يتميز مجتمع الدولة الإسلامية بأنه مجتمع متكامل قوي قادرعلى النهوض بقدراته الذاتية بقدر تمسكه بعقيدة الإسلام وما ينبثق عنها من أنظمة ومفاهيم تدفعه إلى أن يكون الأقوى والأعظم تقدماً بين غيره من الأمم.
يقول الحق تبارك وتعالى “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم”. (الأنفال 60)، فلابد إذن من اعداد القوة الكافية لإرهاب أعداء الله في الخارج وفي الداخل ولمنعهم من التفكير في الاعتداء على المسلمين، بل ومحاولة جعل المسلمين مثلهم الأعلى وقبلتهم لطلب التقدم في جميع المجالات، وذلك ما حدث فعلاً في العصور الأولى لقيام الدولة الاسلامية، وليست حضارة الأندلس الاسلامية ببعيدة عن الأذهان.
مما لا شك فيه أن سلامة البدن والعقل من مظاهر القوة المطلوبة، فهي الأساس لكل حضارة وتقدم ورقي، وهي أمور لا تتأتى إلا بالاعداد الخاص والدراسة الواعية للوصول إلى المسلم القوي جسداً وفكراً لقول الرسول عليه الصلاة والسلام “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير”.
وكما بين لنا الرسول عليه الصلاة والسلام فإن القوة ذات شقين، أحدهما جسدي يأتي بالتدريب المستمر لصحة الجسد وتقوية عضلاته واكتساب المهارات المفيدة في العمل ومحاربة الأعداء كقوله عليه الصلاة والسلام “علموا أولاكم الرماية والسباحة وركوب الخيل” وهذه يدخل ضمنها في عصرنا الحاضر التدريب على حمل السلاح وتوجيه القذائف والصواريخ وقيادة الطائرات وغيرها من وسائل القتال كالسفن والبوارج والزوارق الحربية وغيرها، بينما يمثل الشق الآخر من القوة تربية النفس والفكر والارادة، وفي ذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام “ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب” بيانا لما لقوة الارادة والتحكم في النفس وضبط الانفعال من أهمية في حياة الناس ومعاملاتهم.
وبذلك فإن العلوم التي تؤدي إلى زيادة قوة الدولة الإسلامية عسكرياً وصناعياً واقتصادياً وغير ذلك مما يرهب أعداءها تعتبر من فروض الكفاية التي إذا أغفلها المسلمون يأثمون جميعاً.
وفروض الكفاية تكليف للأمة كلها، فإذا لم يقم في الدولة هذا الغرض يأثم جميع المسلمين، ولا يتعطل فرض الكفاية تحت أشد الظروف، ومثال ذلك التفقه في الدين، فقد ساوى الإسلام بينه وبين الخروج للجهاد في سبيل الله لقوله تعالى في سورة التوبة “وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون” فالجهاد فرض كفاية يرقى إلى فرض عين عند تعرض ديار المسلمين للهجوم إلا أن التفقه في الدين فرض على طائفة من المسلمين لا يسقطه خروج المسلمين للجهاد العسكري في سبيل الله.
ومن الطوائف المطلوب وجودها في الدولة الإسلامية كفروض على الكفاية الأطباء والمهندسون والزراعيون والفيزيائيون والتجاريون والصناعيون وغير ذلك من الفئات الضرورية لقيام المجتمع المتكامل القوي في مختلف المجالات.
العلوم الطبية
والعلوم الطبية من العلوم المعتبرة شرعاً والمطلوب وجودها في الدولة الاسلامية لقوله عليه الصلاة والسلام “طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة” وكما يقول الحق سبحانه وتعالى “يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات”. كما يجب أن تكون العقلية الاسلامية هي الأساس لكل معرفة يقبل عليها المسلم وكل علم يتعلمه. وليس معنى ذلك أن تكون كل معرفة منبثقة عن العقيدة الإسلامية وانما معنى ذلك أن المعارف المتعلقة بالعقائد والأحكام يجب أن تنبثق عن العقيدة الاسلامية. أما غير ذلك من المعارف فيجب أن تتخذ العقيدة الاسلامية مقياساً لها، وما ناقض عقديتنا فلا نأخذه ولا نعتقده مثل نظرية التطور ومثل الاشتراكية والديمقراطية المزعومة، فالعقيدة هي المقياس من حيث الأخذ والاعتقاد.
والطب من حيث كونه من العلوم الضرورية فهو فرض على المسلمين، ولكونه أحد أسباب الصحة المتكاملة والقوة البدنية فهو فرض على الأمة، ويشمل ذلك دراسة الأمراض ومسبباتها وسبل علاجها وما يتعلق بذلك من بحوث مخلفة في مجالات الأدوية أو الجراحات المختلفة أو تكنولوجيات الفحص والتشخيص والعلاج والوقاية.
وقد كان من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام التداوي في نفسه والأمر لأهله وأصحابه والمسلمين بالتداوي وكان يقول: “يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا الهرم”. وكان يقول: “لكل داء دواء علمه من علمه وجهله من جهله”.
والأمراض من أمر الله الذي يصيب البشر في كل زمان ومكان ولا يسلم منها انسان حتى الرسل والأنبياء.. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام ينصح بعض مرضى المسلمين بالتداوي عند من يعلم عنهم الطب مثل الحارث بن كلدة، وكان يحذر من التصدي لعلاج الناس من دون علم وخبرة في فن الطب قائلا “من تطبب ولم يعلم عنه طب فهو ضامن”.
كما كان من هديه عليه الصلاة والسلام وصف بعض التدابير العلاجية مثل استخدام الماء البارد في حالات الحمى وارتفاع حرارة الجسد ويقول: “انما الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء”، ومثل اعطاء العسل لمن اشتكى من بطنه، ومثل الحجامة، وعلاج يبس الطبع (الامساك) بالسنا ومثل هديه عند ظهور الطاعون “.. فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فراراً منه” وذلك من أهم سبل الوقاية وغير ذلك مما نجد تفصيله في كتب الطب النبوي.
الآسيات
ولا يقتصر تعلم الطب على الرجال، بل هو فرض كفاية على النساء في نطاق ما يسمح به الشرع.. فقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يصطحب في غزواته من نساء المسلمين من يقمن على رعاية الجرحى وتطبيبهم وكن يعرفن ب “الآسيات”.. ومنهن نسيبة المازنية (أم عمارة) التي اشتركت في غزوة بدر ثم اشتركت بعد ذلك في غزوة أحد حيث قاتلت مع المسلمين وقتلت الرجل الذي أصاب ابنها، وقال عنها رسول الله صلي الله عليه وسلم “ما التفت يميناً ولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني” وكان يقول لها: “ومن تطق ما تطيقين يا أم عمارة” وقد شهدت رضي الله عنها بيعة الرضوان واشتركت في حرب اليمامة.
ومن الآسيات “كعيبة بنت سعد الأسلمية” التي كانت لها خيمة تداوي فيها الجرحى في خيبر، وقد أسهم لها الرسول بسهم رجل.
ومنهن “أميمة بنت قيس الغفارية” التي خرجت مع الرسول عليه الصلاة والسلام ولم تبلغ السابعة عشرة من عمرها.
ومنهن “أم سنان الأسلمية” وصويحباتها كفريق طبي متكامل لمداواة الجرحى والاعتناء بهم.
ومنهن “أم عطية الأنصارية” والتي كانت من طبيبات العرب في الجاهلية وأسلمت واشتركت في الغزوات مع رسول الله.
ومنهن “أم أيمن” رضي الله عنها مولاة النبي عليه الصلاة والسلام وحاضنته والتي شهدت أحداً وخيبر.
ومنهن “الربيع بنت معوذ” وغيرهن ممن اشتركن في الغزوات والفتوح الاسلامية، فإذا دعا الداعي وحمي وطيس القتال قاتلن جنباً إلى جنب مع جند الله في سبيل الله.
نحو نظام طبي اسلامي
يجب على المسلمين ايجاد نظام خاص للعمل الطبي في بلاد المسلمين يقوم على المفاهيم الاسلامية والأحكام الشرعية المستنبطة من الكتاب والسنة باجتهادات شرعية معتبرة لما هو كائن من الأمور الطبية ولما يستجد فيها من أشياء وعلاجات وبحوث، وذلك يسلتزم أموراً كثيرة منها:
أولاً: ضرورة وجود عدد كاف من الأطباء الذكور والاناث حتى يقوم كل جنس برعاية جنسه طبياً. فتقوم الاناث بتطبيب الاناث ويقوم الرجال بتطبيب الرجال.. وقد كثر عدد الطبيبات في عصرنا الحالي ما يخفف من ضرورة قيام الرجال بتطبيب النساء وخصوصاً في الأمراض التناسلية والجنسية والحمل وما إلى ذلك.
ثانيا: بذل الجهد والمال الكافيين لتوفير الامكانات التعليمية والتشخيصية والعلاجية والبحثية التي توصل إلى أعلى المستويات وتنافس ما عليه غير المسلمين من تقدم بل وتتفوق عليه.
ثالثاً: يجب وضع دستور طبي شرعي يتم العمل من خلاله ولا تخرج أية ممارسات طبية عنه.. دون اعتبار لما يقوم به غير المسلمين ودون اعتبار لما جرى عليه العرف والتقاليد في بعض البلاد ما لا يتمشى مع الشريعة الاسلامية.. وأن يكون الأساس لأي بحث أو علاج دوائي أو جراحي هو حكم الشرع وليس رأي العوام أو الصحف أو وسائل الاعلام، ومثال ذلك عمليات التلقيح الصناعي وبنوك الحيوانات المنوية ونقل الأعضاء بين الانسان والحيوان والأم البديلة والاستنساخ والتهجين بين الانسان والحيوان وتجارب المخدرات على الانسان وغير ذلك.
رابعا: يجب أن يقوم المسلمون بتوفير الكتب والمراجع الطبية بالصورة والأفكار التي تتمشى مع المفاهيم الاسلامية. وان يتم ذلك كما يتم التعليم الطبي بلغة القرآن الكريم.. ولنتذكر أن معظم الدول غير العربية تقوم بتدريس العلوم الطبية وغيرها بلغاتها الأصلية.. وان نخلع عنا ثوب التبعية لغير المسلمين.
خامسا: تقام المؤتمرات الطبية في البلاد الاسلامية بمشاركة أطباء الدول المختلفة ويشترك الأطباء المسلمون في مختلف المؤتمرات العالمية لمتابعة كل جديد وعرض ما لديهم من جديد في بلاد المسلمين.. كما يجب تبادل الخبرات والمعارف مع مختلف دول العالم.
سادسا: اصدار دوري لكل ما يستجد من احكام شرعية خاصة بالعمل الطبي وممارساته المختلفة محلياً وعالمياً وذلك بعد عرضها على الفقهاء من مجتهدي الأمة لبيان حكم الشرع لقوله تعالى: “فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون” فالرأي الأول والأخير للشرع وليس للأطباء أو الساسة وعليه فإنه يجب احداث تغيير شامل للمفاهيم الطبية على مستوى العالم الاسلامي بما يحقق سيادة شرع الله سبحانه وتعالى.