كان يعرف أسماء الطرق التي نعبرها. كان فيلبي متشدداً في هذه النقطة المهمة بالنسبة إليه في وضع خريطته. إنه ثعلب قديم، وقد كان يشرع في اختبار الرجل سائلاً: ما اسم تلك القمة الجبلية التي تبعد عنا نحو الجنوب الشرقي؟ طبعاً كنا نجهلها تماماً. لكن البدوي الذي يملك الأجوبة عن كل سؤال يعطيها اسمًا. بعد ذلك كان فيلبي يوجه أسئلته عن الجهة الشمالية التي قطعناها مركزا على الأماكن التي عرفناها البارحة. وهكذا بدأت عقدة الخيط تنحل. وكان فيلبي يحاول تكسير رأسه بأسماء جديدة مسرعاً في وضع أسئلته. كانت عيونه تلمع فرحاً عندما تتطابق الأجوبة من الواقع. وفي حالة العكس فإن الحوار يتسارع، وأحياناً يغرق المواطن في سيل من الكلمات الغامضة مبديا استياءه.
كانت هناك صعوبة أخرى تتعلق بنطق الكلمات ونقلها إلى الحروف اللاتينية: الإنجليزية أو الفرنسية.
وأنا شخصيا أشاطر ما كتبه لورنس في كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" حينما قال: "هناك بعض المناهج العلمية في نقل الحروف وهي مفيدة لأولئك الذين يعرفون شيئا من العربية ليساعدوا بها أنفسهم، لكنها مجرد ذر للرماد في عيون الجمهور العريض ".
ومع ذلك طويت الكتاب مباشرة بعدما وضعت خطا تحت هذه السطور لأنني أعرف مدى اختلافه عن وجهة نظر فيلبي وريكمان وجاك.
وعندما يكرر المرشد صراخه بالاسم نفسه أكثر من عشر مرات فإن على لغويينا أن يرفعوا أيديهم للسماء يائسين. كلما ركزوا على حرف أساسي في الكلمة يوافقهم المرشد على ذلك متسائلاً إلى أين يريد هؤلاء الأوربيون أن يصلوا.
إن اشتقاق الكلمة ذو طبقتين: الجذر والروح الخشنة، وكانت الاختلافات الصوتية تتراقص فوق رأس البدوي بدون تمييز.
ومن الأكيد أن رفاقي كانوا على حق، لكنني كنت أجد صعوبة في كتابة متبطحات Mutabttahat هل تتكون من كلمتين أم من كلمة واحدة.
ها نحن أولاء ننطلق في مرحلة عادية مسافتها 50 كيلومتر في استعراض بين الهضاب المتوسطة الحفر التي قلما تتجاوز 70 متراً. وكانت هناك امرأتان تغزلان الصوف بجوار خيمتهما وهما تحرسان الجمال. وبعيداً من هناك عثرنا على محرابين متجهين نحو القبلة من أجل أداء الصلاة، كل واحد منهما عبارة عن نصف دائرة مرسومة بالحصى إلى الأرض ومتوجها صوب مكة. كانت تستخدم في أداء الصلاة اليومية. كان نحو 80 جملاً ترعى بين جبل الحمرة، لون أغلبها أسود والأخرى بيضاء. وفي أماكن متعددة كنا نلاحظ وجود حفر خلفتها الجمال عندما كانت تسير فوق الرمال متخلصة من الحشرات التي تعلق بساقها.
وباقترابنا من مريغان بدأنا نشاهد قرادات كبيرة تنزلق فوق الرمال مسرعة بالقدر الذي تسمح لها به قوائمها القصيرة متجهة نحو المناطق الشهية والملتحمة من الركبة. وما عليك إلا أن تغير موقعك ببضعة أمتار، ومع ذلك فهي ستتبعك مقتفية أثرك، فلا يبقى أمامك إلا أن تحرك قدمك من مكانه أو أن تقتلها تحت حذائك.
وفي سهل وادي ثفن الذي سنعبر مجراه الواقع في الكيلومتر 28 كانت توجد بعض الكثبان الرملية. إنها صفوف من الرمال يتراوح طولها بين 30 و 40 متراً، كانت ترقص في هدوء مع الرياح الدافئة التي تنثرها في الفضاء. وبعبورنا السهل كنا نشاهد في جميع الاتجاهات سحبا من الغبار التي تنتهي بطبقة سمراء تعلو وتنخفض محركة النباتات في كل اتجاه.
وبمجرد مرورنا ببعض المخيمات التي كان أصحابها قد غادروها منذ أيام قليلة وصلنا إلى السهل الذي لا يزال مختفياً عنا بجبال الحصير من جهة الغرب التي تحيط به، وقد هدتنا إليه بعض التيوس التي كانت توجد بهذه المنطقة. الله ينجيها من نيران البنادق. أما هنا فعلى الأقل تحميها الجبال من الصيادين المرافقين للأمراء.
لقد نصبنا المخيم في الطرف الشمالي من قمة لحية الجمل التي تسلقت فيها مسافة 180 متراً لأعثر في القمة على نظام معقد من الأسوار الصغيرة التي كانت تستخدم في صيد الحيوانات في زمن ما قبل التاريخ، وهي عبارة عن خمسة أسوار قصيرة من الحجر يتراوح قطرها ما بين 50 إلى 300 متر، ويوجد في مقابلها مجموعة من صفائح الأحجار يصل حجمها إلى متر مكعب.
لقد نزلت متأبطا قطعة صفيحة رسم عليها وعل يتبعه كلبان، وجدتها موضوعة على أحد الأسوار.
لقد كان الأفق مختنقا بالرمال التي كانت تتطاير في الفضاء، فأغلقت الخيمة التي كانت تبعد عن السفح بحوالي 100 متر. أنا من الذين يحسون بإعجاب فيزيقي حقيقي بالعيش في العاصفة. كانت المنطقة جبلية، لكن اتجاه الرياح كان غير ملائم لنا ولذلك لم يكن حولنا إلا القليل من الرمال. أتأسف لهذا لكنه شعور انتابني هذه اللحظة، ذلك لأننا كنا قد جمعنا أغراضنا المهمة في حقائبنا الحديدية، ولم يبق لي أي اهتمام آخر ولا أية مسؤولية. وفي أسوأ الحالات كان رجالنا الأربعة عشر سيقضون ليلة سيئة كنا سنضطر فيها للإقامة معهم في خيمتهم في حالة ما إذا كانت الرياح قد اقتلعت خيمتنا. كانت العواصف تحرك الخيمة بعنف وقد اتضح لنا أنها كانت قد أوشكت على اقتلاع الطنب من الأرض.
كانت الرمال في شكل بقايا الأرز تملأ الفراش والأرض وتقع على ثنايا الغطاء. وكانت أسرة المخيم تتحرك في نظام مع تحرك جدران الخيمة، وعندما استيقظت وجدت إحدى ركبتي قد تأثرت بفعل هذا النزول والصعود طول الليل.
لقد اختل نومنا بالأصوات التي كنا نسمعها تقترب من الخيمة إلى أن سقطت علينا. وبدأت أدور في مكاني ورأسي ملفوف في قماش الخيمة الممزق باللونين الأحمر والأسود و:"ليلة سعيدة يا صديقتي العاصفة ورياضة جميلة في ربوع الصحراء والليل ".
في الصباح كان كل شيء قد عاد إلى وضعه الطبيعي لكنه كان مغطى بطبقة من الغبار تقاس ببعض السنتيمترات، أما الحرارة فكانت تصل على الأقل إلى 12 درجة مئوية.
أما فريقنا فكانوا يجرجرون معهم ديكا ودجاجتين من رأسيهما كانوا برفقتنا لعدة أيام وهي موثقة بحبل ومربوطة بإحدى الشاحنات وكانت هذه الطيور تتحمل ردحات الحفر تاركة أحياناً ريشها في الطريق، وكان الديك يصيح كل فجر وعند كل توقف للقافلة. وفي هذا الصباح خرقت هذه الطيور الثلاثة قواعد المجاملة فهربت مجبرة أصحابها على مطاردتها بعنف.
توجهنا نحو إحدى المحطات الشمالية مديرين ظهرنا لهدفنا الجنوبي: نجران. ها نحن أولاء نعبر مجرى أحد الوديان، وبعد دقائق معدودة وجدنا أنفسنا نشارك البدو في الطريق المؤدية إلى بئر حفيرة المسعود حيث تورد الجمال والماعز. كلمة حفيرة تعني الثقب المفتوح في الرمال.
كان فيلبي يكثر من السير في جميع الاتجاهات مكثراً من تقسيم المناطق. وفي الكيلومتر 17 التحقنا بالطريق المؤدي من مكة إلى نجران عبر واحات بيشة. وهكذا وجدنا أنفسنا في منطقة لا يعرفها إلا حفنة من الأوربيين.
وبعد ذلك بقليل أي بعد مسافة نصف فرسخ وصلنا إلى وادي تثليث وكان فيلبي أول من وصل إليه سنة 1932م. إن رسم قسم كبير من هذا الوادي كما هو موجود على أجود الخرائط الحالية كان في حاجة إلى تعديل بحوالي 17 درجة جهة الغرب. وكان هذا هو الخبز اليومي لفيلبي واضع خريطة هذه المناطق.
مجرى هذا الوادي رملي وعرضه 200 متر يشبه لفافة صافية ومنعرجة، وهو يحاذي الجانب الشرقي من الوادي. هناك عدد من الروافد الصغيرة تنزلق نحو المجرى الرئيسي، وكنا نحدد معالمها من خلال سطور النباتات الكثيفة التي تنبت فيها، وخاصة نبتة السمر وهو دون شجر الطلح وجذوعها فارغة من الداخل.
وقد جرت العادة أن يستغل كل زائر للمنطقة فرصة وجوده بها للسلام على المسؤولين المحليين.
وبمجرد دخولنا إلى البيت قدم لنا الشاي، قدمه لنا رئيس الشرطة الذي قضى 16 سنة في هذه المهنة حيث انتهى بمنصبه هذا الذي أبعده عن مركز المدينة. وهو هنا يسكن كوخا من الطين بسقف من سعف النخيل. وهناك بعض خيام البدو التي تتكئ على أغصان الشجر القوية. وتحت واحدة منها كان يوجد سجينان مكبلان يساعدان حارسهما المسلح. كان عدد أفراد الشرطة قليلاً سواء هنا أو في أية جهة أخرى، لكنها تشرف على مناطق شاسعة. فالجرائم نادرة الوقوع، لأن الحاكم يشتغل بشكل مكثف مع المسؤولين المحليين. إن هيبة المسؤولين بالإضافة إلى تربية الناس والأعراف القبلية كافية على العموم لاستتباب الأمن. وعندما يجتمع النمو الاجتماعي وشخصية الملك التي تهيمن على الجميع فلا يمكن أن ننتظر عدم النظام .
وكانت الوضعية ستكون خلاف ذلك لو أن النظام المركزي كان ضعيفا، في هذه الحالة كانت بعض القبائل ستصبح ثائرة إن لم تكن خطيرة. تقوم السلطة في الصحراء على قاعدة ذهبية مؤداها أن البدوي يثق في الأشخاص أكثر من ثقته في المؤسسات.
أما العقوبات فمعروفة وهي عنيفة ومفزعة. فاللص تقطع يده (يفضل قطع اليد اليسرى) يقطعها سياف بعد أن يسقي نصل سيفه في قدر من الزيت المغلي على النار، وهي وسيلة رحيمة توقف نزيف الدم وتنقي الجرح وتجعل الجاني يغمى عليه. أما المتهمون بالخيانة الزوجية فيربط أحدهما مع الآخر فيحولان بعد ذلك إلى قطع ثم يرمى بهما في الفراغ لتتكفل الجوارح بالباقي.
وصلنا عند أمير الكهيف الذي كان ينتظر انتهاء بناء قصره باللبن الطيني.
وفي انتظار ذلك كان يقيم في مجمع مبني من سعف النخيل مكون من عدد من الغرف. في الغرفة الأولى كان يستقبل الضيوف، وفي الثانية يقيم النساء بينما يحتل الخدم الغرفة الثالثة.
وبينما هو جالس على سجادة متكئاً على وسادة من جلد الجمل شرعنا في السلام عليه. الأمير رجل فحل، لطخ مرض الجدري وجهه. لكنه يحس أنه فوق هذه النقائص، وهذه صفة مدح أعجبتني فيه كثيراً.
كان هناك أكثر من عشرة رجال من الأشراف لا أدري من أين جاءوا، كانوا يشاركوننا انتظار المائدة الآتية.
وفى إحدى زوايا القاعة كان أحد الخدم يحضر القهوة على موقد به جمرات حمر. وكنت قريبا منه أستنشق رائحة ما كان يحضره فيما كانت بنان رجلي العارية تعبث بسطح الفراش، لأننا نخلع الأحذية قبل الدخول.
كان الخادم أبكم لكنه كان يعرض مبتغاه بحركات من عينيه السوداوين والواسعتين، حيث إن زملاءه يفهمون هذه الحركات.
وفي إحدى الزوايا كان يقبع أحد الرجال حاملاً على كتفه صقراً مكبلاً ومعلقا على عمود، وكان الصقر يتأملنا بعجرفة على الرغم من أنه كان مجرداً من متاعه وخافضاً عينيه.
وكان حامله يتأبط سيفاً في غمد من الجلد واضعاً إياه فوق يديه ليقدم له الأكل. وكان الطير الجارح يضع قطعة اللحم بين مخالبه ثم يخفض رأسه نحوها ليقتلعها وليبتلعها فيما بعد. إنها الرياضة الأرستقراطية المفضلة عند العرب، لكن الصيد بالصقور فقد أهميته عندما أصبح يمارس بالسيارات. فقد أصبح البدو يكثرون من صيد الحبارى ونادراً ما يصطادون الغزلان. في أثناء هذه التأملات نودي علينا للأكل بعبارة تفضلوا. وقد جاء دورنا لنمتلئ بلحم خروف جيد بالأرز المخلوط بالتوابل.
كانت أيدينا متسخة على الرغم من أننا مررنا بها تحت الماء المنسكب من الإبريق، وهناك في هذا اللقاء تعرفنا على مرشد جديد، إنه مسرح بن محمد، أحد أعضاء أهم قبيلة من قبائل قحطان التي ورد اسمها في سفر التكوين.
كنا قد تخلينا عن المرشد السابق الذي كان مريضاً. قد تعني هذه الكلمة اعتذازا أو نزوة أو حقيقة. لكنها اليوم تمثل بالنسبة إلينا واقعاً. وأعتقد أن متطلبات فيلبي المتأنية والقائمة على أساس هي التي تجعل هؤلاء التعساء يخضعون لهذا الإلحاح الثقافي وأحياناً يخضعون لسخطه عليهم مثل ذلك الذي تلقاه منه مرشدنا المريض. فإذا أضيفت إلى هذا جرعات الغبار العادية التي كان يتلقفها والتي كانت تتجمع فوق العفش في عمق الجيب نعرف أن هذا هو الذي أدى إلى إصابته فعلاً بصداع في رأسه. لكننا نعرف أنه يكفي يوم واحد من الراحة وبعض الريالات مقابل الساعات التي قضاها في خدمتنا ليشفى من مرضه، وليلتحق بعد ذلك بخيمته على جمل أو راجلاً راجعا إلى الوراء في الاتجاه المعاكس للرحلة لمسافة مرحلتين أو ثلاثة. سيحدث له مرة أن يرفع رأسه وهو راجع نحو القمم البعيدة التي عبرها معنا متمتقا: " لقد وجد هذا العفريت الشيخ عبد الله فيلبي طريقة ليعلمني بها الأسماء التي كنت أجهلها".
وبعد عشرة كيلومترات نحو الجنوب نصبنا خيمتنا في سهل ممتلئ بصخور البازلت المحصحصة غرب جبال القرينات الثلاثة.
إننا نقترب من منطقة غنية جداً بالنقوش الصخرية، وكنا نجهلها طبعاً. وهذه إحدى مزايا تأليف كتاب بعد رجوعنا إلى بلدنا، يمكننا أن نزور ولننظر ماذا سيفعل غداً.
ما هذه النقوش والآثار الموجودة في جنوب المملكة العربية السعودية التي نبحث عنها ونجمعها حتى الإشباع؟ ما أهميتها؟ ليس من الصعب أن نعرف الجواب. كان فيلبي يتحول إلى عالم مطلق عندما يتعلق الأمر بالحديث عن المملكة العربية السعودية، كما أن جاك كان قد نشر حديثا أطروحته التي حضرها لنيل الدكتوراه في العلوم الشرقية تحت عنوان: "المؤسسة الملكية في جنوب الجزيرة العربية قبل الإسلام ".
لكن المتخصص الحقيقي في الموضوع هو رئيس رحلتنا هذه البلجيكي: ك. ريكمان. إنه أحد المتخصصين القلائل في العالم في هذا المجال.
وهذه بعض الملاحظات المأخوذة من منشوراته حول هذا الموضوع. ويتعلق الأمر باللغات والكتابات الموجودة على النقوش والآثار العربية قبل الإسلام.
تنقسم اللغات السامية الجنوبية إلى مجموعتين: العربية الشمالية والعربية الجنوبية.
1- وتنقسم عربية الشمال إلى اللحيانية والثمودية والصفوية.
لقد انقرضت هذه اللغات التي كانت توجد قبل الإسلام على الرغم من أنها تقترب كثيرا من العربية المعاصرة. أما الوثائق التي احتفظت بها فترجع إلى آلاف السنين وتنتهي بظهور الإسلام.
وبالنظر إلى الظروف الخاصة بكل واحدة منها؛ فإن مجال هذه اللغات يمتد تقريبا من موازاة دمشق إلى مكة، باستثناء الثمودية التي كانت تستخدم بشكل عادي في الجنوب بعيداً عن هذه الحدود.
2- نصل بذلك إلى المجموعة الثانية أي السامية الجنوبية، وهي التي تعرف بعربية الجنوب.
لقد كتب ريكمان: "نستخدم باستمرار مصطلح "حميريين (اسم القبيلة الأقل أهمية في حمير) للإشارة إلى شعوب ولهجات ونقوش مرحلة ما قبل الإسلام في العربية السعيدة التي كانت موزعة على الأراضي المعروفة اليوم باليمن، وحكومتا عدن وحضرموت ". ويضيف: " وتنقسم عربية الجنوب إلى مجموعة لهجات: السبئية من جهة واللهجات التي تقترب من المعينية أي القتبانية والحضرموتية".
والسبئية هي لغة مملكة سبأ التي عثر على علامات لها في إثيوبيا.
أما ما يتعلق بكتابة العربية الجنوبية؟ فإن ريكمان يقول ما معناه: "حروفها ثابتة وهي نوع من الكتابة الأثرية الجميلة".
هذه الكتابة تختلف جذريا عن تلك التي يستخدمها العرب اليوم. مع أن كل واحدة منهما تكتب من اليمين إلى اليسار.
لم تقم رحلتنا بأي بحث في هذا المجال، وهو المجال الذي يحتاج إلى استغلال إذا كنا نرغب فعلاً في تحديد المراحل التي مرت بها الكتابة الحميرية.
وعلى العكس من ذلك فإن بعثتنا حملت معها 9000 نقش ثمودي بينما كان مجموع ما عرف منها في سنة 1950م لا يتجاوز 1800 نقش. ومن جهة أخرى فإن هذا العدد سيثري متن النقوش السامية بذخيرة من علم قراءة النقوش السامية بإضافة 300 نقش حميري، حيث لم يكن يتوافر منها في السابق إلا 4500 نقش.
هذه النقوش "تسمح جزئيا بإعادة بناء مرحلة تقدر بحوالي 12 قرناً (تنتهي حوالي سنة 550 م) من التاريخ السياسي والثقافي لمختلف دول جنوب الجزيرة العربية".
كان سكان هذه الدول منتجين للمعادن الثمينة والعطور والتوابل، مثل البخور والمر المكاوي وأنواع أخرى من العطور. وكانوا كذلك أصحاب قوافل كبيرة على الطريق الرابطة بين الهند والشرق.
ويختم ريكمان كلامه حول هذا الموضوع: "لقد عرفت دول العربية الجنوبية في العالم بفضل التقدم في نشاط أهلها التجاري. والمجهود الذي حققوه في مجال السقي (بناء سدود) جلب لهم غنى وثراء تشهد عليه الآثار وعلم قراءة النقوش ".
أما المحتوى العادي للنقوش فيمكننا أن نستشهد عليه بما يقوله عنه ريكمان عندما كان يتكلم عن النقوش الصفوية الموجودة في العربية الشمالية: " تجتمع في علم الأنساب الابتهالات والإلاهيات، والنوح على الموتى، والصلوات لله بهدف الحصول على الخير لكل بدوي: الصحة، والمنتجعات التي تجنب من الحوادث المحزنة، والغنائم في الفزوات، ووفرة قطعان الماشية وسلامة الجمال والخيول والشياه والماعز، ووفرة العشب...،
وكانت اللعنات قد نزلت على الأعداء وعلى أولئك الذين كانوا يحاولون إحداث إعطاب أو مسح بالنقوش ".
ويمكن أن يشمل هذا الوصف النقوش الثمودية في جنوبي الجزيرة العربية على الرغم من أنها كانت جد مقتضبة. بينما تتضمن أغلب النقوش الحميرية كما سبق لنا أن لاحظنا جملاً متنوعة وأكثر شمولية وأهمية.
تتجاوز هذه المعطيات القليلة المتوافرة حول أهمية النقوش المجموعة خلال الرحلة بكثير، كل ما كان يمكن أن يقوله لنا البدو حول هذا الموضوع. فالبدو لا يعيرون اهتماما للنقوش الصخرية التي توجد بكثرة في بعض المقاطعات التي يسكنونها، لأن أغلبهم لا يعرف القراءة والكتابة، فماذا إذن ستعني لهم هذه الحروف المتصلة؟ لقد جعلت شروط الحياة في الصحراء من البدوي مخلوقا عمليا. لا يهتزا إلا بالأشياء التي يرى فيها قيمة في نظره. قدم له مكافأة عن كل نقش أو عن كل رسم وستراه يركض ليطلعك على ما يوجد منها في أرضه.
وعندما نشرح للعرب الذين جئنا إلى بلدهم بغرض جمع هذه النقوش أننا جئنا بغاية دراسة تاريخ أجدادهم يظهرون بأدب شكوكهم حول ما نقول. أغلبهم يتصور أننا نبحث عن نص يشير إلى كنز من الذهب أو البترول على الأقل.
أولم يكونوا يطلقون على أجدادهم الوثنيين اسم "أهل الجاهلية". وبالنسبة لأغلبيتهم فإن أصل تاريخهم يبتدئ ببداية الإسلام.
إنها لأحداث غريبة تلك التي تجري في الصحراء، لقد فقد مرشدنا والديه غرقا في سنة 1917م عندما جرفهم سيل عنيف آخذا كل ما وجده في طريقه: البدو وقطعان الحيوانات والخيام والنباتات قاذفا بالجثث كما تقذف الأشياء الضائعة على بعد عشرات الكيلومترات من مكان سكناهم.
في أثناء هذه الهدنة التي نتوقف فيها عن تاريخ العائلة، أشار المرشد إلى وجود بئر محاطة بصخور قرب خط السير الذي كنا فيه، لكنه كان يجهل إن كنا سنجد فيه نقوشا أم لا.
وفي الطريق كان أكبرنا سناً في الجيب بالإضافة إلى المرشد يتمرغون في سدادات القنينات، فوق العفش. بينما كان الأصغر سناً جاك وأنا نركب في مقدمة السيارة وسيستمر هذا التناقض طول الرحلة. لأن فيلبي كان ينوي قيادة سيارته الجيب بنفسه. واقتراح مكان في سيارة أخرى غير الجيب على فيلبي شيء لا يتصور. لأنه بهذا الاقتراح سيموت غيظاً. بينما إذا اقترح عليه مكان ريكمان فإنه سينظر إليه على أنه متعب.
توجهنا شرقا في أرض غير معروفة عبر سهل كانت بعض الوعول تركض فوقه قبل عشرين سنة. كانت القافلة تتقدم بارتياح فوق الرمال المتناثرة والمغلقة، وكان هناك حماران وبدويان وعشرة جمال وأرنب، وقد كان هذا الأخير يثير حماس الرجال الذين كانوا يرفعون أصواتهم فوق الشاحنات مع إطلاق الرصاص عليه. وفي الكيلومتر 23 وصلنا إلى أقصى الشمال الشرقي لجبال بني يعلا التي كان انعكاس نور الشمس يتجمع على قممها.
لقد حان وقت جمع نقشين ثموديين، وإشعال سيجارة في انتظار أن يغير محمد السائق الشخصي لفيلبي عجلة الجيب قبل أن ندخل إلى منطقة بئر مريغان. دارت القافلة في زاوية مستقيمة فدخلت في معبر قصير عرضه 70 متراً ينقطع في الهضاب الجنوبية للسهل.
في هذه الأثناء أخذت جاك من ذراعه وقلت له: انظر إلى جنبات الصخور المحطمة في هذا المعبر، إنها مغطاة بالنقوش على علو يتراوح بين ستة وثمانية أمتار. وهناك أخرى على جوانبها المنحدرة، وعلى أطرافها الحادة من جهة اليسار كما من جهة اليمين، إنها تنتشر في كل مكان. وكنا نسير ببطء، ورجالنا مندهشون ثم متحمسون، لكن حماسهم سينطفئ عندما قدروا التوقف الطويل المتوقع للانتهاء من جمع كل هذه النقوش. كان طول المعبر 300 م لكنه يتسع فيما بعد مكوناً هضبة رملية تنتهي بتجمع تستطيع أن تعبره السيارات. كان هناك عدد من المجاري الصغيرة التي طمرتها الجمال تلتقي حولها ست حفر محاطة برمال على شكل مخابئ للحشرات. إنها آبار مريغان التي جفت ستة منها والسادس فقط هو الذي كان به ماء على عمق 13 متراً.
إلى العمل إذن وبدون ضياع للوقت. كل واحد منا يجب أن يأخذ اتجاهاً مختلقا، مذكرته في يده وآلة التصوير على كتفه. يجب معاينة كل صخرة. وفجأة سمعت ريكمان ينادي جاك. كانت نغمة صوته تدل على أنه عثر على شيء ذي أهمية كبيرة فالتحقت بهما من الطرف الجنوبي لهذا المدرج الدائري. لقد دخل القلم معركة جديدة، وكان ريكمان يتسلق دون خوف حائطا علوه ستة أمتار. لقد اكتشف في إحدى الصخور نقشاً تاريخيا للملك أبرهة من أصول حبشية.
عدد سطوره عشرة وعرضه خمسة أمتار، ومجموع رموزه 440 رمزا، يرجع تاريخه إلى ملك كان مسيحيا، ذلك لأن المملكة العربية السعودية واليمن كان بهما عدد كبير من المسيحيين في هذه المرحلة من التاريخ. يبدأ النص بصليب، والجملة الأولى منه تحدد توجهه الديني: "بقدرة الرحمن وبقدرة مسيحه... ".
أما الأحداث التي تروى فقصيرة جداً: "قام الملك أبرهة ملك سبأ وحضرموت وأماكن أخرى في مؤسسة مملكته بحملة على شعوب المنطقة التي نحن فيها". ويسمي هذه العملية باقتضاب "غزوة ربيعية" كما ذكر رؤساء هذه البعثة، كما أشير إلى انتصارهم. "وقد أعطي المغلوبون عهداً في مقابل الضمان الذي قدمه الغالب " وهو مؤرخ في 662 أي سنة 547م.
كانت للسبئيين طريقة متناقضة لكنها منطقية في معاملة بعض الأسرى. كانوا يضعون رهن إشارتهم أراضي شاسعة طبعاً مقابل نسبة معينة في المحصول. وفي أثناء تأملنا في هذا النقش سمعنا طلقات نارية مما جعل البدو يصيحون وهم يقتربون منا، زارعين الرعب في قطعانهم ومخيفين ثلاث أو أربع نسوة. لكن الأمور عادت بسرعة إلى وضعها الطبيعي. كان ذلك نتيجة مطاردة رجالنا لطيور الحجل المحيطة بالبئر.
وبالقرب من البئر كان البدو ينزلون أحمالهم ويجمعون جمالهم: النساء يسحبن الماء، وأقدامهن عارية وملفوفات في لباسهن الفضفاض ذي اللون القرمزي، مشمرات عن أذرعهن والوجه مغطى بقطعة من القماش سوداء تقف عند حد العيون.
لقد لبست عباءتي من أجل إخفاء آلة التصوير جيداً. ممنوع قطعيا التقاط صور للنساء. والكثير من الرجال يمتنعون كذلك عن التصوير. وكان فيلبي قد حذرنا من الإزعاج الذي قد ينتج عن عدم الضبط في هذا المجال. جلست، فهيأت بسرعة آلة التصوير لالتقاط صورهن في أثناء استدارتهن، ثم ابتسمت بنوع من السذاجة، بينما كانت آلة التصوير موجهة نحو الهدف بينما كنت أنظر بعيني إلى مكان آخر، وبذلك تمكنت من التقاط خمس أو ست صور للنساء.
وبعد ذلك مباشرة بدأ صيد النقوش واستمر حتى المساء، حيث كنا نحتار في الاختيار بينها. وعندما كانت أسراب القطا، هذا الطائر الصحراوي المهاجر، ترفرف فوقنا لامسة رؤوسنا لتشرب من البرك المحفورة حول البئر عرفنا أن الليل قد اقترب. لقد كنت الصياد الوحيد بين الأوربيين، فأسقطت ثلاثا أو أربعاً طبخناها مع الحريرة، بعدما قطعت فوراً بمدية من عنقها بضربة واحدة، وهو ما كان يدفع طباخينا المسلمين إلى القول بأنها حرام ويرفضون تحضير الطعام بها.
كنا نشويها تحت الرماد ونأكلها، بعدما يحترق ريشها مع حليب النوق الذي يوضح بياضه جلود وحبات الرمل التي كانت تطفو فوقه. هذا الحليب ممتاز ومغذ جيد لكن استخراج الزبدة منه أمر مستحيل، أما مذاقه فيذكرني بالنارجيلة المتسخة.
لم يكن في بذلتنا البيضاء إلا جيب صغير في مستوى القلب وهو يسبب لنا مضايقة يومية، إذ بسببه تضيع أقلام المداد الجاف التي كان معنا منها عشرون قلماً، والأسوأ من هذا أننا ضيعنا البيكار الثمين. وقد نجد هذه الأشياء أولا نجدها مثلما حصل لسبحة ريكمان التي ضاعت منه. اللعنة على هذه البذلة ذات الجيب الواحد.
لقد خصصنا ذلك الصباح للنقوش تحت نور سيء لا يصلح لالتقاط الصور وخاصة نقش أبرهة الكبير. ثم انطلقنا بعد ذلك بفرحة رجالنا الكبرى الذين استغلوا كل مصادر الحجل المحلية.
عدنا إلى السهل الذي غادرناه أمس، وقد وجدنا صعوبة كبيرة في عبور منطقة مزروعة بالسمر والثمام التي كانت أوراقها اليابسة ترتطم مع أسفل السيارة مسببة صداعاً يؤلم في الأذنين. وبعد سبعة كيلومترات من مريغان غادرنا السهل الذي كان يرفرف فوقه ضباب كثيف حاجبا عنا رؤية القمم البعيدة. فأخذت القافلة معبراً طوله حوالي كيلو متر سيؤدي بنا إلى بئر محش الصغير الواقع بين أكوام من الصخور الوردية والزرقاء التي لا تصل إليها السيارات.
كانت هناك ثلاثة نقوش، وهو عدد قليل، يجب إذن شق طريق في هذه الأنقاض الصخرية الملونة بحثا عن المزيد منها. وبما أنني كنت في المقدمة مع المرشد فقد أسقطت حجلاً. في هذه الأثناء سمعت دوي رصاص يمر من فوقنا أطلقه بدويان خرجا من بين الصخور.
وقد تفوها بكلمات قصيرة وضعا بعدها بندقيتيهما فشرع المرشد في عناق كل واحد منهما. وقد قررت اللحاق بهما حينما كان مرافقي يفتخر بأهمية البندقية التي كانت معه. وبغتة خرجت منها طلقة نارية، فارتطم الرصاص الذي خرج منها بصخرة زرقاء قبل أن أصل بثواني قليلة. فقفز البدويان على سلاحهما، بينما عبس المرشد وجهه غضباً. كان المرشد يمسك مجموعة الطيور بيد.
كنت مسروراً بالمناقشة الساخنة التي كانت تدور بين البدو الثلاثة حول الجيب التي كانت تتزاحم مع الجمال في المعبر. فطلب المرشد من الناس التوقف مجاملة للشيخ عبد الله فيلبي. وبعد هذا وذاك فما الذي يعنيه نصف ساعة من الانتظار في حياة البدوي؟ وبعد ذلك بقليل جلسنا نحن الأربعة، وبينما كان المرشد يغلق أنفه بدأت تنهال علينا السلام عليكم في وقع سريع وأخوي.
ومن حسن الحظ أنه لم يصب بالرصاص، ذلك أنه حتى لو كان قد زار الطبيب فإن النتيجة ستكون هي نفسها.
لقد رسمنا في سيرنا شكل فاصلة طولها ثلاثة كيلومترات، وكما يفعل ابن مقرض (حيوان يصاد به) الذي يتنقل من منطقة إلى أخرى، دخلنا في المعبر الموالي الذي سيقودنا خلال عشر دقائق إلى بئر الزرق. وقد عبرنا مقابر ومعاقل البدو، هذا الوجود الأزلي والثابت بين الموتى والزراعة والصحراء. ومرة أخرى لم يكن الماء بعيداً، حيث إن بئر الزرق وبئر الفيل متجاوران. ترى هل يعد اسم الفيل هنا تذكيراً بالملك السبئي أبرهة الذي عثرنا على إحدى نقوشه في مريغان والذي قد يكون مر من هنا في القرن السادس الميلادي على أفياله في أثناء حملته على مكة؟ مسكينة هذه الفيلة، لقد ترك موتها وفشل أصحابها أثراً في التاريخ. وما زال البدو إلى اليوم يطلقون اسم درب الفيل على الطريق الذي كانت تعبره قوافل البخور المتجهة من اليمن إلى الحجاز.
وبعد نسخنا عدداً من النقوش المحلية عبرنا سهل نجد الأبيض في اتجاه الشمال الشرقي. وخلال خمسة عشر كيلو متر كانت عيوننا مثبتة على جبال القهرة التي تحجب خلفها سهلاً من الرمال البيضاء. وفي منتصف السهل تغيرت طبيعة الصخور، فغادرنا قمة من حجر الجرانيت للدخول في منطقة من الصلصال الرملي. وكانت الرمال تصل إلى منتصف جبال القهرة حيث توجد الأسوار العالية (التي تكبح جماح السيارات) وبها فتحة على شكل ممر مثير، إنه منفذ واديالخانق المؤدي إلى السهل.
كانت معالم المنحدرات الصخرية وخواصر القمم تتحدد كلما اقتربنا منها. وكانت الشمس المحرقة تخرج صفائح من الرمال الوردية المتراكمة من شقوق وتجاويف الصخور السوداء. مما أضفى على هذه الجروف (جمع جرف) طابعاً وحشيا وغريبا.
لقد دخلنا في وادي الخانق الذي يقع تحت إحدى الشعف (من الشعفة وهي رأس الجبل) التي لها شكل صومعة نحتتها قرون من الانجراف.
في هذا المكان سننصب خيمتنا مساء، وهو مكان هادئ بين الصخور المتعددة الأشكال، إنه مشهد حقيقي ترقص فيه الأحجار العملاقة التي تتخذ شكل أبراج وفطر وأهرام ومداخن وكواسر وكأنها تقوم بحراستنا.
وفي الليل استيقظت على نقرات خفيفة فوق سقف الخيمة. لقد سقط المطر خلال خمس دقائق. لكنها لم تكن سوى زخات مطرية قصيرة، لأن البدو يعانون من الجفاف الذي أصاب المنطقة بأكملها. آخر مرة سقط فيها المطر كانت قبل ثلاث سنوات. ولكن السحب كانت سوداً ناحية الجنوب بعيداً عن هذا المكان، نسأل الله أن يكون أكثر رحمة بتلك المنطقة.
وفي يوم الأحد 8 ديسمبر انقسمنا إلى فريقين: ريكمان وجاك سيعبران الأجراف المجاورة حيث كنا قد وجدنا عدداً كبيراً من النقوش، أما فيلبي وجاك فتوجها إلى منطقة أخرى.. كان فيلبي جالس ا على الرمل متذمرا منقاداً ومجروحاً، وكانت رجله اليسرى موضوعة على ركبتي وبها جرح خبيث وملتهب. وبعد تناول العلاج الضروري راح يعرج إلى الجيب. وفي اعتقاده أنه لمجرد قبوله العلاج فهذا يعني أنه يجب أن يشفى وبسرعة. وكذلك كان، لقد شفي وها هو ذا اليوم يحتفظ في رجله بعلامة جرح قديم، لكنه واحد من بين عشرات الخدوش التي توجد في رجل هذا الرجل المتنقل.
وحسب قول البدو، فقد مر من هذا المكان قبل خمس سنوات مجموعة من علماء الآثار الأمريكان تبحث عن مناجم التبر على بعد 20 كيلومتر غرب مخيمنا. ومن النادر أن ينشر هذا الفريق نتائج أبحاثه، فهم لا ينشرون لا تقارير ولا خرائط. لذلك لم نكن ندري إن كنا نحن أول من عرف أم رقيبة، وهي النقطة التي سنتجه إليها هذا الصباح أنا وفيلبي. وبعد مرحلة قصيرة لمدة ساعة ونصف في السهل الذي كنا عبرناه أمس وصلنا إلى منطقة بها بين أربعة وخمسة صخور تذكرنا بأرمادا نحيلة، كانت تبرز مبعثرة من بين الصخور. كنا نلمس الصخرة تلو الأخرى بعد أن نترك عليها أثراً نرسمه على شكل دائرة ناسخين بعض النقوش الثمودية أمام اندهاش المرشد. وفي كل لحظة كنت أسجل عدد الكيلومترات التي قطعناها بينما كان فيلبي يحدد الاتجاهات ويسجل الأسماء. كانت تقاطع اتجاهنا عدة طرق تمر بها قوافل الجمال، وهي عبارة عن مضايق يصل عرض بعضها أحياناً إلى 40 سنتيمتر، وهي نتيجة الكثير من الممرات التي فتحتها الجمال بصعوبة. أما البدو الذين يحطون الرحال في قمة قهرة فكان يجب عليهم الذهاب مرة أو مرتين إلى الطرف الآخر من السهل حيث توجد آبار مريغة والزرق باحثين عن هم الصحراء الأزلي وشقائها الخالد: الماء. كانت تلوح من بعيد عشرة جمال وعشر من الماعز، فهل كان يسوقهم رجل أو امرأة أو طفل؟ وكان الراعي يرقبنا خلف بعض أشجار السمر الموجودة في الواحات.
هذه أم رقيبة، وهي عبارة عن مرتفع مستقر في السهل أمام حاجز جبال قهرة. إنها عبارة عن مستودع يشرف عليه من جهة الشرق منفذ بركاني، كما أن الرمال تملأ جنباته بلون اللبن الوردي وبه صخرة مهشمة تقطع جزيرته كسقف مصنوع من مخلفات الحصاد.
وحواليها توجد أحجار كثيرة مصفحة بلونها الأزرق الداكن والجميل وداخله أصفر لكن لا أثر به للذهب. وعلى العموم فإن الذهب لا يوجد في القمم ذات الأحجار الرسوبية. ثم بدأنا في الصعود إلى أم رقيبة عبر الصخور المحيطة بها والتي تشتم منها روائح الثموديين. وقد أخذت منها كذلك رسوما تمثل صيادين ونساء بشعرهن الأشعث وهن يرقصن.
وفي أثناء تغيير شريط آلة التصوير تسربت عظاية صغيرة إلى داخل ثيابي، كنت أحس بها تحرك رأسها فوق جسدي، لكنها انزلقت على فخدي واختفت بسرعة. لقد قررنا الدخول عبر فتحة مرئية في سلسلة جبال قهرة، وبعد ذلك نبحث لنفسنا عن طريق في هذه القمة.
كان هناك كلب سلوقي صغير وجميل بين البدو يسير خلف الجيب وهو ينبح في معظم الأوقات، لكنه ما كان يتجاوز السيارة التي كانت تسير بسرعة 40 كلم/ س.
وفوق جدران المعبر الذي كنا نسير فيه كانت توجد رسوم لمحاربين ونقوش، وقد التقطنا منها صورا ونسخنا بعضا منها. لقد جمعت كومة من الأحجار الرملية ذات الطابع الثمودي. وعلى الرغم من جمعنا للكثير من النقوش فقد كان من النادر العثور على نقوش يمكننا حملها، فهي كلها تقريبا منحوتة على الصخور الطبيعية.
لقد تاه مرشدنا في منعرجات الشعاب الحجرية.
وفي الكيلومتر 53 من المرحلة تعطلت سيارة الجيب فوق بقايا الأعشاب اليابسة وأكوام الرمال الصغيرة، وعند غروب الشمس تبين لنا أن المرشد قد تركنا إلى الأبد.
لم يكن هناك ما يدعو للقلق فقد كنا نعرف الاتجاه العام نحو المخيم الذي لم يكن بعيدا إلا بحوالي خمسة عشر كيلومتر. ومن جهة أخرى فإن ردود فعل البدو هي نفسها دائما في مثل هذه الحالات، فهم يسيرون في مقدمة القافلة بالجمال أو بالسيارات باحثين عن الاتجاه ووجود مخرج. إن التغيب بعدد من الساعات ولو كان كثيرا يعد أمرا عاديا عند البدو، فالوقت لا يدخل في الحسبان عندهم، طبعاً بشرط ألا تعرض حياتهم للخطر.
لقد بقينا أربعة: مساعدا الرحلة وفيلبي وأنا. بقينا مدة ساعتين نحاول إصلاح الجيب منتقلين من النجاح إلى الفشل، من رفع المحرك إلى جمع الأحجار المسطحة، إلى جمع الأعشاب لوضعها تحت العجلات، وسحب الرمال واقتلاع جذور الأشجار. لقد قتل مسفر الثاني عقربا كبيرا كان يلمع تحت ضوء القمر. كنا نتسلى بتهجية أسماء الكواكب المضيئة من أجل تمرير الوقت. كما أني جزأت سيجارتي الأخيرتين ووزعتهما بينهما. أما فيلبي فكان يهتم بغليونه أيما اهتمام.
كان الجو باردا وكنا نجلس حول نار من الأشواك، أما الجيب فكانت تنام على أرض ثابتة.
وبعيداً عن موقعنا سمعنا نباح كلب، ولعدم وجود المرشد راح مسفر الثاني في اتجاه هذا النباح ليعود بعد ذلك بساعة، فقد وجد هناك امرأة وطفلين، كما عاد ببعض المعلومات عن الطريق الذي يجب أن نسلكه.
وقعنا في الخطأ نفسه مرة أخرى في ملتقى الطرق في إحدى الشعاب، في هذه الأثناء شاهدنا خيوط أنوار سيارة وفيها المرشد حيث كان قد عاد إلى المخيم وجاء ليساعدنا. وعلى الرغم من كثرة ما جمعه ريكمان وجاك أمس من نقوش فلم يتمكنا من إنهاء عملهما. ولذلك خصصنا الصباح بأكمله للبحث عن المزيد منها في المنطقة المجاورة للمخيم.
وحينما كنت متوجها شمالا ماشيا على قدمي قضيت حوالي نصف ساعة تحت خيمة أحد البدو الذي كان نصف أسنان فمه مهشما، وكانت زوجتاه المقلدتان بأربعة أطفال، تقومان بحركات تتردد بين حب الاستطلاع والتخوف. ورغبة مني في طمأنتهن أطلعت الزوج على الصور التي كنت التقطتها لهم في مصورتي. وبعد ذلك بزمن قصير وجدت نفسي جنبا إلى جنب مع النساء، ثم بعد ذلك مع الأطفال، إنها لوحة عائلية تزينها قفزات وروائح الماعز الأسود. وبعد شرب القهوة في كأس مشتركة انصرفت يرافقني مضيفي منبهرا بصيدنا للنقوش. نقطع جرفا يستند إلى مجموعة كبيرة من الصخور بأقدامنا العارية فوق رمال دافئة وناعمة. وقد تركني مرافقي عندما تبينت له نيتي في قطع القمم للمرور إلى الجهة الأخرى.
وعند بلوغي القمة منعني الكسل من الرجوع في الطريق نفسها، فأخذت طريق الوادي الذي أصبح مجراه كثير الحصى. ويظهر أن النزول عن طريق هذه الشلالات الحجرية من 10 إلى 12 مترا أمر صعب. فالصخور كانت جد ملساء والعظايات التي كانت أطول من حجم اليد تهرب بسرعة وتتوقف فجأة. كما كان هناك فرخان من الحجل يطيران في السماء ممددين أجنحتهما فوق هذه الشعاب الضيقة. وقد كان المكان من الضيق بحيث لا يتسع لدق مسمار. وفي الواحدة زوالا خرجت إلى أرض منخفضة، وذلك بعد عمل شاق تحت ظل الصخور العمودية. إنه عمل مرهق بالنسبة لأولئك الذين يشكون من الاختناق. فوجئ جاك حينما رأى مذكرتي لا تحتوي إلا على ستة نقوش جمعتها طول هذا الصباح، فقد جمع منها نحو مئة نقش.
خلال تناول طعام العشاء شرح لنا فيلبي بأن الوسم لا يستخدم فقط لتعليم الحيوانات بل إنه يستخدم أيضا وسيلة تعيين (ختم) الملكية الخاصة، وخاصة عندما ينقش على الصخور قرب بئر، كما يستخدم علامة على شيء يترك مؤقتا. إن وسم ابن سعود هو عبارة عن دائرة في رأس قضيب بالإضافة إلى دائرتين إحداهما على يمين القضيب المركزي والأخرى على يساره.
وهو الوسم نفسه الذي يجب أق يستخدمه فيلبي ونحن كذلك في حالة الضرورة. وقد كان يوضع عادة على فخد الجمال. ولو كنا من هوليود كنا سنضعه على الجانب الأيمن للسيارة.
في هذا الزوال سنقطع مسافة متواضعة طولها 10 كيلومترات في اتجاه الشرق، لندخل قمم جبال القهرة.
وهذه تفاصيل المرحلة بكل دقة: في الكلم 2 قبور البدو والنقوش، في الكلم 3 النقوش، وفي الكلم 5 نفسه، وفي الكلم 6 نفسه بالإضافة إلى تكسر مربط مقطورة الجيب، فعدنا إلى الكلم 4 من الجهة الأخرى للوادي. في الكلم 9 النقوش، وفي الكلم 10 نفسه، زائد القبور وفي المساء نصب الخيام. لقد قطعنا أكثر من نصف المسافة على الأقدام، كانت أنوفنا ملتصقة بالصخور بينما كانت السيارات تعبر الممرات الضيقة في وسط الوادي. لقد نام الرجال فوق الشاحنات على العفش، الواحد منهم فوق الأخر، وهم يتابعون مداعباتنا لبعضنا بشرود حالمين بمتعة وصولهم إلى مسقط رأسهم، مكة.
وفي الغد عدنا إلى نسخ النقوش. كانت النقوش كثيرة في نتوءات الصخور المندفعة نحو الوادي.
كان هناك ثلاثة من البدو يركبون جمالهم وينحدرون في وسط الوادي. وبعد تبادلنا معهم بعض الكلمات تابعوا سيرهم، ويمكن أن يكونوا قد فكروا في مثلهما القائل: "الكلام الكثير يسيل الدماء على الأرجل.. ". ماذا كانوا يحملون؟ وما هو اتجاههم؟ كل هذا كنا نجهله.
يجب الاقتراب أكثر ما يمكن من النقوش حتى نتمكن من نسخها، أحيانا تكون في هذا رياضة مثيرة، فقد كنا نتسلق صفيحة من الصخور ملساء على علو ثلاثة أمتار أو ننزلق على طول كورنيش. وبالتالي يصعب علينا التراجع إلى الوراء من أجل التقاط صورة، حيث لم يكن أمامنا إلا أن نغير المكان أو نتراجع. وعلى الرغم من تحذيراتنا المتكررة للسائق عبد الله بألا ينام داخل مقصورة السيارة مع تركه الأنوار الداخلية مشتعلة كما لو كان في خيمة فإنه كان يفعل غير ما نقول. وفي هذا الصباح كان يجب عليه أن يشغل السيارة في أثناء نسخنا للنقوش. وقد كان يصاحب هذا الإهدار للطاقة بموجة من الشروحات التي تربح منها الصناعة الأمريكية، كل ذلك من أجل أن نبرئ ذمة عبد الله. وعندما نقترب من إقناعه نصبح ثرثارين.
خرجنا من قمة القهرة عبر معبر نجد- رضم. حيث تقل النباتات شيئا فشيئا إلى أن أحطنا بمريبخ وهو عبارة عن سهل صحراوي شاسع وعتبته مبرقعة بالقبور، وهي عبارة عن أكوام صغيرة مكونة من الرمال المحصحصة.
كانت الرياح الشرقية تحمل سحابة من الغبار تحجب عنا رؤية الأفق الأزرق مغلفة بعض الجزيرات الصخرية ذات الشكل الهرمي، فأصبحت السماء معها رداء من الرصاص المبطن بالقطن والمرصعة بقرص من النحاس (الشمس) في اندماج تام بينهما.
من هنا ومن هناك كانت العيون تتابع عن كثب منعرجات أعشاب السمر التي تحدد مجاري المياه في اتجاه جزيرته الرئيسة وادي السيل. وكان لون هذه النباتات الفقيرة والمشوكة ذات اللون الأخضر الضارب إلى الرمادي يمتد فوق النباتات الممسوخة واليابسة. لكن وجود عدد من الطيور مثل القنبرة والسنونو والغراب في هذه الأماكن يشهد على أن الصحراء الحقيقية ما زالت بعيدا جهة الشرق.
أوقف رجالنا القافلة لأداء الصلاة التي تقام جماعة. المصلون يقفون في صف مستقيم خلف الإمام بثلاث خطوات. أما الوضوء فكان يتم بالتيمم بالرمل نظرا لعدم وجود الماء. وبعد كيلومترين مررنا ببدوي من قحطان، فطلب منا أن يشرب وكانت أمامه مسافة طويلة قبل أن يصل إلى البئر. فشرب وملأ قربته من قربنا بعد أن قدم له رجالنا أكلا.
وقد بقينا نحن جميعنا مدة ثلاثة أيام ونصف نشرب من الاحتياطي الذي كان معنا من الماء. فلو حصل أي حدث ميكانيكي لكنا بقينا بدون ماء. وبعد أن قطعنا زاوية صغيرة من هضاب السوادة دخلنا سهلا جديدا يسمى سهل منقع الحمام. وقد استغل مسفر وجودنا في هذا المكان ليصطاد ستة أفراخ من الحجل كانت تقف بعيدا منا بحوالي 25 مترا. وأشك في أنه استخدم الرصاص الذي نصطاد به الغزال. ومع ذلك تركته يطلب الله بحثا عن الأعذار التي سيقدمها لأصدقائه الذين كانوا يسخرون منه.
وفي الكيلومتر 59 نصبنا مخيمنا قرب حوالي 50 من الجمال التي كانت ترعى وقت الغروب. وفي الصباح نزل فيلبي وجاك والمرشد إلى الهضبة وهي ضخمة ذات منحدرات محفورة بدءا من طنب الخيمة.
وعندما كنت أسرع الخطى في الواجهة الجنوبية ذات الحافات الحادة سمعت صوت بكاء، وبعد ذلك أخبرني أعرابيان بأن المرشد سقط ميتا.
كان رد فعلي الأولي أنانيا، قلت في نفسي: فليمت هو خير من أن يموت واحد منا. والفكرة التالية كانت أكثر تسامحا: أتمنى أن يموت موتا نهائيا على أن يبقى يحتضر. وقد شرعت في إجراء حوار سريع مع أحد الناعين:
- أين هو؟
- لا أدري.
- من رآه؟
- لا أدري.
- كيف عرفت أن المرشد قد مات؟
- لقد اختفى هنا.
وكان الرجل يشير إلى منحدر صعب يؤدي إلى القمة التي تعرفت فيها على جاك وفيلبي وفي رفقتهما ثلاثة من المساعدين الذين التحقوا بهما.
هذا المنحدر المحصحص ينتهي بحافة علوها 40 مترا. فإذا كان المرشد قد خطا خطوة غير صحيحة فإنه يمكن أن يكون قد انزلق فيه وارتطم بالنقطة التي سنتجه إليها. وقد كان من المستحيل التواصل مع أولئك الذين كانوا على القمة نظرا لبعد المسافة بيننا.
وبعد ذلك بقليل وصلنا إلى مجارف الصخور الرملية الرسوبية الصفراء حيث شرع كل واحد منا في البحث بين ركام الأحجار عن النقوش، في هدوء وسكون، حيث كانت الرياح ساكنة، كنت أسترق السمع لعلي أسمع أدنى حشرجة.
وخلال ساعة كنا قد عبرنا كل هذه الزاوية دون العثور على أي أثر للمرشد. وفي الأخير وليت نازلا متخذا احتياطاتي من المنحدر المحصحص. فأنقاض الأحجار كثيرة وصدى ارتطام الأحجار مع الأرض يسمع من بعيد. وفي أسفل الجرف، وبعد التحاقي بجاك أطلعني على المكان الذي وجدوا فيه الآنية الصغيرة التي كان المرشد يحملها في يده حينما كان يتبعهم.
إنها لقصة غريبة حقا، فكيف ينزلق هذا الرجل على منحدر طوله 100 متر ثم يسقط في هاوية من علو 40 مترا دون أن يصيح ولا يحدث صوتا يثير انتباه الشخصين اللذين كانا معه.
وبعد ذلك بقليل لاح لنا في أفق القمة رجل، لقد وجد غترة المرشد على الجانب الآخر. وهذا يشبه كثيرا بعض الملابسات الغامضة التي تحيط ببعض الأحداث. عدنا إلى الخيمة لتناول الطعام فإذا بنا نشاهد طائرين من الكواسر يرفرفان فوق سليم ويواصلان صيدهما للجثث. لم يمت إذن مرشدنا، فلو كان هناك لما ضيعت الكواسر هذه المأدبة.
الله وحده يعلم بالنزوات التي كانت تعشعش في "دماغ الطائر" كما قال المستكشف داوتي Doughty حينما كان يتكلم عن رجل الصحراء.
في هذه الأثناء كان مسفر قد ذهب مع السيارة بعيدا بحوالي 5 أو 6 كيلومترات عن موقعنا. وكنا قد تعرفنا على بدويين في القمة يسيران في هذا الاتجاه.
وقد عرفنا عن طريق مسفر أنه بمجرد اقترابه منهما قال له أحدهما: "هل تبحثون عن رجل اسمه.. لقد ذهب من هنا، حينئذ أخذت قياس أثر قدميه فتعرفت عليه ".
يظهر أن هذا الأمر غريب، لكنه هو المجال الذي يكون فيه البدوي ملكا. وعلى أي حال كيف سيفكر هذا الأمي الذي إذا سمعته يقول عن الكتابة التي تظهر له على غلاف: "هل هذا هو الذي أعطاك رسالة موجهة لي أنا؟ ". فعالم المتحضرين وعالم الرحل شيئان مختلفان تماما. وباختصار فقد هرب مرشدنا خلافا للأعراف الصحراوية، ويظهر أنه متعود على هذا السلوك.
وقد أصبح لزاما علينا إذا تعويضه بمرشد آخر. وكان البدوي الذي اقتفى أثر قدميه قد قبل مرافقتنا اليوم، لكن هذا تطلب منا أن نترك خادمين من مرافقينا لرعي جماله التي يصل عددها إلى عشرين جملا، وهو ما قاما به فعلا من داخل مقصورة السيارة. كان هدفنا أن نذهب إلى آبار الوجيد التي تبعد عنا عشرين كيلومتر والعودة إلى المخيم مساء اليوم نفسه.
كان عددنا ستة أفراد على جيب فيلبي: أربعة أوربيين والمرشد ومحمد الميكانيكي. فقد كنت غير مرتاح لوجودي محشورا بين ركام من الركب والأذرع بين العفش والأسلحة وآلات التصوير، مع معاناتي من الزكام والغبار والارتجاجات العنيفة. وبعد عبورنا نحو خمسة كيلومترات في السهل بين عدد من الحيطان الصخرية، انطلقت الجيب في منطقة وعرة على امتداد الوادي لتنتهي بمنطقة ضيقة إلى أن يصل عرضها إلى 100 متر. إنه جبل الصوق بمنحدراته الحجرية الرملية السمراء المائلة إلى السواد. كنا نسير ببطء فوق ركام من نتوءات أحجار كانت على شكل عرائش نبتة الثمام ونسير منزلقين فوق الرمال الرطبة التي يفصل بينها الشجر. كان سوء المزاج يثير في داخلي تناقضات كثيرة، وكنت أقضي وقتي في محادثة نفسي قائلا عند كل حاجز: "كان علينا أن نعرج من الجهة الأخرى، لقد فكرت في هذا، وها نحن أولاء محجوزين بين لصخور والربوات الوعرة التي لا تسمح لنا بالعبور".
أكد لنا المرشد أن أية سيارة ومن ضمنها سيارة الأمير التي يصطاد بها لم تصل إلى بئر الوجيد. ويظهر أن هذا صحيح بالنظر إلى حال الوادي الذي نحن فيه والذي يحمل الاسم نفسه.
ر كان الثموديون يترددون على هذا الوادي في أيامهم، ذلك لأننا نحصد الآن الكثير من آثارهم المرسومة على الأحجار. وقد توجت هذه المنطقة بأشجار السلم العالية وذات الشوك التي يتراوح طولها ما بين مترين وأربعة أمتار، وهي تحيط ببئر الوجيد الذي يصل ماؤه إلى عمق خمسة أمتار. وبعدما تشرب الحيوانات من هذه البئر يجب انتظار ثلاثة أيام من أجل أن تتجمع بها المياه الضحلة. لقد مر من هنا أمس قطيع، لذلك فلن نتمكن من ملء قربنا الواسعة منه. وخلافا لما كان قد قاله لنا أمير أبها فإننا لم نجد إلا القليل من النقوش في هذا المدار الحجري الذي يندفع على ثلاث مراحل بين هضاب ذات منحدرات سهلة. وكانت بعض اليمامات تحوم فوقنا، وبين أشجار السلم كانت توجد خيمة مصنوعة من قضبان الفروع الشوكية، فقدمت لساكنيها الخبز، وحيث كانت هناك بدوية حامل مع ثلاثة من أطفالها يلبسون ثيابا رثة وعليهم حالة الهلع. وقد أعطاهم فيلبي بعض الريالات ثم تركنا إلى الأبد هذه المرأة الفقيرة المصابة بمرض العيون وعمرها 30 سنة تحت دعواتها لنا.
ر لقد دخلنا من الطريق نفسه مسرورين بإشباع رغبة ريكمان في قراءة النقوش. وبعد كيلو متر واحد جهة الشمال الشرقي من البئر كان فنانو الصحراء قد رسموا على لوحة صخرية ناعمة عددا من الوعول والجمال والنعام ومن بين رسوم هذه الأخيرة واحدة تمد عنقها لامرأة لتحكه بأناملها. أحيانا كنا نجد الرسم على حاله، وفي جهات أخرى لا نجد له إلا أثرا باهتا. أما رسوم النعام فغالبا ما تكون مزيجا من تقنيتين: الساقان وتجاويف الرأس، ومحيط الجسد مرسومة بشكل بسيط. كانت هذه الرسوم موضوعة على الحجر الطبيعي وموزعة على صفيحة الصخرة الملساء دون رابط بين أطرافها. بعضها متجه يسارا، والأخرى يمينا. كل رسم يأخذ الحجم الذي تجود به مخيلة الرسام، وحسب الوقت الذي يكون عنده أو المساحة التي تكون قد بقيت أمامه. ومنذ قرون كانت الفصول والأيام والليالي تتوالى على هذه الأطلال الصامتة. ومنذ ذلك الوقت والانجراف يهاجمها ببطء وهو ما يجعلها تتآكل قطعة هنا وجزءا هناك، تشقق الصخور أو تفجرها تحت أثر الحرارة والبرد والعواصف والرمال.
وفي قمة جبل سليمات عثرنا على صخرتين كانتا تحظيان باهتمام خاص من قبل رئيس بعثتنا: إنها ألواح نادرة و فريدة تتكاثر بها النقوش.
هذه هي الخيام ذات النيران المتقدة، وهاهم أولاء رجالنا يأخذون قسطا من الراحة بعد تعب هذا المساء. لم يعد عندنا ماء فيما كان وقت تناول العشاء يقترب، كما لم يكن قد بقي لدينا أرز دافئ، ولم يبق في قربتي أكثر من أربع أصابع من الماء المكدر، وهو الذي سنشربه ونغتسل به غدا مساء أو قبل هذا الوقت.
وفي أثناء تناولنا وجبة العشاء قام مرزوق بقتل عقرب صغير كان يمر فوق الفراش الذي كنا نجلس فوقه.
كانت درجة حرارة هذا الليل تصل على الأقل إلى خمس درجات مئوية. وقد استيقظنا فجرا على وقع أصوات همهمات ثلاثة رجال جدد كانوا يحيطون بالنار المشتعلة. وبعد تبادل عبارات التحية وتناول القهوة سألنا من هناك؟ إنه مرشدنا الهارب أمس وشبه الميت. وبعد أن أجاب مبتسما على بعض أسئلتنا حمل معطفه الذي كان تركه في المخيم وانتهى الحادث. لقد سميناه المجنون.
أصبحنا بدون مرشد لأن الجمال التي كانت حوالينا تحتاج حراستها إلى حضور جميع البدو الذين معنا. كان سهل سكة غنيا بأعشاب الخرطال الأخضر الذي تقبل على أكله الخيول والجمال كثيرا، وهو متوافر بكثرة في المملكة العربية السعودية، إذ نراه أحيانا يغطي الأرض في شكل سجاد لا متناهية أطرافه، لكنه يصبح باهتا في شهر يوليو. كانت تنتشر في هذا المشهد أكثر من مئة وخمسين من الجمال كان خيالهم يتردد في الهواء الدافئ. كما كان هناك غراب يقفز من ظهر الجمل إلى أردافه ملتقطا عددا من النمل المنثور على صوف مضيفه المتحرك من مكان إلى آخر. كانت هناك خيمة ترسم خط الربط الأسود فوق الرمال المستديرة وعرائش الحمص الفضية. كما كان هناك يعسوب (ملكة النحل) تطير حول المكان مندهشة من قافلتنا، ثم اختفت. ما أغرب هذا المكان الذي لا يوجد به ماء بالنسبة لليعسوب. أما مجرى سليمات الذي نعبره، فإنه جاف تماما كغطاء آنية المطبخ.
كنا نقسم هذه المرحلة إلى وقفات، فالتوقف هو الخبز اليومي للنقوش التي كنا ننقلها ونلتقط صورها. لقد غرقت الجيب في رمال وادي العين ونحتاج إلى نصف ساعة من المجهود المتواصل لإخراجها قبل أن نندفع في معبر جبل العلم. وبعد حوالي خمسة عشر كيلومتر شاهدنا في القمم الكثير من الأطلال التي مازالت على حالها على شكل أكوام دائرية من الحجارة المسطحة. أغلبها مربوط ببعضه بواسطة أسنان حجرية. وهي ليست شيئا آخر غير قطع حجرية تتتابع تاركة بينها فاصلا يقدر بمتر. توجد هذه الأكوام الدائرية التي تتجاوز قامتها أحيانا قامة رجل بوفرة في الكثير من مناطق المملكة العربية السعودية، وسيظل عددها والوقت الذي تطلبه الاشتغال فيها سرا بالنسبة إلينا. لكن البدو لا يهتمون بها بتاتا، وفي جميع الحالات فإنهم غير قادرين على تقديم أي شرح عنها.
خلال تناول وجبة العشاء في سفح إحدى هذه الأكوام شاهدنا فأرا أصفر بدون ذنب تقريبا، وكان يسلينا بحركاته العادية. كان ينقل قطعة من الحلوى يفوق حجمها حجمه إلى نفقين يبعدان عنا بحوالي 10 أمتار، ألا يكون هو الآخر ذا زوجتين وعلى بعد نحو اثني عشر كيلومتر شرق بئر العين كانت توجد عدة لوحات من الرسوم الحجرية صامدة في عزلة في وجه القرون. أحد هذه الرسوم يمثل نعامة تقبض بمنقارها على أذن حمار جامح. وبعيدا عن هذا المكان كان يوجد رسم بقرة أو جمل أو أنواع أخرى من الحيوانات يتجاوز علو أغلبها مترا. تدل هذه الرسوم على حس فني وعلى قدرة جد متطورة على الملاحظة عند مؤلفيها.
ولما كنا بدون مرشد فقد كنا نقتفي آثار الجمال في هذه المعابر المندفعة في هذه الأجراف الأرجوانية والرخامية المائلة إلى الحمرة. لقد وجدت إحدى الشاحنات صعوبة لمواصلة الطريق. وكان عدد الأشجار المشوكة يتزايد، وفجأة أوقفت القافلة دائرة محاطة بحافات من كل جهة. كان ذلك هو بئر العين.
كان هناك حوالي خمسين نخلة عظيمة في الحائط العلوي المتعدد الألوان، وبها طفلة توزع الإبل إلى مجموعات لتوردها. بينما كان أبوها الذي يلبس إزارا وعاري الجذع وقفاه ممتلئة بالكثير من العقد السود يصب الماء في بركة قطرها ثمانية أمتار. كانت هناك ضفادع كبيرة تنق بينما كنت أنظر إلى الجمال، وكانت تنعكس على سطح الماء صور السماء الزرقاء ومن ضمنها الرجل إلى أن لاح في الأفق قمر مكتمل في الوقت الذي لا تزال تلوح في السماء بعض خيوط الشمس.
كان هناك ثعلب وبعض فراخ الحجل تنتظر ذهابنا لتتوجه إلى البئر لتشرب منه. وقد نصبنا مخيمنا على بعد 100 متر جنوب البئر جنبا إلى جنب مع قبور البدو.
وبعد قص شعر جاك الذي امتلك هذه المرة الشجاعة بعدم الاحتجاج قمت بمعالجة بدويين من مرضهما، الأول كان يعاني من ذبحة الصدر، والثاني من الرمد في عينه. وكنا على علو 1400 متر. ما أجملها من ليلة تحتفل فيها الصراصير الليلية بالقمر. كانت درجة الحرارة على الأقل درجتين مئويتين. وفي الصباح كان دخان نارنا يصعد في السماء على شكل خيط، ثم ينتشر خالصا وشفافا في أسفل المجارف. وبينما كنت أبحث عن النقوش التي لم تكن موجودة تقريبا، فإذا بالمصاب بالرمد الذي عالجته أمس جاء ليخبرني بأنه شفي من مرضه. هذا أفضل، وفي جميع الحالات لقد نام جيدا لأن دوائي الذي قدمته له لم يكن سوى منوم. فليسامحني أبو قراط.
ها نحن أولاء الآن في أرض مجهولة من قبل الأوربيين، ولسبب كنت أجهله لم يكن فيلبي يرغب في أخذ مرشد من بين البدو الذين التقينا بهم.
لقد تزود رجالنا بالماء، وكانت هذه مناسبة ذلك، لأن القرب وجميع الأواني كانت قد فرغت أمس مساء.
وبعد 10 كيلومترات في الوديان في اتجاه الشمال والشمال الشرقي وجدنا بئرا أخرى اسمها بئر الحاير التي لم نصل إليها إلا بشق الأنفس، وذلك بسبب المجرى الرملي لأحد الوديان المؤدية إليها.
كانت النباتات الشوكية والمجارف الحجرية بلون نبات العظلم تنتشر في كل جهة. وجدنا في استقبالنا هناك رجلا وزوجته، وطفلا وبعض الجمال وخمسة حمير وستة أفراخ من الحجل وثلاث قبعات (طائر)، كانوا على جنبات البئر التي هي عبارة عن منبع ماء تجري مياهها الصافية بين الصخور حيث يتكاثر روث الحيوانات التي تكدرها بسرعة.
لقد جئنا وشاهدنا، وكان المشهد جميلا فعلا، لكن طريق نجران لا تزال بعيدة. ولذلك قررنا العودة مقتفين أثر الأمس عبر جبال العلم وبدون زاد معقول من النقوش.
وفجأة عن لنا نتوء بارز في الصخور ممتلئ نقوشا جد مقروءة، وقد ميز ريكمان من بينها نقشين حميريين الأمر الذي يبين أهميتها في إبراز طبيعة التشتت الجغرافي لهذه الحضارات.
وبمجرد وصولنا السهل قررنا نصب المخيم، ولم تكن الساعة قد تجاوزت حينئذ الرابعة عصرا. كان هناك سوء تفاهم بين فيلبي والرجال، حيث إن فيلبي رفض مواصلة السير لكيلو متر واحد بدون مرشد. اشمأز الرجال من فكرة عبور البلد كله بحثا عن مكان يوجد فيه مرشد. قائلين إن الرجال الذين التقوا بهم حول البئر كانوا قد دلوهم على الطريق التي يجب عليهم اتباعها. إني أثق فيهم ولكن بما أن الطابع الجغرافي للرحلة ليس معروفا لديهم. فإن الذي معه الحق سيكون هو فيلبي. انطلقت السيارة بأمر من فيلبي لتندفع عما قريب في الصحراء حيث سيظلم الليل، لكن فيلبي جثم على قمة إحدى الهضاب رافضا أن يتزحزح من مكانه.
هذا الصباح لم يكن لدينا لا سيارة ولا مرشد. انطلقنا نحن الخمسة في الجيب متجهين شرقا. بدأنا نقفز كالأطفال من صخرة إلى أخرى في مجرى أحد الخنادق. لقد كانت قفزاتنا تتراوح بين 500 متر وكيلومتر واحد واضعين خطوطا وعلامات على الصخور التي نمر بها، وكان الهدف دائما هو نفسه. وبعد 15 كيلو متر قرر فيلبي تسلق قمة علوها 95 مترا في أقصى شرق جبال العلم، مطلة على سهل شاسع يسمى مسير الذي يبعد بحوالي 15 كيلو متر عن جبل يشبه خوذة الجندي واسمه جبل سويدية.
كان هذا هو الهدف الذي نقصده، وكان فيلبي بلغ حده في إحدى رحلاته السابقة التي مر فيها من الجنوب الغربي لهذا السهل هذه القمة المتميزة في الخريطة التي نستخدمها. لقد جئنا من الشمال الغربي وهو ما سمح لنا بإضافة حلقة غير معروفة في هذه الخريطة.
في هذا المكان ضاعت مني مدية جيدة لكن عزائي كان هو أنه بعد قرنين من الآن سيعثر عليها أحدهم ويدخلها في متحف الآثار.
لقد قطعنا المرحلة شبه مرتاحين فوق أرض رملية. وبعيدا منا كان أربع غزلان تركض هربا، إنها المرة الثانية التي نرى فيها الغزلان منذ بداية رحلتنا. دخلنا بعد ذلك في منطقة طولها عشر كيلومترات من البلاط الأسود الذي كان يحدث طنينا تحت العجلات على شكل حطام أحجار الإسمنت المكومة فوق أرض مبلطة. أما عمق المنحدرات الخفيفة التي كنا نجتازها فإنها كانت غنية بالأشجار ذات الأحجام والأشكال المختلفة، وبقليل من الخيال يمكن أن نتصور جنة من الغابات.
وإذا كانت بداية جبل سويدية تتميز ببعض المنحدرات الخفيفة فإننا سوف نصطدم قريبا وقبل بلوغ القمة بجرف طوله تسعون مترا. وقد قررنا أنا وجاك أن نتسلقه على طريقة غوسطاف دوري. وقد بلغناه بعد ساعة من الجهد بوصفنا أول الأوربيين الذين يصلونه، لكن قبلنا كان قد بلغه الثموديون الذين ننقل الآن ثلاثة من نقوشهم المقتضبة. كان نزولنا من الجهة الجنوبية الشرقية أقل صعوبة، أما الحذاء الرياضي الذي كنت أرتديه فكان قد أسلم روحه لمولاه، مما اضطرني إلى إكمال السير حافي القدمين تاركا ورائي حذائي الذي لم يستمر في رجلي أكثر من 18 ساعة.
نحن الآن على حدود أكبر قبيلتين من قبائل المملكة العربية السعودية: قحطان في الشمال من حيث جئنا، ويام في الجنوب حيث سنتجه.
تعني كلمة خشم في المملكة العربية السعودية أنفا. وهو ما نشبه به هنا نتوءا صخريا يتفرع عن جبل، وهو على العموم نقطة متميزة من النتوءات والمشاهد. ويعد خشم ضميان الحد الجنوبي لهذه المرحلة قبل أن نصعد شمالا للشروع في عملنا اليومي الذي نقوم به كل صباح. وعند مرورنا انتبهنا باندهاش إلى صخرة تشبه خيال رجل قامت بنحتها تعريات آلاف السنين. إنها لمصادفة عجيبة.
وصلنا المخيم بعد السادسة بدقائق، فرحين بما سنأخذه من راحة. وقد تكون لدي انطباع بأن هذا النوع من الجهد الذي نحس به هو أحسن نتيجة نحصل عليها، إنه يخضع الأعصاب لمعاناة جد صلبة، بينما يكون هدوءنا عربون صداقة وتجلد لما يستقبل من مراحل الرحلة.
ها قد عاد رئيس حراسنا مسفر وبصحبته مرشد التقى به على بعد 30 كيلو متر من هنا. لقد أخبرنا بذلك فيما كانت تعلو وجه الرجل علامة فيها شيء من الاضطراب وقليل من الاقتناع، فقد قبل هذا الرجل القيام بهذه المهمة على مضض. وهذا المساء استضفنا الرقم 2000 الذي بلغناه في مجالين: في عداد السيارة الذي كان يشير إلى رقم 2074 انطلاقا من جدة، وفي مفكرة ريكمان التي كان قد سجل عليها الرقم 2100 وهو عدد النقوش التي جمعناها.
ينتمي مرشدنا الجديد مناحي إلى قبيلة قحطان. وقبل سنوات قليلة كان من المستحيل أن يقبل القيام بهذه المهمة على تراب قبيلة يام.
كنا نسير في وسط سهل جحر وعيوننا مركزة على جبل أيسر كان يجانبنا جنوبا، وبغتة صاح المرافقون لنا: حبارى حبارى، مما أدى إلى انحراف السيارة عن الطريق. وقد كان هناك فعلا سرب من الحبارى يتألف من خمسة أو ستة طيور منها الرملية اللون والبيضاء. وكانت تسير على بعد 200 متر منا. وقد وضعنا الرصاص في بندقيتين بينما كانت السيارة تسرع فوق الأحجار لنقترب إلى حوالى 20 مترا من هذه الطيور، فأطلق مسفر المنتشي بحماسه طلقتين من بندقيته على زوج منها فطارتا في السماء، كما أطلقت رصاصة أخرى قبل أن أغرق في كرسي السيارة على إثر دوسة قوية على فراملها. ماذا سيقول أصدقائي الصيادون المتريثون إذا شاهدوا هذه المطاردة الهستيرية. في المجموع حصلنا على حبارتين صنعنا بهما وجبة ممتازة، كما حصلنا على صورة التقطناها لسفاحين منتصرين. أما الطيور الثلاثة المتبقية من الحبارى فإنها ستعيش في سفح جبل عان الهفاف حيث سيقوم ركاب الشاحنات بمطاردتها. تراجعت سيارة فيلبي الجيب بعد أن كانت قد تقدمت أمامنا كثيرا علما بأن الأعرابي إذا شرع في الصيد؛ فإنه سيستمر فيه إلى آخر طريدة تصادفه في طريقه.
إن أقل تغير في الطبيعة يؤثر في المسافر في الصحراء. كانت أمامنا أكوام من الجرانيت السمراء والوردية تشبه (عرائس النيل). الرمال تعوق تقدمنا. حيث أصبحت الجيب كالحمار ترفض التقدم في هذه الأكوام، لقد تعطلت في الوقت الذي كنا وصلنا فيه إلى طريق مهمة جدا، وكان هذا الطريق يؤدي سابقا بحجاج وتجار نجران إلى مكة عبر واحات بيشة.
أما رجالنا الموجودون في الشاحنات فقد كانوا مشغولين باقتفاء أثر عقرب رافعين أصوات الفرحة المخيفة. كانت هناك فراشة تدور بالقافلة قبل أن تستأنف طيرانها في السماء، ويؤكد لنا فيلبي أنه رأى هذا النوع من الفراشات خلال عبوره المثير للربع الخالي، الصحراء الشاسعة التي تمتد شرق طريق رحلتنا. وبينما كان محمد يصلح الجيب صعدنا في السيارة وابتعدنا إلى حوالي ثمانية كيلومترات من هنا لمعاينة الصخور الهرمية ناحية الشمال الشرقي من الذيول الحجرية الرخوة والملساء. إنها تعدنا بشيء، ولو كنت ثموديا فإنها كانت ستجذبني عن بعد. وقد حصدنا منها الكثير من النقوش والرسوم، من ضمنها رسم لفارس يطارد نعامتين. وبعيدا من هذا المكان كان يوجد رسم لرجل أشعث الشعر رافعا يديه إلى السماء. الله وحده يعلم بما كان يطلبه منه:
هل الخوف أم الاقتناع، وكان هناك ثقب يخترق الصخور ولا يسمح برؤية شيء إلا ذيلا مكعبا من السماء الزرقاء. وكان جاك يلبس بدلة بيضاء، لكنه يجب عليه أن ينزل من سلمه وأن يجيء لمساعدتي لأن قدمي كانت قد وطأت على شوكة بيضاء من شجر السلم. فانتشلني من شلال شاهق حيث قمنا سويا بتفحص هذا السهم الذي يتجاوز طوله سنتيمتر. من أجل هذا يعلق البدو في سلاسلهم منتافا. إنها ليست تميمة بل هي أداة ضرورية لحافي الأقدام مثلي الذين يمشون في الصحراء.
وبعد التحاقنا بالقافلة أخبرنا بوجود ثلاثة أوربيين قدموا من الطريق الكبير.
وبعد 15 كيلو متر بين أكوام الحصى في هضاب العلم شرقا واللجام غربا وصلنا بئر يدمة. وقبل ذلك بقليل كنا قد رأينا خيمتين بيضاويتين في إحدى المنعرجات المحفورة. وبعد نصب الخيمة وصيد أربعة أفراخ من الحمام وذبحها حسب التقاليد الإجبارية فإذا بسيارة جيب تقف عند خيمتنا وعلى متنها ثلاثة أعضاء من المنظمة العائلية لمحاربة الجراد. هاهو ذا صديقنا لامبارت Lambert الذي التقينا به في بيشة وبرفقته رئيس بعثتهم في المملكة العربية السعودية بوبوف Popov الروسي الأبيض الإنجليزي الجنسية، وبنكر D.Bunker مهندس الخرائط وعالم الحشرات والموسيقي أيضا، لأنه أصلح جهاز راديو فيلبي.
إننا نكون فريقا جميلا جميع أفراده عزاب مغامرون وجسورون وفرحون بمصيرهم. وبعد تبادلنا لبعض المعلومات الفلكية بدأت الثرثرة غير المنظمة بين رجال جمعتهم الصدفة حول دائرة هذه البئر الضائعة. كانت بعثتهم تتمثل في القضاء بجميع الوسائل على الجراد إلى أن ينقطع الكلام عن رحلة الجراد. ولبلوغ بئر يدمة عبرنا نفقا ضيقا طبيعيا في الصخور. كان عرضه لا يتجاوز 6 أمتار، وهذا الصباح وبينما أنا أقترب من منفذ يشبه بابا مفتوحا في أحد المجارف التي يبلغ طولها ثمانية أمتار فإذا بي أعثر فيه على الكثير من النقوش الحميرية التي كنا ننقلها بفرح شديد. لكن هذه النقوش المخطوطة تعطي الانطباع بأنها مجرد حلوى نتناولها بعد أن نشبع من النقوش الثمودية. وقريبا منا أثار انتباهنا رسم إحدى الشخصيات الجالسة وكأن بيده طيفا. فمن هو الملك الذي يتقمص هذا الرجل شخصيته؟ لا نعرف شيئا عن ذلك.
وداعا أو إلى اللقاء أصدقاءنا ممثلي منظمة محاربة الجراد في الصحراء الذين التحقوا بنا. كان ريكمان قد قدم لهم معلومات ابتدائية عن النقوش التي لم يفكروا إطلاقا في وجودها في هذه الأماكن.
وبعد مغادرتنا بقليل وصلنا هضاب عشارية التي تتألف من أكوام من القوالب الحجرية المستطيلة والدائرية والملساء، وقد ذكرتني بحلم الطفولة حيث كنت أحمل في يدي أحجارا ثقيلة على الرغم من صغر حجمي. يتراوح عرض وادي يدمة بين 50 و 300 متر وهو جد ممتلئ بالأشجار العالية من ضمنها أشجار الأراك التي كان رجالنا يتزودون بجذورها لينظفوا بها أسنانهم فيما بعد.
وبعد قليل سيضيق الوادي وسنعبر نفقا ضيقا يؤدي بنا إلى قمة جبال السلم. وجدنا هناك بقايا عظام ذئبين ممتلئتين تبنا ومعلقتين في شجرة السمر ورأسهما إلى الأسفل. ومن المحتمل أن يكون هذا من فعل أحد الرعاة البدو الذي يرغب في إطلاع المارة على انتصاراته التي حققها في الغابة.
وعند عبورنا مجرى شعيب السلم وجدنا به دائرة في مركزها نقطة تشير إلى مكان الماء. وتحت هذه النقطة توجد سلسلة من الخطوط العمودية المفصولة بمسافات متوازنة. كل خط يعادل خطوتين. وبما أن عدد الخطوط كان 32 خطا فهذا يعني أننا نبتعد عن مركز البئر ب 64 خطوة. وهذه القياسات مفيدة بشكل خاص عندما يخشى فقدان أثر إحدى الآبار، أو عندما يمر غريب عن المنطقة دون أن يعرف بوجود الماء قريبا من هذا المكان. كان المرشد يطلق ثلاثة أسماء مختلفة على قمة واحدة. وفي الحقيقة إن هذه القمم تتشابه فيما بينها.
وقريبا من حافتي البئر كان يوجد مستودع من الصلصال الأحمر الذي يقال عنه إنه إذا خلط بالزبدة وقدم للبعير فإنه يشفيه من الجرب.
وعند مدخل الوادي كانت توجد حوالي عشر شجرات من السمر عالية وذات شوك تنتهي بخصلات ضخمة على شكل خصلة من الشعر الأشقر. وقد قيل حديث في هذا الحشيش المخزن الذي لا تستطيع الحيوانات بلوغه.
وبعد إسقاطنا حجلتين برأسهما الأبيض والأسود، رفض رجالنا طهيهما لأنهما لم يذبحا بطريقة تسيل الدم منهما.
اضطرتنا أخطاء المرشد المتكررة إلى التوقف طويلا فوق مضيق على علو 1400 متر. وعند خروجنا من منحدرات شعيب السلم التقينا بأربع نسوة من البدو وبصحبتهن أطفالهن، اقتربن منا جميعهن. كانت تظهر على لباسهن الأسود الكثير من العقد التي ربطت بها قطع من النقود المعدنية. وقد أكدن لنا أن القمة التي تظهر لنا شمالا تسمى جبل عتوق. وبعد ذلك أعربن عن سبب اقترابهن منا، وهو الحصول على الأكل. وقد أشبعناهن أكلا كما أن فيلبي وزع عليهن أكثر من ريال لكل واحد منهم: نساء وأطفالا، وهو ما سمح لي بالتقاط صورة لهم جميعا. أما الأطفال الذين كانوا غير هادئين فقد بهروا بهؤلاء الأجانب الذين فقدوا هنا كل معنى للمكان والزمان. وبتركيزهم على حاضرهم، خرجوا فورا من حلمهم عندما تركناهم، لكنهم ظلوا يتابعونا بعيونهم مدة طويلة وهم ملتصقون بلباس أمهاتهم.
وفي معبر ضيق وكثير المنحدرات عثرنا على نقش يوناني كتب عليه: " إلهي أنقذني ". لقد فهمنا المحنة التي كان يمر بها هذا اليوناني المغامر الذي كان يعبر هذه المنطقة قبل قرون.
بعد ذلك أخذنا منعطفا طوله خمسة كيلومترات في اتجاه الشمال الغربي الذي سيؤدي بنا إلى بئر المبعوث الذي قمنا بإزالة الوحل منه لنصل إلى الماء على عمق سبعة أمتار.
في هذه الأثناء كان مسفر قد دخل في حوار ساخن مع السائق سعد، وفجأة انتقلا إلى استعمال الأيدي وهما يتنازعان مقود السيارة. وقد تبادلا بعض اللكمات وبذلك سجلنا مجموعة قفزات نوعية لم تكن متوقعة في برنامجنا. بقي الحال على ما هو عليه إلى أن هدأناهما بالتدريج. وبعد عشر دقائق كان يداعب الواحد منهما الآخر ويتبادلان السجائر فيما بينهما.
كان رجالنا الموجودون في الشاحنات قد أعدوا العدة لنصب المخيم، إذ كانوا قد أشعلوا النار. لكنهم أصيبوا بخيبة كبيرة عندما علموا بأننا سنغادر فورا.
كنا نسير بكل سهولة فوق سهل الساري المنبسط مما جعلنا نقطع مسافة 25 كيلومتر إضافية، مع توقفنا أمام خيمة بدوية لابتياع خروف العشاء. تمت العملية في سرعة، وكأنها غارة، وخلال بضع دقائق كان الخروف قد ذبح وقطع، وثمنه مدفوع ومحمول على إحدى الشاحنات وهو يصدر ثغاءه على روحه الميتة. كنا نظن أنا وجاك أن صاحبه طلب فيه 35 ريالا، لكننا علمنا من مسفر فيما بعد أن سعره هو 25 ريالا. فهل نتج هذا عن سوء فهم أم عن كثرة الفهم؟ ومع ذلك أضيف إلى هذا بأن أمانة فريقنا كانت كبيرة خلال الرحلة كلها. لم نفقد شيئا أبدا، بل بالعكس كانت ترجع إلينا أشياء كثيرة كنا نفقدها. لقد نصبنا خيمتنا في هذا السهل، مستندين إلى بعض الصخور الناتئة من الرمال. لقد نمت في منتصف الليل بعد أن عالجت ثلاثة رجال من الحمى ومن التشنج الجسدي.
كان اقترابنا من نجران يضيق من مجال الاستكشاف الحر. ابتداء من هنا ستكون لدينا نقط مشتركة مع تلك التي سبق أن زارها فيلبي في رحلته السابقة في سنتي 1936- 1937م عندما كان بصدد رسم الحدود.
في الصفحات القادمة يمكنني القول: إني سأفتح كتابه الجزيرة العربية المقدسة لأسترشد بما كتبه هذا الأوربي الذي يعرف المملكة العربية السعودية وبخاصة نجران حق المعرفة. كان تقدمنا نحو بئر الحصينية المشهورة يتم بسرعة. فالأرض منبسطة مغطاة بقشرة من الحصى ذي اللون الفيروزي الأزرق. وكانت العجلات تغرق إلى أعماق الرمال تاركة وراءها آثارا برتقالية لن تتمكن العواصف من طمسها قبل سنوات. وحسب الأماكن فإن ذروة الهضاب الرملية للأرض السوداء كانت تبدو وكأنها ألواح مكدسة. كانت هذه الأكوام المفتولة والمستديرة على شكل أنابيب تشبه مركز قيادة عملاق، حجم أصغرها يتراوح ما بين 3 إلى 4 أمتار مكعبة.
وبعد اجتيازنا إحدى العتبات شاهدنا عن بعد أهم واد في المنطقة المعروف بوادي حبونة كما شاهدنا سهله العريض الذي يتراوح عرضه بين 7 و 8 كيلومترات. لكن الأكثر إثارة كان هو وجود منزل في القمة. إنه مركز الشرطة الذي يراقب بئر الحصينية. كل شيء هنا يعبر عن الحياة، الحركات والألوان. والكثير من البدو الذين كانوا يتحركون بين قطعان الماعز والغنم والجمال.
وقبل الالتحاق بهؤلاء البدو كان علينا أن نسلم على الحراس النظاميين الذين كانوا يسكنون في غرفتين مدهونتين بالكلس الأبيض، وقد دخلنا بيتهما عبر باب جميل وناصع من خشب طماريس، كانت أصبع أحد الحراس مخضبة بالحناء الحمراء، وكان يتمنطق بخنجرين معقوفين طولهما أكثر من 40 سنتيمتر وهما محشوان في غمدهما المصنوع من الفضة. البلد هادئ جداً على الرغم من أن جبهة الحدود مع اليمن كانت أقل هدوءا، وتفلت من الرقابة الفاعلة. بالإضافة إلى آفة الغش والفساد المستمرة.
ومباشرة بعد انتهاء طقوس السلام تسللت متوجها لمشاركة الناس هذه الحياة الرائعة حول البئر التي كانت تبعد بحوالي 200 متر من مركز الشرطة. إنه يتوسط أكمة قطرها 100 متر، وهو عبارة عن منحدرات خفيفة تتألف من تراكمات من الوحل وروث الحيوانات. وفي الوسط توجد البئر الدائرية المبنية بشكل متقن بالأحجار المتراكمة. وفوق فم البئر نصبت دعائم تساعد الناس على جلب الماء منه بواسطة القرب. وهذه هي الوسيلة الوحيدة الممكنة لدى البدو لتوريد قطعان بهائمهم وحيواناتهم. فهذه البئر التي يصل عمقها إلى 30 مترا مهمة جدا في حياتهم. ولذلك فليس غريبا أن يكون لها تاريخ حافل بالمعارك والنزاعات. كان الرجال والنساء يتقاطعون حول البئر، رافعين قربهم ومنشدين أغاني قصيرة أو صائحين بصوت عال من حناجرهم. وكانت الأيدي تتتابع على الحبل في حركات متكررة مقلدة حركات يد الزارع. وبضفاف البئر كانت توجد الكثير من الخدوش العميقة التي يحدثها احتكاك الحبل مع جنباته، وهو تطبيق عيني للمثل: "العادة في ممارسة الشيء تكسر جنبات البئر". كلما امتلأت قربة أفرغت في مورد من الجلد الممدد على قوالب خشبية. وبعد ذلك يشرع الحيوان في الشرب إلى حد الارتواء وأنفه مواز لسطح الماء. وعندما يرتوي يبرطم بشدة مرسلا روائح كريهة ثم يبتعد متجها إلى الخلف فاتحا ممرا وسط بقية الحيوانات التي ستأخذ دورها في المورد.
وفي مكان آخر كان يجتمع رجال من الرحل حول جمل بارك على الأرض وهم يحملون عليه الماء قبل أخذ الطريق في الصحراء لمدة تتراوح بين 10 و15 يوما.
كان الرجال ذوو العقد السود خلف قفاهم يختلطون بالنساء اللواتي كنا نرى عيونهن من خلف ثقب غطاء الرأس. كانت إحداهن صغيرة وجميلة ولم تكن ترتدي الخمار.
كان النساء يرتدين فوق ثيابهن ذات اللون الأزرق الداكن والبرتقالي أساور وقلادات من الفضة المنقوشة. بعضهن كانت لهن أردية أشبه بالعمامة منها بالغترة. وقبل ذلك كان أحد رجال البدو قد وافق على أن نلتقط له صورة طالبا أن نقدم له مبلغا من المال. لكن الحظ لم يحالفه في هذا. لقد ابتعنا من هناك جديا أسود سافر معنا وهو ملقى على ركبتي مسفر. انطلاقا من الحصينية أخذنا الطريق الذي كان قد سلكه فيلبي سابقا. وبعد 15 كيلو متر في أرض منبسطة وصلنا إلى سفح جبل تصلال. كان هناك عدد من قبور البدو قرب منطقة تعد منطقة يقدسها الناس يبلغ قطرها 100 متر. دخلنا تصلالا وخرجنا بأكثر من نقشين وفيه تمتعنا برؤية جد شاسعة.
وفي جهة الشرق كان يمكن للخيال أن يسرح بكل حرية، فمن هنا تبدأ أراضي الربع الخالي الشاسعة. هذا الفضاء اليابس الذي لم يتجاوز عدد الأوربيين الذين عبروه ثلاثة: بير ترام توماس سنة 1931 م وفيلبي سنة 1932م وويلفرد ثيجر سنة 1948م. كنا نعتقد أن هذه الصحراء تتكون من قطعة واحدة تحتوي على أكبر قدر من الرمال في العالم. وهذا الأمر لا يزيد مستكشفي الربع الخالي إلا اعتزازا. أما عدد البدو الذين يعيشون بها فقليل جدا، الله وحده أعلم كيف يعيشون. لقد قطع علينا تفكيرنا أحد الرعاة الشباب الذي كان معتزا بشخصيته حيث كان يرفض أن يذهب للبحث عن الماء ليجلبه إلينا، لأنه منحدر من فرقة أرستقراطية من يام. وقد طرح علينا أسئلة أجبرتنا على الإجابة عنها أخلاقيا. حيث كان على كل واحد منا أن يفرغ جيوبه ويشرح طريقة استخدام أدواته التي يحملها معه.
وبالمقابل كان يطلعنا بشكل مقتضب على عدد من آثار الضبع. وخلال حوالي عشرة كيلومترات بدأنا في عبور شعاب نجران التي كانت مرصعة بكثبان من الرمال التي يتردد طول قطرها بين الطول والقصر، وأحيانا كانت توجد في قمتها أشجار شوكية. لقد اندفعت القافلة بدون عناء في هذه التراكمات إلى أن وصلت بعد 2301 كلم وهي أقصى نقطة في الجنوب في رحلتنا.
وصلنا آبار الخضراء حيث تكون لدينا انطباع جيد عن هذه المنطقة، نصبنا خيمتنا بالقرب من بعض خيام البدو. وكان الماء على عمق 4 أمتار، لكن البئر كانت مصونة بشكل جيد. وعلى العموم فهي بئر مقصودة كثيرا بما في ذلك بعض الفراشات والفئران والحجل والقطا.
كان حراس البئر قد جمعوا 29 نفراً من البدو احتفالا بقدومنا. وبعد افتراسهم قلب الخروف وكبده لم يبق لي إلا تفرس هذه الوجوه المنحنية على هذا اللهيب ذي اللون البرتقالي. كان القمر قد ظهر بهالته من خلال أعمدة من الجرانيت مضفيا اللون البرونزي على الأباريق النحاسية التي كانت تطبخ فوق النار.
وبعد الأكل وصلت شاحنة صغيرة وعلى متنها حاكم نجران الأمير تركي بن ماضي، وهو شاب عليه علامة العربي القح، هادئ ومبتسم. وقد تبادلنا في هذا اللقاء قبلات الترحاب باختصار شديد نظرا لأن الأمير كانت تنتظره مرحلة طويلة من السير ليلاً. إذ كان متوجها لمساعدة أحد أبناء الملك الذي تعطلت سيارته بسبب نفاد البنزين منها خلال رحلة صيد. وهكذا وصلنا إلى واحات نجران.


يتبع

العماني

 

 

 

 

    

رد مع اقتباس
قديم 04-05-2005, 03:19 AM   #2
 
إحصائية العضو







الشكري غير متصل

الشكري is on a distinguished road


افتراضي

بيض الله وجهك يا بو مبارك


والله يعطيك العافيه

عز الله جهد متعوب عليه

والله لايهينك

اخوك
ابو عبد الله الشكري

 

 

 

 

 

 

التوقيع


آلاد شكر هم اكعام المعاديني= صوارم في اللقا تروي شلافيها
ذباحة الحيل يوم الزمن شيني= مهوب يوم العرب فاضت مخابيها
يفرح بهم هاشل ذاق الامريني = والجار يامن بقصرتهم ويغليها
الشاعر الكبير برق الجنوب

    

رد مع اقتباس
قديم 09-06-2008, 01:44 PM   #4
 
إحصائية العضو







ابو فهد الغييثي غير متصل

وسام الدواسر البرونزي: للأعضاء المميزين والنشيطين - السبب: التميز والنشاط
: 1

ابو فهد الغييثي is on a distinguished road


افتراضي رد: رحلة استكشافية في وسط الجزيرة العربية(5-من أبها إلى نجران )

لاهنت على المجهود وبيض الله وجهك ,,,

تقبل تحياتي ,,

 

 

 

 

    

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الجزيرة تؤكد أن تشويش بث كأس العالم مصدره الأردن عبدالكريم العماري :: القسم الرياضي :: 2 04-10-2010 08:48 AM
تغير مناخ الجزيرة العربيه 2011 م والله اعلم domokh :: قسم المـواضيع الـعامــة :: 8 02-09-2010 09:07 AM

 


الساعة الآن 03:36 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
---