الدرس الخامس من شرح كتاب منهج السالكين
قال المؤلف رحمه الله :
[ بَابُ اَلآنِيَة ِ]
وَجَمِيعُ اَلأَوَانِي مُبَاحَةٌ .
إِلاّ آنِيَةَ اَلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُمَا , إِلاّ اَلْيَسِيرَ مِنْ اَلْفِضَّةِ لِلْحَاجَةِ ; لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : " لا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ اَلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ , وَلا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا ، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي اَلدُّنْيَا , وَلَكُمْ فِي اَلآخِرَةِ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الشرح :
في رواية في الصحيحين : لا تشربوا في إناء الذهب والفضة ، ولا تلبسوا الديباج والحرير ..
وفي رواية تقديم وتأخير : لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ..
وفي رواية النسائي : صحافهما .
والصحفة إناء كالقصعة المبسوطة .
وهي ما تشبع الخمسة .
وقد ورد الوعيد الشديد على مَن يشرب في آنية الفضة فقال عليه الصلاة والسلام : الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم . رواه البخاري ومسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنها .
وفي الحديث قصة ، فعن عبد الله بن عكيم قال : كنا مع حذيفة بالمدائن ، فاستسقى حذيفة ، فجاءه دهقان بشراب في إناء من فضة فرماه به ، وقال : إني أخبركم أني قد أمَرْتُه أن لا يسقيني فيه ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تشربوا في إناء الذهب والفضة ، ولا تلبسوا الديباج والحرير ، فإنه لهم في الدنيا ، وهو لكم في الآخرة يوم القيامة . رواه مسلم .
ففيه الشِّدّة في الإنكار
وفيه إبداء العُذر وذِكر السبب لما يُستغرب من أفعال وتصرّفات .
والمؤلف قد اقتصر على القدر المختص بالآنية ، وهو من باب اختصار الحديث ، وهو جائز لمن كان عارفا بما يُحيل المعنى و بما يُخلّ من الاختصار .
ولما فرغ المصنف من ذكر المياه انتقل إلى أوعية المياه وما تُحمل به من آنية .
قال : بَابُ اَلآنِيَة
الشرح :
والآنية جمع إناء .
ثم قال رحمه الله :
وَجَمِيعُ اَلأَوَانِي مُبَاحَةٌ .
الشرح :
جرياً على الأصل ، وقد تقدّم أن الأصل في الأشياء الطهارة إلا ما دلّ الدليل على نجاسته .
والأصل فيها الإباحة إلا ما دلّ الدليل على تحريمه .
وقد ذكر المؤلف رحمه الله ما أُجمِع عليه ، وهو إناء الذهب والفضة .
فإنه قال :
وَجَمِيعُ اَلأَوَانِي مُبَاحَةٌ ، إِلاّ آنِيَةَ اَلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .
الشرح :
تحريم استعمال آنية الذهب والفضة محلّ إجماع .
قال ابن قدامة رحمه الله : ولا خلاف بين أصحابنا في أن استعمال آنية الذهب والفضة حرام ، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي ، ولا أعلم فيه خلافا . اهـ .
وقال النووي رحمه الله : انعقد الإجماع على تحريم الأكل والشرب فيهما . اهـ .
واختُلِف في الاتِّـخاذ والاقتناء .
واختُلف أيضا فيما له قشر أو ما ليس له قشر .
فالمطليّ بالذهب على نوعين :
نوع يُمكن نزع هذا الطلاء بحيث يَكون كالقشر .
ونوع لا يُمكن ذلك ويكون الذهب فيه يسيرا ، وهذا اجتنابه أولى .
إلا أنه لا يُنكر على من استعمل قلما أو ساعة مطلية بماء الذهب .
قال الصنعاني رحمه الله : واختلفوا في الإناء المطلي بهما ، هل يلحق بهما في التحريم أم لا ؟ فقيل : إن كان يمكن فصلهما حرم إجماعا ؛ لأنه مستعمل للذهب والفضة ، وإن كان لا يمكن فصلهما لا يحرم . اهـ .
واستعمال الذهب والفضة على أقسام :
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله في ( القواعد والفروق ) : ومن الفروق الصحيحة : استعمال الذهب والفضة ، وله ثلاثة استعمالات :
أحدها: استعماله في الأواني ونحوها، فهذا لا يحل للذكور ولا للإناث.
والثاني : استعماله في اللباس ، فهذا يحل للنساء دون الرجال .
والثالث : استعماله في لباس الحرب ، وآلات الحرب ، فهذا يجوز حتى للذكور .
الحكمة من التحريم :
قال ابن قدامة رحمه الله :
والعلة في تحريم الشرب فيها ما يتضمنه ذلك من الفخر والخيلاء وكسر قلوب الفقراء
وهو موجود في الطهارة منها واستعمالها كيفما كان بل إذا حرم في غير العبادة ففيها أولى . اهـ .
وقال ابن القيم رحمه الله :
قيل : علة التحريم تضييق النقود ، فإنها إذا اتخذت أواني فاتت الحكمة التي وُضعت لأجلها من قيام مصالح بنى آدم ، وقيل : العلة الفخر والخيلاء ، وقيل : العلة كسر قلوب الفقراء والمساكين إذا رأوها وعاينوها ، وهذه العلل فيها ما فيها ، فإن التعليل بتضييق النقود يمنع من التحلّي بها وجعلها سبائك ونحوها مما ليس بآنية ولا نقد ، والفخر والخيلاء حرام بأي شيء كان ، وكسر قلوب المساكين لا ضابط له ، فإن قلوبهم تنكسر بالدور الواسعة والحدائق المعجبة والمراكب الفارهة والملابس الفاخرة والأطعمة اللذيذة وغير ذلك من المباحات ، وكل هذه علل منتقضة إذ توجد العلة ويتخلف معلولها ، فالصواب أن العلة - والله أعلم - ما يكسب استعمالها القلب من الهيئة والحالة المنافية للعبودية منافاة ظاهرة ، ولهذا علل النبي صلى الله عليه وسلم بأنها للكفار في الدنيا ، إذ ليس لهم نصيب من العبودية التي ينالون بها في الآخرة نعيمها ، فلا يصلح استعمالها لعبيد الله في الدنيا ، وإنما يستعملها من خرج عن عبوديته ورضي بالدنيا وعاجلها من الآخرة . اهـ .
سؤال : لو توضأ رجل أو امرأة في إناء ذهب أو فضة ثم صلّى فهل تصحّ صلاته ؟
الصحيح أن صلاته صحيحة وهي مبنيّة على وضوء صحيح ، لأنه توضأ وضوءاً صحيحا كما أُمِـر
والآنية طاهرة والماء طاهر فالوضوء صحيح ، والصلاة صحيحة .
قال المؤلف رحمه الله :
وَمَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُمَا , إِلاّ اَلْيَسِيرَ مِنْ اَلْفِضَّةِ لِلْحَاجَةِ
الشرح :
يعني ما فيه شيء من الذهب والفضة إلا اليسير فهو مُستثنى
روى البخاري عن عاصم عن ابن سيرين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر ، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة . قال عاصم : رأيت القدح وشربت فيه .
ويجوز للرجال لبس خاتم الفضة
فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ذهب أو فضة وجعل فصّه مما يلي باطن كفه ، ونقش فيه ( محمد رسول الله ) فاتخذ الناس مثله ، فلما رآهم قد اتخذوها رمى به ، وقال : لا ألبسه أبداً ، ثم اتخذ خاتماً من فضة ، فاتخذ الناس خواتيم الفضة . رواه البخاري ومسلم .
ويجوز للرجل أن يَتَّخِذ الأسنان من الذهب اليسير أو من الفضة
قال البغوي في شرح السنة : وقد أباح أهل العلم اتخاذ الأنف ، وربط الأسنان بالذهب ؛ لأنه لا يُنتن . اهـ .
واتخذ عرفجة بن أسعد رضي الله عنه أنفا من ذهب .
قال رضي الله عنه : أصيب أنفي يوم الكلاب في الجاهلية ، فاتخذت أنفا من ورق فأنتن عليّ ، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اتخذ أنفا من ذهب . رواه الترمذي والنسائي .
سؤال :
وهل يلحق بالذهب والفضة ما كان غالي الثمن كالبلّور والألماس ونحوها ؟
الشرح :
الذي يظهر أنه لا يحرم ؛ لأن الكفار والجبابرة إنما يتخذون الذهب والفضة دونما سواهما .
ولكن إذا كان فيه سرف وخيلاء فإنه يحرم لذلك لا لجوهرها .
لم يذكر المصنف ما يُتخذ آنية من الجِلد ، كالإداوة ، وهي إناء صغير من جلد يُحمل به الماء ، وسيأتي الكلام عليها في شرح العمدة – إن شاء الله - .
فجلود الميتة نجسة ولا يجوز اتخاذها إلا بعد بدغ ما يطهر بالدّبغ .
ففي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ميمونة أخبرته أن داجنة كانت لبعض نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم فماتت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا أخذتم إهابها فاستمتعتم به ؟
وفي رواية له عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بشاة لمولاة لميمونة ، فقال : ألا انتفعتم بإهابها ؟
وفي رواية له عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا دُبغ الإهاب فقد طهُر .
قال الترمذي بعد أن أورد حديث ابن عباس رضي الله عنهما " أيما إهاب دُبغ فقد طهُر " قال :
والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم . قالوا في جلود الميتة : إذا دبغت فقد طهرت . قال أبو عيسى ( يعني الترمذي نفسه ) : قال الشافعي : أيما إهاب ميتة دُبغ فقد طهُر إلا الكلب والخنزير ، واحتج بهذا الحديث ، وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم : إنهم كرهوا جلود السباع وإن دُبغ ، وهو قول عبد الله بن المبارك وأحمد وإسحاق وشددوا في لبسها والصلاة فيها . قال إسحاق بن إبراهيم : إنما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيما إهاب دُبغ فقد طهر " جلد ما يؤكل لحمه ، هكذا فسره النضر بن شميل ، وقال إسحاق : قال النضر بن شميل : إنما يُقال الإهاب لجلد ما يؤكل لحمه . اهـ .
فما يُتخذ من جلود المينة نجس إلا إذا دُبغ .
وما يُتخذ من عظام الميتة كذلك .
ومثله ما يُتّخذ من جلود السباع ، فإنه منهي عن اتخاذها فضلا عن استعمالها في الوضوء ونحوه .
فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس جلود السباع والركوب عليها . رواه أبو داود والنسائي .
وما يُصنع آنية من مواد نجسة فهو نجس .
ويجوز استعمال آنية الكفار إلا إذا كانوا يطبخون فيها لحوم الخنازير ، أو يستعملون شحوم الميتة والخنازير .
روى البخاري ومسلم من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال : قلت : يا نبي الله إنا بأرض قوم أهل الكتاب ، أفنأكل في آنيتهم ؟ قال : أما ما ذكرت من أهل الكتاب ، فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها .