التأمل في أحوال الناس مع فريضة الصوم يجعلهم على ثلاث مراتب: صوم الغفلة، وصوم الكثرة، وصوم الصفوة.
أما صوم الغفلة، فهو ذاك الذي يصوم لرفع العتب فيمتنع عن الطعام والشراب طيلة النهار، حتى إذا ما جاء الليل جاء بموبقات ومستقبحات لا تليق بما كان فيه من طاعة في نهار نفس اليوم، ويستبدل أصحاب هذا النوع من الصيام المسجد بالخيمة الرمضانية، والقرآن بالشيشة، وذكر الله بخليط من الغيبة والنميمة وفضول الكلام حتى يصبح النوم في أصحاب هذا النوع من الصيام من أعظم العبادات لأنه يمنعهم من مآثم ومغارم كثيرة يشفق الملك عليهم وهو يسجلها في حقهم في ليل رمضان وخاصة في العشر الأواخر منه أعظم ليالي السنة وأفضلها عند الله سبحانه وتعالى.
والنوع الثاني من الصيام هو صوم الكثرة، وهو كف النظر واللسان واليد والرجل والسمع والبصر وسائر الجوارح عن الآثام، وهو ما يعرف بصوم الجوارح والذي تمارسه الكثرة الغالبة من الأمة، وتحاول فيه أن تتزود من الطاعات وتحرص فيه على كثرة النوافل والرواتب لتنال بركة وأجر هذا الشهر الكريم
والنوع الثالث من الصيام هو صيام الصفوة، وهو صوم خصوص الخصوص كما يقول العلماء، وهي عبادة الصفوة أو النخبة من هذه الأمة ويحتاج إلى رياضة نفسية وإيمانية عالية، وهو صوم القلب عن الهمم الدنيئة والأفكار البعيدة عن الله تعالى، وكفه عما سوى الله تعالى بالكلية كما ورد في "مختصر منهاج القاصدين" وللصوم هدف واحد محدد، لو يضعه الصائم نصب عينيه لكف عن كثير من الأفعال التي تخدش صيامه ويرتكبها في لحظات الغفلة والضعف.
وهذا الهدف هو حصول التقوى ولذلك قال تعالى: (لعلكم تتقون) ولو أن الصائم مع أول ليلة من صيامه ربط نية الصيام مع قوله تعالى: (لعلكم تتقون) وجعلها له شعاراً طوال الشهر، لأنجاه ذلك من كثير من الزلل والخطأ، لينال من بركة الصيام الذي هو طهرة للنفس، ووقاية للبدن، وتهذيب للطبع والكبح لجماح النفس، وصمام أمان من الوقوع في المحرمات، كما أنه يورث الخشية من الله، ويثمر دوام مراقبة الله في السر، بالإضافة إلى ما يحققه من منافع دنيوية كصحة البدن والشعور بجوع الفقير وذي الحاجة.
ويعجبني كثيراً وصف ابن القيم لفريضة الصوم في زاد المعاد (2/92) حينما قال: هو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئاً، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها، إيثاراً لمحبة الله ومرضاته، وهو سر بين العبد وربه، لا يطلع عليه سواه، والعباد قد يطلعون فيه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده فهو لا يطلع عليه بشر، وتلك حقيقة الصوم".
الشيخ الدكتور جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين