رحلة استكشافية في وسط الجزيرة العربية(7-اقتحام صحراء الربع الخالي ) - ::: مـنتدى قبيلـة الـدواسـر الـرسمي :::

العودة   ::: مـنتدى قبيلـة الـدواسـر الـرسمي ::: > :::. أقسام ( دغــش الــبـطــي) الأدبـيـة .::: > :: قسم القـــصص والروايـــات ::

إضافة رد
انشر الموضوع
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 05-05-2005, 03:37 PM   #1
 
إحصائية العضو








العماني غير متصل

العماني is on a distinguished road


افتراضي رحلة استكشافية في وسط الجزيرة العربية(7-اقتحام صحراء الربع الخالي )

تركنا نصف خدامنا وسياراتنا في الواحة، بعد أن أحكمنا إغلاق الخيام ووضعنا حراسة على مخيم الأخدود، ثم غادرنا على متن إحدى الشاحنات برفقة الجيب متوجهين في رحلة لمدة خمسة أيام في الربع الخالي. وستكون هذه الرحلة هي هديتنا التي نقدمها لأنفسنا بمناسبة نهاية العام. أما بالنسبة لمرافقينا. فإن هذه الرحلة في الصحراء المليئة بالمخاطر والشنيعة في جميع الحالات لا تمثل لهم لا نهاية العام الإسلامي ولا هي هدية.
وبعد عبورنا بدون مشكلات مجرى الوادي الذي يبلغ عرضه كيلومترين، توقفت قافلتنا أمام قصر الأمير لإطلاعه على برنامجنا. فمن الذي وجدنا في الوادي؟ وجدنا ببوف وبيونكر أصحاب بعثة مكافحة الجراد. وكانت لديهم النية بالتوجه إلى حضرموت في الجنوب.
كنا قد كلفنا الأمير باستقبال مراسلاتنا في حالة وصولها في أثناء غيابنا. وبعد ذلك توجهنا بدرجات شرقا باتجاه بئر الخضراء الذي سبقت لنا زيارته، وهو يبعد بحوالي أربعين كيلومتر من الأخدود. كانت بهذا الطريق مسالك عميقة لكنها قليلة الوعورة، ومع ذلك فقد كنا نترنح بين كديات مقطوعة وأعشاب عالية. وقد عبرنا كذلك تلة بها أشجار طماريس التي تميس إلى حد الانبساط على الأرض، كما كانت تتخللها أشجار ميتة يصل اتساع دائرتها إلى حوالي متر تقريبا. لماذا لم تلتقط هذه الأعواد اليابسة؟ والأغرب من هذا كذلك هو أن ترى هذه الأشجار اليابسة تقاوم نهب البدو لها. فالشجرة على أرض البدو شهيد حقيقي. إنها تقطع وتخلع أو تعطب أو تقدم كلأ للحيوانات بدون أدنى اعتبار لها. وفي اليوم الذي سيحترم فيه الأعرابي الشجرة، دون أن نطلب منه أن يغرسها، ستتضاعف قيمة بلده. كان هناك حوالي ثلاثين رجلا مصطفين كما لو كانوا يصلون، متوجهين نحو مكة وأمامهم جسد ممتد مغطى بقماش أحمر، إنها صلاة جنازة ولذلك كانت بدون نساء وبدون أطفال. لا يزال الناس يترددون على بئر الخضراء، وعند وصولنا وجدنا به حوالي خمسة عشر شاباً وعشرة أطفال، وحوالي خمسين جملا ومئة من الماعز الأسود. كان النساء والرجال يسحبون الماء من البئر في نغمة وصوت موحد مؤلف من جملتين قصيرتين، يقوم بترديدهما جماعة مع التنسيق فيما بينهم من أجل التغلب على سحب الماء دفعة واحدة. لقد تمكنت من التقاط بعض الصور التي حركت فيهم الشعور بالحذر على الرغم من احتياطاتي. لذلك باشرت توزيع بعض اللعب على الأطفال لاسترجاع التوازن بيننا. وبعد ذلك أصبحنا أصدقاء وخاصة بعدما عالجت طفلا عمره سبع سنوات، كان بأنفه جرح يسيل دما، كما أن كفه كانت حمراء من أثر ذبابة كانت تسير فوق جرح أنفه.
عاد فيلبي بمرشد جديد وهو عضو في فرقة فاطمة بقبيلة يام، وهي الفرقة التي تترحل في تخوم الصحراء. كانت بندقيته داخل غمد من الجلد الناعم بخيوط ممزقة على نمط أجود أساليب تكساس.
انطلقنا لنعبر بعد ذلك بقليل مصب وادي نجران الممتد فوق الصحراء. وهو عبارة عن مضيق يقع في المجرى الذي أصبح عرضه لا يتجاوز 270 متراً مارا بهضاب رويكبة شمالا، وهضيبة جنوبا، وقد التقطنا به حوالي ستة نقوش. وبعيدا من هناك في اتجاه الشرق تبدأ الدلتا الممتلئة بالأعشاب التي تتضاءل رؤيتنا لها كلما ابتعدنا عنها على مسافة حوالي ستين كيلومتر. وقلما تتكاثر بها أشجار السمر والأشجار الشوكية الأخرى بالإضافة الواقعة على المرتفعات الصخرية الموجودة في المنحدرات الرملية. تقع حدود اليمن على بعد حوالي 15 كيلومتر في الجنوب والجنوب الشرقي من موقعنا، وبعد ذلك تتوقف العلامات على الخريطة التي بين أيدينا، إذ لم يهتم أحد بحدود هذه الأراضي، والبدو وحدهم هم الذين يمكنهم وضع بعض نقط الحدود بحسب تقاليدهم القبلية.
كان الطريق سريعا جدا، تتخلله ارتجاجات سببتها بعض التراكمات الناتجة عن تكدس الأعشاب قديما. وبعد حوالي عشرين كيلومتر بلغنا أقصى نقطة معروفة لدى الأوربيين، وخاصة فيلبي، إنها وادي سلا، وبعد ذلك تأتي هضبة خباش. وفجأة ظهر بيننا أحد البدو الذي أشبع فضوله بسؤالين طرحهما علينا، لكنه كان يواصل طريقه فرحا بمصيره.
كان السراب يحرك في عيوننا بعض أشجار السمر المعزولة، وكذلك بعض الصخور الناتئة من الرمال، وقد كان أثر ذلك غريبا، يوهمنا بتناثر الدخان في الهواء، حيث كانت سحب الرمال تلامس التلال المحمرة. ولم يكن أمامنا سوى ثلاث سمرات تتحرك في الهواء الساخن. وقريبا منها كانت توجد بعض الألواح المصففة من الحجر الأبيض مركوزة في الرمال، وكانت هناك بدوية تائهة بدورها موقدة نارا ينتشر دخانها الأسود في الأفق. أين هي خيمتها؟ كانت تنظر إلينا باندهاش ونحن نمر من أمامها، ولا شك أنها كانت تحسبنا من مرافقي الأمير في رحلة الصيد. إن قوانين الصحراء في نجران مطلقة: المرأة دائما في أمان أينما وجدت منعزلة ومهما كانت قبيلتها. إن خرق هذا القانون يعنى إعدام المتهم.
لقد نسينا همومنا عندما شاهدنا غزالا أبيض يحتضر فوق الرمال على طول مجرى وادي نجران الذي سنقطع مجاريه الخمسة المختلفة. وبعد مغادرتنا أعشاب هذا الوادي شرعنا قي عبور سلسلة تلال يقارن علوها بعلو منزل. وكانت ظلالها تمتد في شكل أسنان طويلة تشبه أسنان المنشار. وبعيدا عنا كانت تركض أربعة غزلان مثيرة بساقها الدقيقة زوابع صغيرة من الغبار الذي كان ينتشر في الهواء.
وبعد ابتعادنا بحوالي 162 كلم عن الأخدود، نصبنا مخيمنا قرب التلال على بصيص النور المنبعث من غروب الشمس الأزرق، ذي اللون العنبري (الذهبي) والوردي. كانت بعض النتوءات التي لا يتجاوز علوها طول الكف تلقى بظلالها على مسافة أمتار عديدة، بينما كانت واجهتها الشرقية مضاءة بآخر خيوط النور المنبعث من الشمس أثناء الغروب. بدأت النجوم والكواكب تظهر الواحدة تلو الأخرى، إنها نجوم الصحراء اللامعة والصافية. وبعد نصف ساعة من التأخير التحقت بنا الشاحنة، ثم أنهيت يومي بالقبض على ثلاث فراشات ليلية كانت تحوم حول الفانوس، وكانت الرياح الشرقية قوية إلى حد ما. في نهاية ديسمبر كنا نستيقظ على أربع درجات مئوية. وفي التلال المجاورة كانت الرمال القليلة الخشونة لا تكاد تغطي سطح السهل الناعم الذي تغرق فيه أرجلنا. وعندما تهب العواصف ترى الأعشاب القليلة تجمع الرمال برأسها راسمة دوائر لطيفة. وبينما أنا جالس فوق مرتفع من الأرض حاولت تحديد موقع العاصفة التي كنت أسمع لها صوتا دون أن أرى لها أثرا. شاهدت كتلة كبيرة من الرمال وهي تنزلق محدثة صوتا فوق منحدر محفور بعمق. إن أسطورة الرمال التي تغنى ليست بعيدة عن الحقيقة، فقد حكى لنا فيلبي أنه ظل يبحث عبثا في السماء عن طائرة إلى أن أخبره مرشده بالحقيقة التي تقع بالقرب منه. وهذه الحقيقة طبعا هي الجنون أو الأرواح الشريرة والأشباح التي تخيف البدو، فهي التي تحدث هذه الظواهر التي أجهل سببها.
وفي هذا الصدد؛ فإن ما سمعته لم يكن نشيد الرمال.
غادرنا المخيم الذي لم يكن له اسم، في هذه الأثناء كأن خمس قبرات تطير من مكانها، كنا نصادف غالبا نملا صغيرا وقمل الرمال الصحراوي، أما الذباب فهو حاضر معنا باستمرار، ويكفي أن نتوقف ليهجم علينا. لقد رأيت منها الكثير في عمق الصحراء في سورية كما أن فيلبي كان يجدها دائما على طول امتداد الربع الخالي.
كلما علت الشمس في السماء كثر السراب، وقريبا لن نرى إلا التلال أو الأرض التي تشبه السدود الهولندية منظورا إليها من مصب النهر.
كان يوجد في المرتفع جرف طويل يقابله من بعيد في اتجاه الشمال والشمال الغربي. وكنا نقترب إلى آخر الطرف الجنوبي غير المعروف في سلسلة جبال طويق، وهي عبارة عن مرتفع من الكلس والصخور الرسوبية، يقع على امتداد مئات الكيلومترات، متجهة من الشمال إلى الجنوب، وبدايتها في شمال مدينة الرياض. عاصمة البلد. باستثناء هذه النقطة المعروفة.
فإن كل ما كان يحيط بنا هو عبارة عن رمال في رمال، كانت سياراتنا تسير بارتياح في المنحدرات الواسعة التي يصل اتساعها إلى حوالي كيلو متر محاطة بتلال وردية، وهي تضم إليها ما تبقى من ظلالها كما يضم القط إليه مخالبه. تحتفظ الرمال بالأثر بكل إخلاص، لكن الرياح تطمسها. ومن هنا وهناك استطعنا التعرف على أثر جمل وغزال ويربوع وقنبرة. أما آثار الطيور التي مسحتها الرياح فوق الأرض فكانت تبدأ وتنتهي بدون سبب. وفي بعض الأماكن كنا نجد شجيرة العبل التي تستخدم في استخلاص مادة من فصيلة الشاي، والتي تضرب عروقها في أعماق الأرض لمسافة قد تصل أحيانا إلى عشرين مترا. كنا نتسلى أحيانا باقتلاع بعض هذه النباتات التي يكشف عنها انجراف التربة، وكان هذا يعطينا الانطباع بأننا نستل ثعبانا من أعماق الأرض.
كان الهدف الأول من رحلتنا هو أن نصل إلى بئر خطمة التي تقع في السفح الشرقي لجبل طويق. ولما تحولنا إلى درجة 345 دخلناه عبر طريق سهل من الحصى الغليظ الموحد الحجم. كانت المسافات والتضاريس التي تختلط فوق الرمال، وخاصة عندما يكون المرء مقابلا للشمس تصبح خداعة تماما، كما يخدع الثلج المنزلق عليه. يصل بنا الحال أحيانا فوق هذه السهول التي نعبرها أن نخفض سرعة السيارة إلى 15 كلم في الساعة، لدرجة أن السائق كان يوجس خيفة أن يسقط من أعلى حافة إحدى المنحدرات غير المعروفة لديه. كان الأمر سيتحول إلى حقيقة لو كنا نسير فوق التلال.
وبعد 210 كلم من الأخدود، وصلنا بئر خطمة المعلم بأربعة أحجار (علامات) إنه يشهد على أزمنة مخصبة أو فصول ممطرة، فما زالت هياكل دعاماته الخشبية التي كانت تساعد في سحب الماء منه بواسطة بكرة قائمة إلى الآن ولو أنها محترقة بالشمس، كما أن الرياح قد غيرت لونها. وبالقرب منه يوجد مجريان للماء كان يسير فوقه مستخدمو البئر لسحب الماء منه، وهما في اتجاه معاكس أحدهما للآخر، يصل طولهما 105 أمتار مما يؤكد العمق الكبير لهذه البئر التي تصل إلى 100 متر. ومن المستحيل رؤية العمق بمساعدة المرآة. فمن هم هؤلاء الجريئون الذين بنوا جدرانه، وتجرءوا على النزول بنهاية الحبل إلى هذا العمق؟ آمل ألا يكونوا قد أصيبوا بخيبة أمل مثلنا، ذلك لأن بئر الخطمة جاف وليس به ماء. وهناك آثار أخرى في حوالي عشرة مواضع مختلفة في المنطقة نفسها، ترى هل يمكن أن تكون آبارا قديمة؟ كان هناك بعض القطع من الأحجار المبرية التي كانت تستخدم في إيقاد النار أو في صنع السهام أو رؤوس الحراب. وقبل الحديث عن فترة ما قبل التاريخ يجب ألا ننسى بأن البدوي احتفظ ببعض العادات التي لا تميزه عن إخوته في العصر الحجري إن لم يكن العصر الأقدم منه. فكيف كانوا يوقدون النار قبل اكتشاف الكبريت؟
لقد عثرنا على قطعة من الخزف ولكننا لم نعثر على أي نقش، وهو ما سيلازمنا خلال جولتنا في الربع الخالي، وأتأسف لذلك، فقد كانت النقوش ستفيدنا كثيرا، لكن يظهر أن فكرة قضاء العطلة بعيدا عن الثموديين تبدو مقبولة. غادرنا هذه الآبار التي ماتت منذ قرون والتي تمثل آثارا عالمية. لقد تخلى الناس عن ختمة اليوم، والدليل على ذلك هو عدم وجود أي أثر لروث البهائم حولها.
كانت تعن لنا من بعيد أربعة نتوءات بارزة من جبال طويق: منها خشم خطمة. كنا نتجه نحو الخشم الثالث عندما توقفت الجيب بسبب نفاد البنزين منها. وفي الصباح نفسه كانت الشاحنة قد تعطلت بسبب البطارية، على الرغم من أننا كنا قد أخذنا احتياطاتنا. فهل استطاعت الشاحنة التحرك من مكانها؟ كان أول تصريح لفيلبي هو " يجب الاقتصاد في الماء "والتصريح الثاني ينذرنا من السائق محمد الذي يعد مسؤولا عن جميع جنون الصحراء.
إن الوضع عجيب أكثر منه خطيرا، فإذا سارت الأمور بهذا السوء، وإذا كان كل شيء سيتعطل في نهاية كل مرحلة فسيصبح لزاما على اثنين منا أن يسيرا مسافة 48 كيلومتر مشيا للبحث عن الماء والبنزين الموجودين بالشاحنة.
تتكون سلسلة جبال طويق على شكل ذي منحدر واحد في الواجهة الشرقية، وهو عبارة عن جرف وعر طوله 150 مترا، وقمته مسطحة، وهي نموذج لما يطلق عليه الجيولوجيون النجد. قاعدته مكونة من الصخور الرملية (الرسوبية)، وقمته من الكلس (الجير) الجوراسي (الأرض التي تتكون من طبقات مختلفة). وفي اتجاه الشرق كان يوجد منحدر هذه القمة الذي سينطمس في صحراء الربع الخالي. وكنا نقتل الوقت بالتقاط عديد من عروق اللؤلؤ (المرجان المتشعب) والمحار (الصدف) المتحجر المنحدر من الكلس. وكانت بعض المواقع مليئة بالأكوام الصغيرة البيضاء على شكل بوكسان (يشبه الحلزون) الذي يقول فيلبي بأنه كان يجده بكثرة خلال عبوره الربع الخالي. وبعد ساعتين من تعطل السيارة ركزنا نظرنا على نقطة وهمية في الأفق، كانت هذه النقطة تتحرك في النقع، فإذا بها الشاحنة والبنزين.
وبعد عبورنا حوالي عشرة كيلومترات بلغنا هدفنا الثاني الذي يعد الأهم من سابقه جغرافيا، وهو الطرف الأقصى لجنوب طويق الذي ظهر لنا أنه يتخذ شكل الجرف نفسه في انتظار وضع الخريطة النهائية لهذه المنطقة، ويمكن القول إنها تقع تقريبا على خط العرض 01 18 درجة شمالا وعلى خط الطول 45 48 شرقاً. لقد قررنا الإحاطة بهذه النقطة الواقعة في أقصى الطرف الجنوبي التي تملؤها كثبان الرمال المتحركة ذات اللونين الأحمر والوردي. وكانت هناك غزالة تهرب بعيدا منا عندما كنا ننزل بلطف في وسط الرمال. كان الرجال يستخدمون جميع إمكاناتهم من أجل سحب الرمال، وغالبا ما كانوا يفضلون استخدام قطعة من القصدير ليضعوها تحت العجلات، إذ يظهر أن استعمال المجرفة كان غير معروف لديهم. وقد انتهزت هذه الفرصة فالتقطت قرنا حاد الطرف وقاعدته عريضة على شكل قيثار وهو لوعل، وهو نوع من الظباء الرملية التي كانت توجد هنا بكثرة لكنها اليوم في طريقها إلى الانقراض. حيث أصبحت هواية صيدها تتفاقم منذ زمن قصير أي: مع دخول السيارة مجال الصيد.
لقد نصبنا المخيم فوق المرتفع بعيدا عن ضغط شعيب الخور متمتعين بغروب الشمس فوق الرمال المليئة بقطع البلاط الأرتوازية وأفراخ الحجل.
كانت درجة الحرارة في الليل تبلغ على الأقل درجتين مئويتين، وكنت في حاجة إلى تنظيف أظافري بالماء. نحن الآن على علو يتجاوز 1000 متر. وتفصلنا عن المنخلي بعض الكيلومترات، وهي النقطة التي أشار إليها المرشد والتي كان يقودنا إليها. وعند وصولنا إلى سفح التلال التي يبلغ علوها 8 أمتار لم نجد بها لا بئرا ولا أثرا لتجمع المياه التي تكون عادة على شكل طبقة رملية رقيقة ويابسة. ويقول المرشد: بأن المطر لم يسقط على هذه المنطقة منذ ولادته. كان هناك قبران بسيطان، بسقفهما المبني من الأحجار الرسوبية الموضوعة فوق الرأس، الله يعلم بطبيعة موت أصحابهما في هذه المنطقة. كما كانت هناك قبور أخرى في المنطقة. وسنرى بعضها قرب المنخلي التي تذكرنا بوجود ركام من الجثوات الحجرية الضاربة في القدم، وهي التي كنا قد صادفنا بعضا منها سابقا، وهي عبارة عن أكداس دائرية بقامة الإنسان مكونة من أحجار متجاورة، بعضها له امتداد على شكل كم طوله 15 مترا، معطيا للجميع شكل مغرفة مقلوبة. وبالنظر إلى طبيعة هذه القبور. فإننا نجزم بأن هؤلاء الأموات لم يدفنوا بسرعة. فهي عبارة عن صوان مقلم من جوانبه.
وبعد نحو أربعين كيلومتر في اتجاه الجنوب، والجنوب الغربي كان يوجد مرتفع صخري مسطح على مساحة عشرين هكتارا، يشرف على منطقة رملية طولها خمسون مترا، إنه جبل أجيهمين. كنا نعبرها ونحن نسمع صوت تكسير الصخور الرسوبية التي كانت تدوسها عجلات الجيب. كانت هناك غزالتان تهربان فوق التل، وكان فيلبي يعيد إحكام إغلاق باب السيارة التي كانت تنفتح عند كل رجة. وبعد قليل تركنا الشاحنة مؤمنين بضرورة الانتظار في مكاننا الذي كنا فيه. كانت أمامنا منطقة تلية كثيرة الحفر لونها يشبه جلد الحوت، تتتابع بها منخفضات من الحصى المعروف بالكالكير، وبها بقايا آثار الفيضانات المجمدة. كان لون هذه التلال ورديا شاحبا وعليها أثر الاحتراق بحرارة الشمس، لكن لون خلفيتها أصبح أصهب، وكانت أعماقها مغشاة بالسراب الذي كان يلوح عن بعد معطيا الانطباع بوجود الماء، ولم أر مثله في الصحارى والواحات البعيدة، ولا فيما يشبهها من المشاهد المثيرة. كنا نغرق في الرمال مرات كثيرة، كنا نغرق تقريبا على بعد متر ونصف، وهو ما جعلنا نصدم صدمة كبيرة. وبهذه المناسبة قمت باستلال عرق نبتة العبل التي كان طولها 21 مترا.
ها قد بلغنا سفح جبل أجيهمين الذي نهبط منه فوق ركام الأحجار الشديدة الصلابة. أما الأرض فكانت مليئة بالحفر.
كانت النظرة تمتد من القمة بدون حدود باستثناء جهة الشمال حيث كان يحبسها مرتفعان صخريان في الصحراء، والعروق التي تميل قليلا جهة الغرب فوق الطرف الجنوبي من طويق.
عدنا إلى آثار سيرنا ملتزمين باجتياز النقط التي غرقنا فيها في الرمال، كان جاك والمرشد والسائق محمد وأنا قد تكدسنا في عمق السيارة، حيث كانت حرارة مدخنة السيارة تصل إلى أقدامنا عبر إطار السيارة الحديدي، وخاصة عندما كانت العجلات تتعثر، في هذه الأثناء كنت أشاهد عيون فيلبي الملتهبة تنعكس في المرآة. أما السائق محمد هفكان يستخدم دائما عبارات الاعتذار عن إغضاب فيلبي الذي كان ينساها بسرعة ليشرع في الابتسام معتذرا عن وعورة الطريق.
كان المخيم منصوبا على بعد 15 كيلا شمال جبل أجيهمين في إحدى المنخفضات بين التلال التي كان يظهر أنها لم تكن تختلف عن بعضها لدى رجالنا.
استيقظت هذا الصباح من آخر يوم في سنة 1951 م على درجة صفر مئوية، فجلست بين الرجال حول نار متقدة من أعواد العبل ذات الرائحة القوية. كنا نثرثر في هذا البرد القارس، ونشرب أكواب الحليب بالزنجبيل ونحن نشاهد تساقط الحصى القادم من التلال مع رياح اللهب الدافئة.
كان برنامج اليوم جذابا بشكل خاص، لأننا كنا نحاول الوصول إلى نقطة أطلق عليها المرشد عرق البئر التي قال إنه ذهب إليها على ظهر جمله وكان قد رأى بها أطلالا. إن كلمة طلل لا تعني الكثير في فم البدوي. يمكن أن تكون مدينة أو ضريحا يرجع تاريخه إلى ألفي سنة أو إلى عشر سنوات. إن مفهوم الزمن والمسافة عند البدوي نسبي جدا، فهما يقاسان بمسيرة يوم على الجمل الذي تتراوح سرعته بين 25 كلم و 40 كلم. وعليه فمن المستحيل علينا معرفة ما يوجد بالضبط في عرق البئر ولا المسافة ولا المكان الذي توجد به، فكل المعلومات المتوافرة لدينا عن المرحلة تتلخص في أنها طويلة ويجب علينا عبور الرمال، رمال كثيرة وسيئة (ووعرة). فأين هي الحقيقة؟ يظهر أن المرشد كان واقعا تحت تأثير لهفة رجالنا لمغادرة الصحراء. أضفنا إلى زاد أمس الماء والزيت والبنزين. وبذلك أصبحنا تماما كالسردين في العلب. تحولنا درجة نحو الشرق والجنوب الشرقي تاركين الشاحنة في المخيم مع أوامر دقيقة تخصنا نحن. وفي لحظة الانطلاق رفض المرشد ركوب الجيب، وكان يجب علينا إرغامه على ذلك، فما هذا الجنون الذي جعله يتراجع، أو بالأحرى ما هي قدرة تأثير رفقائه عليه في جعله يتراجع؟
كانت التلال تصطف في خطوط متوازية يفصل بينها فجاج يسلكها الناس، كان اتساعها يصل إلى كيلومترين أو أكثر. ومع الأسف. فإن اتجاه هذه التلال كان من الشمال إلى الجنوب، بينما كنا نحن نتجه شرقا وهو ما أرغمنا على عبور صف منها بعد الآخر. كانت جوانبها ومنحدراتها مليئة بألواح رملية رخوة ومناسبة للغرق فيها. ومن الغريب ألا يكون المرشد عارفا بطبيعة الأرض التي يسكنها، وهذا صحيح لأنه راعي جمال وأنه يعرف لأول مرة السيارة التي تسير بالمحرك. كان باب الجيب يواصل انزلاقه من مكانه، وكان فيلبي يواصل إغلاقه بالأسلوب نفسه في عدم المبالاة، بينما كان جاك يصدر علامات الغضب التي كانت تتصاعد منه تدريجيا، وقد بقي على تلك الحال إلى أن صرح لنا بأنه فقد مذكرته التي يسجل عليها ملاحظاته. هذا أسوأ ما يمكن أن يصيب الواحد منا وخاصة عندما تكون هذه المذكرة تتضمن تسجيلات ثلاثين يوما كاملة. لقد وجدناها عند ريكمان الذي جمعها مع العفش بدون علمه. وكان هناك غرابان يقفان بعيدا منا بحوالي خمسين مترا ويتبعان سيارة الجيب. ومن حسن الحظ أنهما اثنان، ذلك لأن وجود غراب واحد يحمل الشؤم حسب قول البدو، ولم يكن رجالنا في حاجة إلى نذير شؤم يزيد من تشاؤمهم.
وبعد 15 كيلومتر في الطريق واجهنا المشكلة الحقيقية. فوجود شاحنة واحدة لم يكن كافيا لمواجهة أخطار الصحراء المتزايدة، هذا ما قرره فيلبي. كما أن كثرة الرمال وتتاليها واتساع التلال التي يجب علينا عبورها كانت تشكل عقبات في طريقنا لا يجب الاستهانة بها أو التقليل من شأنها. إنها لخيبة أمل كبيرة. وفيما لو حدث شيء سيكون علينا قطع مسافة ثلاثين كيلومتر بحثا عن الشاحنة التي ستقتفي أثرنا لتمدنا بالعون. من يدري؟ إن الوصف الذي قدمه لنا المرشد لعرق البئر جعلها موضع حديثنا، وبناء على كلامه أيضا يجب أن تكون قريبة بالنظر إلى المسافة التي قطعناها.
لقد قررنا مواصلة السير، وكان مسفر الثاني مساعد رئيس المرافقين قد تخلى عن سحنته، وشرع في إنشاد الأغاني التي يطلقها عادة خلف البعير وهو متجه نحو البئر، فطلب منه فيلبي أن يصمت. كانت بعض منحدرات التلال كثيرة الحفر، وكان يجب علينا أخذ الكثير من الحيطة ونحن نمر بجنباتها، وهو ما كان يكبح جماحنا أحيانا ويجبرنا على التوقف في مناطق وعرة.
وبذلك رجعنا إلى المخيم، إلى الشاحنة وابريق الشاي. لقد بقينا هناك مدة جمع المتاع ثم أخذنا مرة أخرى الطريق المؤدي إلى نجران مقتفين أثر قدومنا منها. ودعنا لآخر مرة الطرف الجنوبي لجبل طويق الذي كان إلى غاية الأمس غير معروف من قبل الأوربيين، ثم قررنا نصب مخيمنا على بعد 35 كيلومتر غربا قرب بعض أشجار العبل الضعيفة، فأوقدنا نارا كبيرة حتى تتمكن الشاحنة التي تأخرت علينا بساعتين من التعرف على مكاننا. ثم قعدت على تل أرقب من فوقه آخر لحظات غروب الشمس من سنة 1951م خلف جبال عسير معوضا عن خيبة الأمل التي أصابتني طول هذا اليوم.
شرعنا في تبادل التهاني الحبية والأخوية بمناسبة دخول العام الجديد تحت طقس بلغت برودته درجة واحدة تحت الصفر. كانت الرمال ناعمة لكنها باردة على أقدامنا الحافية. فمنذ أيام قليلة وأنا وجاك نتجاهل لبس الأحذية.
أما فيلبي الذي لا يزال يجتر فشل البارحة فيعتقد أنه كان في إمكان المرشد أن يحسن توجيهنا، لكن خوفه المحتمل من الجن والأشباح التي يعتقد أنها كانت تحيط بالقبور والأطلال أو فوق المرتفعات هو الذي أدى دورا مهما في فشلنا. إن وقوع البدوي ضحية هذا التصور الساذج يجعله لا يتردد في الهروب كما هو حال مرشدنا الذي هرب أمس كما لو كان أحمق أو مهددا بالموت كما حدث لأحدهم مع فيلبي الذي عاش واقعة من هذا النوع في الربع الخالي.
وبعد انطلاقنا بقليل أي بعد حوالي 50 كيلومتر غرب طويق شاهدنا جبال نجران تبزغ من بعيد. ويمكننا القول: إنه من الممكن في حالة صفاء السماء ومن خلال النقطة التي كنا فيها مشاهدة قمتين من قممها على الأقل. وبعد ذلك بثلاثين كيلومتر إلى الأمام في اتجاه الغرب أحطنا بدلتا وادي نجران كثيرة الأشجار الشوكية التي تشغل عرض مساحة بها قشور ترسبية، وهي عبارة عن بقايا مجاري المياه التي كانت تصل إلى هناك. كانت القافلة تعبر ستة من بقايا مجار كان أهمها آخرها. وقد شاهدنا بها ثلاث مرات مجموعات صغيرة من الماعز الأسود، حيث سلم رجالنا على رعاتها بصوت مرتفع، ومنهم الأطفال والنساء. إلى غاية الأمس لا تزال عندنا مشكلات مع البطارية وبعض المسامير الفولاذية وموزع البنزين في المحرك التي جعلت من الشاحنة شيئا ضائعا إلى حد التلف. واليوم عاد المشكل نفسه إلى الشاحنة بعدما سرنا مسافة 50 كيلومتر مما جعلنا نطارد الغزلان. كان مرافقونا مخلصين ومجاملين لنا كثيرا، لكن مكة والصحراء شيئان مختلفان.
لقد سرنا في معبر متجه قليلا نحو الجنوب مقارنة مع طريق قدومنا منه من أجل معاينة مجمع صخري منعزل يسمى الغويلة الذي كان يسبح فيه- مجازا- وادي سلا. لقد بدأنا في تعويض محاولاتنا بالعثور على بعض النقوش الأولى في هذه المرحلة. لقد جزأنا كتابة النقوش مرة أخرى وشرعنا في التقاط نقوش جديدة في جنبات جبل رويكبة من حيث دخلنا شعاب الواحات سالكين العتبة التي حفرها وادي نجران. وبذلك سنكون قد قطعنا،مسافة 140 كيلومتر من طويق إلى هذه النقطة.
بقي- علينا أن نعود إلى مخيمنا بالأخدود، وهو ما سنقوم به سالكين الطريق المعتاد الذي توقفنا فيه مرتين. الأولى على بعد 15 كيلومتر شرق قصر الأمير، وهو عبارة عن مجمع من الصخور الثقيلة الدائرية والناعمة التي تصل إلى رمال الوادي، كانت توجد به عديد من النقوش الحميرية من بينها واحدة كتبت عليها عبارة: الله أكبر، مما يدل على عقيدة التوحيد لدى مؤلفها. وكان قد دعانا بدويان فقيران بطيبة قلبهما لمشاركتهما في شرب القهوة تحت أنظار الماعز الماكرة المنفلتة من مربطها وهي تمضغ أطراف الثياب. كانت تطير فوق رؤوسنا بعض فراخ الحجل عندما كنا في أسفل مكان توجد به علامة تقليدية على وجود بئر. وفوقنا كان يوجد نتوء صخري يتجمع الرجال في ظله.
كانت خيام وسيارات منظمة محاربة الجراد منتشرة على جنبات الطريق. قصدناهم من أجل الاحتفال بالسنة الجديدة. كان لدى بيونكر وببوف ترخيص بالوصول إلى حضرموت، إنهم سعداء، وهم يستحقون ذلك لأنهم يعطون الانطباع بأنهم فريق ديناميكي وكفء؟ إذ كانوا يولون عناية لكل ما يصادفهم في طريقهم. وفي انتظار ذلك كانت أهمية بيونكر قد ازدادت في عيون فيلبي عندما كان بصدد إصلاح جهاز الراديو الذي كان يحمله معه طول الرحلة. إن حرمان الشيخ عبد الله من هذا الحلم العزيز عليه كلفنا نحن أيضا الحرمان من سماع أخبار إذاعة الى بي بي سي هذا المساء، وذلك عندما كنا في انتظار تصليح الجهاز. دخلنا المخيم وقت غروب الشمس، حيث كانت الماعز تثير نقعا فضيا، وهي تقفز فوق جذوع النخيل والمزارع متجانبة مع بعضها في ضوء السماء المتعدد الألوان.
لقد قطعنا مسافة 540 كيلو متر خلال هذا الاجتياح القصير في الربع الخالي، وقطعنا مسافة 3050 كيلو متر منذ انطلاقنا من جدة.
وبما أن التاريخ ليست له أهمية كبيرة خلافا للأحداث التي تكتسي أهمية قصوى ة فإنه من المفيد أن أذكر هنا بأنني جمعت وصف الإقامة في نجران عن آخره في الفصل السابع، بينما خصصت الفصل الحالي لوصف اقتحامنا الربع الخالي. وفي الحقيقة فإن تجوالنا في الصحراء كان قد أنجز خلال إقامتنا في الواحة مقسما إياه إلى مرحلتين مختلفتين. ترى هل أصابنا الإرهاق؟ أم أنها خيبة الأمل التي أصابتنا من زمن معتم أثقل علينا في أسبوعنا الأخير هنا، كان ريكمان قد أزعجنا بارتفاع حرارته وبمرض أصاب حنجرته، لكنه خرج من هذه التجربة ومن نجران بابتسامة مرسومة على شفتيه، وبميزان الحرارة الذي انخفضت درجة حرارته إلى 37 درجة مئوية.


العماني

يتبع

 

 

 

 

    

رد مع اقتباس
قديم 08-06-2008, 08:19 PM   #4
 
إحصائية العضو







ابو فهد الغييثي غير متصل

وسام الدواسر البرونزي: للأعضاء المميزين والنشيطين - السبب: التميز والنشاط
: 1

ابو فهد الغييثي is on a distinguished road


افتراضي رد: رحلة استكشافية في وسط الجزيرة العربية(7-اقتحام صحراء الربع الخالي )

الله يعطيك العافيه على ماقدمته

 

 

 

 

    

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 


الساعة الآن 03:34 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
---