أثر ابن مسعود في النهي عن الذكر الجماعي
قد أكثر نفاة الذكر الجماعي من الاحتجاج بأثر عبد الله بن مسعود، وهو أثر حكم الأئمة عليه بالضعف، وقبل أن أورد كلام الأئمة أحب أن أقف مع أسانيد هذا الأثر وقفات ليبين للمنصف حال هذا الأثر الذي اعتمد عليه فئات من الناس في الإنكار على الذكر الجماعي والسبحة، وأصبحوا يكررونه في كلِّ نادٍ، ويطيرون به كل مطار، وهم مع ذلك ينكرون على غيرهم التمسك بالضعيف، ولكن إذا كان الضعيف ينصر رأيهم فلا بأس من الاحتجاج به ولو كان هذا الضعيف يعارض طائفة من الأحاديث الصحيحة ، وأعود إلى الموضوع فأقول:
روى هذا الأثر عبد الرزاق في مصنفه والطبراني في معجمه الكبير، قال الطبراني حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري عن عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان أنا عطاء بن السائب لا أعلمه إلا عن أبي البختري قال بلغ عبد الله بن مسعود : أن قوما يقعدون من المغرب إلى العشاء يسبحون يقولون: قولوا كذا، وقولوا: كذا قال عبد الله: إن قعدوا فآذنوني، فلما جلسوا أتوه، فانطلق فدخل معهم فجلس وعليه برنس، فأخذوا في تسبيحهم فحسر عبد الله عن رأسه البرنس وقال: أنا عبد الله بن مسعود. فسكت القوم فقال: لقد جئتم ببدعة وظلماء، أو لقد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم علما، فقال رجل من بني تميم: ما جئنا ببدعة ظلماء ولا فضلنا أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم علما. فقال عمرو بن عتبة بن فرقد أستغفر الله يا بن مسعود وأتوب إليه فأمرهم أن يتفرقوا. قال: ورأى بن مسعود حلقتين في مسجد الكوفة فقام منهما: فقال أيتكما كانت قبل صاحبتها. قالت إحداهما: نحن فقال للأخرى: قوما إليها فجعلهم واحدة.
وإذا تأملنا سند هذا الأثر، وجدنا ما يلي :
أولاً : أن إسحاق بن إبراهيم الدبري وإن كان صدوقاً إلاَّ أن سماعه من عبد الرزاق كان بعد اختلاط عبد الرزاق، فإن الإمام عبد الرزاق توفي وعُمُر الدبري ست أو سبع سنين، فمتى سيكون سماعه منه إلا في السنتين الأخيرتين من حياة عبد الرزاق.
قال العلامة إبراهيم بن موسى الأبناسي في الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح (2/747): قلت وقد وجدت فيما روي عن الطبراني عن إسحاق بن إبراهيم الدبري عن عبد الرزاق أحاديث استنكرتها جداً، فأحلت أمرها على ذلك، فإن سماع الدبري منه متأخر جداً، قال إبراهيم الحربي مات عبد الرزاق وللدبري ست سنين أو سبع سنين.اهـ
وقال العلامة المحدث السخاوي في فتح المغيث (3/377): وقال شيخنا – ابن حجر العسقلاني - المناكير الواقعة في حديث الدبري إنما سببها أنه سمع من عبد الرزاق بعد اختلاطه، فما يوجد من حديث الدبري عن عبد الرزاق في مصنفات عبد الرزاق فلا يلحق الدبري منه تبعة، إلا إن صحف وحرف.اهـ
ولعل من صحح رواية الدبري عن عبد الرزاق لكون الدبري إنما حدث عن عبد الرزاق من كتبه لا من حفظه.
ثانياً : أن جعفر بن سليمان الضبعي سمع من عطاء بن السائب بعد الاختلاط، كما قرره الإمام الذهبي في الكواكب النيرات (ص61): حكموا بتوثيقه – أي عطاء - وصلاحه وباختلاطه، اختلط في آخر عمره قال أحمد بن حنبل ثقة رجل صالح من سمع منه قديما فسماعه صحيح ومن سمع منه حديثا فسماعه ليس بشيء ... وممن سمع منه – أي من عطاء - أيضا بأخرة من البصرين جعفر بن سليمان الضبعي.اهـ
ثالثاً : أن في رواية عطاء بن السائب عن أبي البختري ضعفاً، قال الذهبي في الكواكب النيرات (ص61): وقال إسماعيل بن علية: قال لي شعبة: ما حدثك عطاء عن رجاله زاذان وميسرة وأبي البختري فلا تكتبه، وما حدثك عن رجل بعينه فاكتبه.اهـ وعليه فلا يمكن لهذا السند أن يكون صحيحاً.
وأما مارواه ابن وضاح القرطبي في البدع والنهي عنها (ص21) قال : أنا أسد عن جرير بن حازم عن الصلت بن بهرام قال : مر ابن مسعود بامرأة معها تسبيح تسبح به فقطعه وألقاه ، ثم مر برجل يسبح بحصى فضربه برجله، ثم قال : لقد سبقتم، ركبتم بدعة ظلماً، أو لقد غلبتم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم علماً. فإسناده ضعيف للانقطاع الذي بين الصلت بن بهرام وابن مسعود رضي الله عنه، فإن ابن مسعود مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين على ما رجحه ابن حجر رحمه الله في الإصابة، والصلت بن بهرام من أتباع التابعين، وليس له رواية عن الصحابة المتأخرين، فضلا عن أن يكون له رواية عن عبد الله بن مسعود الذي توفي في خلافة عمر رضي الله عنه، وقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني الصلت في أتباع التابعين كما في التهذيب (4/432) .
وروى هذا الأثر أيضاً ابن وضاح من طريق أبان ابن أبي عياش ، وهو كذابٌ، قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (1/134): قال شعبة: لأن أرتكب سبعين كبيرة أحبَّ إليَّ مِنْ أن أحدث عن أبان بن أبى عياش.اهـ
وقال الإمام النسائي في الضعفاء والمتروكين (ص14) : أبان بن أبي عياش متروك الحديث وهو أبان بن فيروز أبو إسماعيل.اهـ
ورواه ابن وضاح أيضاً في البدع والنهي عنها (ص11) قال: أنا أسد عن عبد الله بن رجاء عن عبيد الله بن عمر ، عن يسار أبي الحكم أن عبد الله ابن مسعود حدث : أن أناساً بالكوفة يسبحون بالحصى في المسجد فأتاهم وقد كوم كل رجل منهم بين يديه كومة حصى ، قال : فلم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد ، ويقول : لقد أحدثتم بدعة ظلماً ، أو قد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم علماً .
وهذا الإسناد ضعيف أيضاً للانقطاع بين سيار أبي الحكم وعبد الله ابن مسعود، فإن سيار من أتباع التابعين كما حكى ذلك الحافظ ابن حجر في التهذيب (4/291) .
ورواه ابن وضاح أيضاً قال: حدثني إبراهيم بن محمد، عن حرملة، عن ابن وهب، قال: حدثني ابن سمعان قال: بلغنا عن ابن مسعود أنه رأى أناساً يسبحون بالحصى فقال : على الله تحصون ، سبقتم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم علماً ، أو لقد أحدثتم بدعة ظلماً. اهـ
وهذا إسنادٌ باطل، إذ في إسناده عبد الله بن زياد بن سمعان وهو كذاب، قال ابن ابي حاتم في الجرح والتعديل (5/60) : عن عبد الرحمن بن القاسم قال: سألت مالكاً عن بن سمعان فقال كذَّابٌ ... قال يحيى بن معين: حدثنا الحجاج بن محمد الأعور عن أبى عبيدة يعنى عبد الواحد بن واصل قال: كان عنده بن سمعان ومحمد بن إسحاق فقال بن سمعان: حدثني مجاهدٌ. فقال بن إسحاق: كَذَبَ والله، أنا أكبر منه، وما رأيت مجاهداً.اهـ
وأما ما رواه الإمام الدارمي في سننه قال : أخبرنا الحكم بن المبارك أنا عمر بن يحيى قال سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال أَخَرَجَ إليكم أبو عبد الرحمن بعد ؟ قلنا: لا. فجلس معنا حتى خرج فلما خرج قمنا إليه جميعا فقال له أبو موسى يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد أنفا أمراً أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيراً، قال: فما هو. فقال: إن عشت فستراه، قال رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصا، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائةً، فيقول: هللوا مائة فيهللون مائة. ويقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة. قال: فماذا قلت لهم ؟ قال: ما قلت لهم شيئا انتظار رأيك، أو انتظار أمرك. قال أفلا أمرتهم ان يعدوا سيئاتهم، وضمنْتُ لهم أن لا يضيع من حسناتهم، ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون. قالوا: يا عبد الله حصا نعد به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيءٌ، ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم متوافرون وهذه ثيابه لم تبل، وأنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلي ملة هي أهدي من ملة محمدٍ أو مفتتحوا باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حدثنا أن قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج.
فهو حديث لا يصح إذْ في سنده عمرو بن يحيى بن عمرو، وقد ضعفه ابنُ معين وابنُ خراش وابنُ عدي. قال الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال (4/378) : عمرو بن يحيى بن عمرو بن سلمة، قال يحيى بن معين: ليس حديثه بشيء، قد رأيته، وذكره بن عدي مختصراً. انتهى، وقال بن خراش: ليس بمرضي. وقال بن عدي: ليس له كبير شيء، ولم يحضرني له شيء.اهـ
وقال ابن الجوزي رحمه الله في الضعفاء والمتروكين (2/233) : عمرو بن يحيى بن عمرو بن سلمة، قال يحيى –ابن معين- : ليس حديثه بشيء وقال مرة لم يكن بمرضي.اهـ
وقد أخطأ من ظنه عمر بن يحيى، وانظر كتاب إتمام الاهتمام بمسند أبي محمد بن بهرام (الدارمي)، رسالة "الحطة برجال الدارمي خارج الكتب الستة" (ص687).
أضف إلى ذلك الاختلاف في توثيق الحكم بن مبارك، فقد رماه ابن عدي بسرقة الحديث، ووثقه الإمام أحمد وابن منده، وانظر ترجمته في ميزان الاعتدال (2/345).
وعموماً فهذا الأثر بما فيه من كلام لا يمكن بحالٍ أن يعارض ما صح من الأحاديث الثابتة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدالة على استحباب الذكر الجماعي ـ والتي سبق ذكرها ـ لأمور:
أولها: عدم صحة أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
ثانيها: على افتراض صحته، فهو لا يقاوم الأحاديث، بل الأحاديث مقدمة عليه عند التعارض قطعا، لأنه فعل صحابي وليس بحجة، وإنما الحجة في الكتاب والسنة.
ثالثها: أنه محمول على أن أولئك كانوا يجهرون جهرا بالغاً، ولذا توجه النهي لهم.
رابعها: أنهم كانوا يؤذون من في المسجد برفعهم الأصوات.
خامسها: أنه قد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه في نفس الأثر الذي رواه الطبراني أنه أمر الحلقة المتأخرة بالانضمام إلى الحلقة المتقدمة، ولو كان التحلُّق للذكر بدعةً، لما رضي عبد الله بن مسعود بحلقة ولا أكثر.
سادسها: أنه قد نفى ذلك عنه التابعي أبو وائل فقال هؤلاء الذين يزعمون أن عبد الله كان ينهى عن الذكر ما جالست عبد الله مجلسا قط إلا ذكر الله فيه.
وإليك أيها القارئ الكريم بعض كلام أهل العلم في هذا الأثر:
قال الإمام السيوطي رحمه الله تعالى في الحاوي للفتاوي (1/379): فإن قلت، فقد نقل عن ابن مسعود أنه رأى قوما يهللون برفع الصوت في المسجد فقال ما أراكم إلا مبتدعين حتى أخرجهم من المسجد. قلت: هذا الأثر عن ابن مسعود يحتاج إلى بيان سنده ومن أخرجه من الأئمة الحفاظ في كتبهم وعلى تقدير ثبوته فهو معارض بالأحاديث الكثيرة الثابتة المتقدمة وهي مقدمة عليه عند التعارض، ثم رأيت ما يقتضي إنكار ذلك عن ابن مسعود قال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب الزهد ثنا حسين ابن محمد ثنا المسعودي عن عامر بن شقيق عن أبي وائل قال هؤلاء الذين يزعمون أن عبد الله كان ينهى عن الذكر ما جالست عبد الله مجلسا قط إلا ذكر الله فيه.
وقال الإمام ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الفقهية الكبرى (1/177): وأما ما نقل عن ابن مسعود أنه رأى قوما يهللون برفع الصوت في المسجد فقال: ما أراكم إلا مبتدعين حتى أخرجهم من المسجد, فلم يصح عنه بل لم يرد; ومن ثم أخرج أحمد عن أبي وائل قال: هؤلاء الذين يزعمون أن عبد الله كان ينهى عن الذكر ; ما جالست عبد الله مجلسا قط إلا ذكر الله فيه, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.انتهى
وقال الإمام المحدث المناوي في فيض القدير (1/457) : وأما ما نقل عن ابن مسعود من أنه رأى قوما يهللون برفع الصوت في المسجد فقال ما أراكم إلا مبتدعين وأمر بإخراجهم فغير ثابت . وبفرض ثبوته؛ يعارضه ما في كتاب الزهد لأحمد عن شقيق بن أبي وائل قال هؤلاء الذين يزعمون أن عبد الله كان ينهى عن الذكر ما جالسته مجلسا قط إلا ذكر الله فيه.اهـ
وقال العلامة الألوسي رحمه الله في روح المعاني (6/163) : وما ذكر في الواقعات عن ابن مسعود من أنه رأى قوما يهللون برفع الصوت في المسجد فقال: ما اراكم إلا مبتدعين حتى أخرجه من المسجد لا يصح عند الحفاظ من الأئمة المحدثين، وعلى فرض صحته هو معارض بما يدل على ثبوت الجهر منه رضي الله تعالى عنه مما رواه غير واحد من الحفاظ أو محمول على الجهر البالغ.
كتبه الشيخ سيف العصري