رحلة استكشافية في الجزيرة العربية(8-من نجران إلى اللدام-وادي الدواسر) - ::: مـنتدى قبيلـة الـدواسـر الـرسمي :::

العودة   ::: مـنتدى قبيلـة الـدواسـر الـرسمي ::: > :::. أقسام ( دغــش الــبـطــي) الأدبـيـة .::: > :: قسم القـــصص والروايـــات ::

إضافة رد
انشر الموضوع
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 06-05-2005, 04:19 PM   #1
 
إحصائية العضو








العماني غير متصل

العماني is on a distinguished road


افتراضي رحلة استكشافية في الجزيرة العربية(8-من نجران إلى اللدام-وادي الدواسر)



وسط زحمة الناس والأطفال والمرضى والكلاب والحدآت التي كانت تحوم حول المخيم على أمل التقاط بقايا النعمة على الأرض، في وسط هذه الأجواء غادرت قافلتنا المخيم. وفي خضم حمى جمع الأمتعة وتعبئتها في الشاحنات كنت أوزع بقع الدواء الأحمر والأسبرين، في هذه الأثناء علمت بدون اندهاش أن أحد رجالنا لم يعر أي اهتمام لأطلال الأخدود. فتساءلت كم هو عدد السائقين الذين يزورون متحف اللوفر عندما يسوقون السواح إليه؟
وفي النهاية وضعنا براميل البنزين والخيام وأواني الفخار وقرون الوعل، والمظلات البيضاء، والصناديق والأباريق والخدم والبنادق كلها فوق الشاحنة. كل شيء أخذ مكانه، وكل رجل ينبطح فوق المتاع كما تنبطح الدجاجة في غبار الصيف.
كان الأمير قد ذهب في هذه الأثناء إلى رحلة صيد، فيما كانت تظهر على كبير الخدم علامات الرضى من البقشيش الذي قدمه إليه فيلبي. ولم نكن بعد قد توصلنا بالمراسلات التي أخبرونا بها، في حين أننا حصلنا على مرشد اختاره لنا الأمير. وبعد 15 كيلو متر قطعناها في الطريق ضاع مرشدنا تماما كما يضيع حمل في غابة. ويظهر أن الأمير أراد تقديم خدمة لهذا الرجل الذي كان تائها في نجران. كان هذا تسامحا من الأمير معه، لكنه كان أقل من ذلك بالنسبة إلينا.
كان سكان الواحات يقطفون الذرة، أغلبهم من النساء، وكانت الحيوانات تتبعهم خطوة بخطوة من أجل رعي أعقاب شجيرات الذرة. وقد تجاوزنا آخر أشجار النخيل، ونحن الآن بصدد عبور صف من البراميل المكلسة تحيط بممر مخصص لنزول الطائرات، وهو مازال يستخدم إلى اليوم، وهو المطار الذي سيكون وسيلة توليد علاقة هذه المنطقة بالحكم المركزي وبعد ستين كيلومتر من انطلاقنا عبرنا فيها مجرى وادي حبونا حيث تبرز بعض أشجار السمر، بلغنا بئر الحصينية الذي كان يحيط به الكثير من البدو مع قطعانهم. أما مرشدنا الذي لم تكن له أية كفاءات فقد تخلصنا منه وعوضناه بمرشد آخر.
خرجنا عن الطريق الذي يؤدي من نجران إلى مكة إلى الطريق الذي سيقودنا هذا المساء إلى نقش كبير كان يعرفه فيلبي. إنه يوجد في سهل منقذ القطن الذي يقع بين مجمع من صخور الجرانيت الصغيرة المبعثرة، لكنه كان على شكل ألواح تتخذ وضعا غريبا. كان فيلبي قد وصفها في كتابه (الأرض المقدسة). إن التشكيل الدائري لجميع هذه الصخور، وكذلك اتجاهها نحو مدار الشمس الصيفي جعلنا نشك في أمره فهل هو ظاهرة طبيعية، أو عمل من العصر الحجري. لكننا أجمعنا رأينا على أنها ظاهرة طبيعية.
وحتى لا نغير عادتنا اليومية، فقد كان علينا أن نعبر منطقتين رمليتين صغيرتين في السهل الذي يمتد تحت منبسط صغير عرضه 15 مترا مقسوم إلى شطرين مختلفين. وبعد 125 كيلومتر وصلنا إلى النقش التاريخي الكبير الذي يوجد بمنطقة حمى عبر واد يحمل الاسم نفسه. كان فيلبي قد اكتشفه سنة 1936م. وقد نسخناه في ظروف صعبة، وهو أول نقش كان يتمنى أي عالم مشهور مثل ريكمان دراسته في عين المكان، حيث سيتمكن من إكمال أجزائه الضائعة، وإصلاح ما لحقه من أعطاب بفعل الزمن بعد أن يتم تجميع أطرافه لأول مرة.
لقد لحقت بنا الشاحنة بعد ساعتين من التأخير. وتجنبا لكثرة الطلب على أقراص الدواء فقد دشنت نظاما جديدا. لقد تركت الصيدلية في أحد الصناديق فوق الشاحنة، حيث كان يجب على المريض الذي يريد الدواء أن يطلب من رفقائه إنزال الصندوق الذي يوجد به الدواء. وبما أن هذا الأمر كان صعبا عليهم فقد انخفض عدد طالبي هذه الأقراص. وهنا يجب إبداء ملاحظة، كنت تقريبا أعالج مرضاي كل يوم بكمية من الدواء الذي يقدم عادة للأطفال، وكانت النتيجة دائما جيدة. ويظهر أن البدوي يستجيب بقوة للأدوية. كانت درجة الحرارة لهذه الليلة ثلاث درجات مئوية تحت الصفر، إلى حد أن الماء كان قد تجمد في القرب. ومنذ الفجر ذهبت أنا وجاك إلى النقش على أمل الاستفادة من إحدى خيوط الشمس المنحدرة صباحا نحو الأرض، لكن هذه الأشعة كانت متجهة نحو الشمال حيث إن النقش يظل في الظل مدة فصل الشتاء.
أما نقش حمى فهو منحوت على الصخور الرسوبية التي تتكون من اثنتي عشرة طبقة متراكمة فوق بعضها، يصل طول بعضها إلى ستة أمتار، وهو يتحدث عن قصة عمل جيد كان قد قام به الملك السبئي اليهودي دهو نواس ضد الغزاة الحبشيين والمسيحيين، حيث يقدر عدد الضحايا بـ 14000 قتيل، و 11000 سجين، وغنيمة 000، 290 رأس من الجمال والبقر والماعز. وهذا يبين أن النزاعات في جنوب الجزيرة العربية لم تكن عبارة عن مزاح. لقد أشبع مؤلف هذا العمل رغبته الحجرية، منهيا كلامه هكذا: بإذن إله السماء والأرض، وقدرة الجنود سيحفظ هذا العمل من جميع الأعطاب. إمضاء تميمون السبئي. وهو مؤرخ في سنة 518 م.
يقع النقش على بعد كيلو متر واحد شرق البئر التي تحمل اسمه. كنا نشتغل فيه بحماس زائد مسلطين أشعة الشمس على النص بواسطة مرآة كبيرة جلبناها معنا لهذا الغرض، واضعين سلما من الخشب يعتمد على أكف رجالنا، وذلك لعدم وجود مكان صلب نعمده عليه فوق الأرض المنبسطة. تسلق جاك نتوءا صغيرا عرضه شبران إلى أن وضع أنفه على جزء من النقش، وبذلك أمكنه نقل محتوى النقش بدقة على الرغم من وضعه الصعب. بينما كان ريكمان يوجه البحث ممسكا بيديه المكبرة التي كان يسلطها على النقش الذي كان يعلوه بأربعة أمتار تقريبا.
وفي منتصف النهار حاولت التقاط صور لبعض البدو من بينهم امرأة، وجمالهم، لكنني ووجهت باعتراض قطعي، فأخذ واحد منهم مني آلة التصوير قهرا بعدما كنت قد أوقفتها قبل أن يضع أصبعه على عدستها. لقد خصصنا فترة ما بعد الظهيرة للبحث عن النقوش في ضواحي البئر. وفي الشمال الشرقي للبئر عثرت على خليج صاعد نحو القمة. صخوره الرسوبية متآكلة جدا. وفوق حوالي 13 مترا تتجمع نتوءات صخرية أبرزها كانت تظهر لي على شكل حروف سبئية. لكنها كانت مبعثرة إلى درجة أن ثلاثة أو أربعة من هذه الحروف لا تسمح بتكوين كلمة. ناديت جاك فأكد لي بأن الأمر يتعلق بسيل جرفها إلى هذا المكان بعيدا عن النقش الذي وضعت فيه لأول مرة. ويظهر أن رأيه كان سديدا، ذلك لأني بقيت بعد ذهابه أتأمل بعمق في شأن هذا النص الأعجوبة المؤلف من بعض القطع الملحمية غير المعروفة فتأكد لي صدق قوله.
مررنا إلى بئر الجناح المجاور التي كانت ترتاده أفراخ الحجل والقطا، فالتقطت من جنباته ثلاث قطع من الخزف التي نحت عليها أجود صيد للغزلان.
كنا نسير على طريق البخور الخرافية التي كانت تعد في الأزمنة الغابرة مراكز دينية وتجارية وحربية في المملكة العربية السعودية. وبعد مغادرتنا بئر حمى في اتجاه الشمال كنا نقتفي آثار طرق الجمال وهي عبارة عن ممرات ضيقة وسط الأحجار التي ينتشر فوقها حصى أسود كما تنتثر قشرة الحلزون، وهي ناعمة تحت أقدام الجمال والحيوانات.
وفوق المرتفعات كانت تصطف أكوام الأحجار على شكل قبور تربط بينها مجموعة من النصب التي تتحول إلى خطوط مسننة كلما اقتربت من بعضها.
وبعد عشرة كيلومترات من حمى انحرف بنا الطريق نحو مرتفع صخري عثرنا فيه على عديد من الرسوم والنقوش، تتراكم فوقها رسوم الفرسان، والجمال والديناصورات والغزلان، بالإضافة إلى حروف ثمودية متناثرة فوق عدد من الأمتار المربعة. إنه جبل عان الجمل. كما كانت الضواحي مليئة أيضا بالألواح الحجرية. وبعد الزوال انتشرنا فوق هذه المنطقة، كل واحد منا يبحث بحرية، فكانت حصيلتي الشخصية من هذا البحث 32 صورة من بينها صورة حيوان يشبه إكوندة (ضرب من الديناصورات)، واستهلاك كلي لرابع حذاء ارتديته في هذه الرحلة.
وفي الغد قررنا بأكبر ما يمكن من الوعي استغلال النقوش الشيقة التي خلفها الثموديون والسبئيون الذين كانوا يترددون على هذه المنطقة. ذهبت بصحبة فيلبي والمرشد الذي كان ممتازا، ويعرف أسماء التلال والمرتفعات والصخور المنعزلة والشعاب التي كنا نعبرها. إننا في طريقنا إلى تحطيم جميع الأرقام القياسية في جمع نقوش جنوب المملكة العربية السعودية، على الأقل من حيث الكم، وفي ذلك نجاح باهر لكونزاك ولمساعده جاك اللذين سيقومان فيما بعد بتقييمها في السنوات المقبلة، وقد يعجبان بها، وقد يصابان بخيبة أمل. وفي جميع الحالات فإن ما جمعناه يعد مادة ثمينة تساعدهم في معرفة حضارة ما قبل الإسلام.
كنت أتأمل هذا الأمر وأنا أرتاح في ظل إحدى الصخور عندما قاطعتني حشرتان من قراد الجمال، كانتا تزحفان فوق الرمال نحو قدمي، كانتا تتقدمان بكل قوة، وسرعتها تصل إلى ثلث سرعة الإنسان العادية. ابتعدت عنها بثلاثة أمتار في شكل زاوية مستقيمة لكنها كانت تقتفي أثري. إن وجود قرادة في جسم الإنسان ليس فيه ما يخجل، ومن الأفضل ألا تزال، فرأسها يختفي تحت الجلد، وأحسن أسلوب للتخلص منها هو لسعها بسيجارة من الخلف، وفورا ستجدها قد أخرجت رأسها من الجلد.
كان الجميع في حالة جيدة، ريكمان شفي من الحمى التي كانت قد ألمت به، وجاك الذي كان أنفه ينزف دما شفي منه هو الآخر، بينما أنا كنت قد تخلصت قريبا من نزلة برد، أما فيلبي فهو يجهل شيئا اسمه المرض.
بقينا ننسخ طول اليوم. وقد بلغت حصيلتنا من النقوش 1150 نقشا من بينها واحد نبطي، تناولنا الفطور وقوفا تجنبا لعدد من قراد الجمال التي كانت تزحف نحونا بسرعة. من بين الكثير من الرسوم التي نسخناها أعجبت كثيرا بواحد كان يمثل جنديا أو محاربات كان على هيئة شيطان حقيقي يحمل في يده سهما. وفي الجهة الأخرى أثار ريكمان انتباهنا إلى منزل ذي سبعة أدوار بمربعات من الخزف، وهو عبارة عن أثر بدائي لرسم فريد من نوعه من بين الرسوم التي رأيناها.
وبعد الظهيرة عندما كنا أنا وفيلبي بين الصخور المنعزلة في جنبات جبال الصماء وقفنا مرتين على رسمين حقيقيين لامرأتين وهما تلدان ورأسا مولوديهما متجهان إلى الأسفل. وبعيدا عن هذا المكان كان يوجد رسمان جيدان لطيور النعام والجمال والوعول، وقد جمعتا كلها في لوحة واحدة.
كان المرشد في مستوى سيل الأسئلة التي كان يطرحها عليه فيلبي، لقد كان يهتم كذلك بالنقوش متتبعا بأصبعه خطوط الحروف. وكانت هناك صخرتان متسختان بالروث الأبيض، المنحدر حسب المرشد من الصقور التي كانت توضع عليه كل سنة من أجل تدريب صغارها على الصيد. ويظهر أن الطرائد كانت تعيش هنا بصعوبة بالنظر إلى أثر وجود الذئاب في كل جهة فوق الرمال. نصبنا مخيمنا على بعد فرسخ من طريق نجران- الرياض، وهو طريق لم يعبره أحد غير الأعراب. وفي المساء كان هناك جدجد يغني تحت ضوء القمر، وكان المنظر واضحا للغاية، حيث إن الظلال كانت تمتد فوق الرمال المضاءة بنور القمر. ولم نكن في حاجة إلى مصباح يضيء تناولنا لقطع اللحم في الصحن، حيث كان كل واحد منا ينتقي ما يناسبه: لحم خالص، أو بالشحم، أو نصف مشحم. أما ما كنت أنصح به فهو قطع لحم الرأس التي يعلوها الجلد الأسود وخاصة منها جهة الحنك واللحية، لأنها تذكرني بساق الخنزير. وباختصار شديد؟ فإنى أنصح كل مسافر إلى الصحراء أن يتمرن قبل سفره على تشريح الخرفان والمعز سواء من حيث المضغ، أو من حيث طريقة التقطيع باليد.
ها قد بلغنا مرتفع القارة (لا يجب أن يلتبس بالقهرة) الذي كنا نعبره في بداية شهر ديسمبر، بين السير في الصحراء والتقاط النقوش حيث كنا خصصنا اليوم الموالي كله لجمع آلاف النقوش.
كانت هناك صخرة محفورة القاعدة قضمتها السيول وهي ترتفع شامخة على شكل نتوء فوق وادي الصماء. إنها صخرة أم الزرقاء التي كنا نلقبها بأبي الهول، وكانت مليئة بالنقوش، وبها رسم جميل لأحد الصقور.
كانت نقوش هذه المنطقة تنتظم في مجموعات مؤلفة من ثلاثة وأربعة وخمسة وسبعة نقوش، وأحيانا تتجمع في لوحات يكون بها ما بين ثلاثين ومئة نقش. لقد عثر جاك على نتوء حصد منه 250 نقشا دون أن يتزحزح من مكانه إلا ببضع خطوات. بعض النقوش تمثل إتقانا حقيقيا لفن الكتابة، بينما تضعف كتابة بعضها أو تكون على درجة متوسطة. يتراوح حجم الحروف بين أربعين سنتيمتر وسنتيمترين أو ثلاثة، بينما يصل متوسط أغلبها عشرة سنتيمترات، أما عمقها في الصخور فيتراوح بين مليمترين وثلاثة مليمترات. نتصور أن بعض النقاشين كانوا يشتغلون وهم على ظهور جمالهم أو معلقين بحبال، لأن المكان الذي وضعت عليه هذه الكتابات يوجد على علو غير مناسب للواقف أمامها على قدميه. ومن المحتمل أن يكون نقاشو هذه الحقبة يقفون على أكوام من الرمال التي كانت تملأ هذه الفراغات التي انجرفت مع الزمن. يمثل أغلب هذه النقوش أسماء قلما تتبع بإيحاءات أخرى باستثناء ما يتعلق بالنقوش التاريخية، حيث لا توجد بها تواريخ. لقد خرجنا من هذه التجربة بتعلمنا كيف نأخذ حذرنا من أكوام الرمال التي تحيط بجنبات الوادي التي كانت تقع غالبا على حافات حادة. وهناك أيضا كانت توجد صخرة كبيرة مسطحة وناعمة جعلتنا نقول ونحن ما زلنا على بعد منها: هنا يوجد عمل في انتظاركم. كنا نقضي كل أيامنا في الاشتغال على الجزيرات الصخرية الصغيرة والمتجانبة، التي ما زالت تحتفظ بقوة إثارتها للعابرين كما كانت قبل 2000 سنة.
ولأسباب اقتصادية كنا قلما نلبس الأحذية، حيث كنا نشتغل غالبا بأقدامنا الحافية. إنه درس في الفلسفة، لأن الصخور كانت سهلة العبور ولا توجد عليها حواجز، ونستطيع أن نمسك بها بكل ثقة وان كانت صلبة ملساء. أما الرمال فناعمة ورطبة وجيدة في لمس الأرجل لكنها تكبح السير، ومن المحتمل أن تخفي في ثناياها أشواكا وعقارب.
وفي الظهيرة وبعد التقاط صور للوحة كبيرة تشتمل على خمسة جمال من بينها واحد بارك وساقاه مربوطتان إلى أسفله توجهت إلى مغارة قريبة من المخيم. كان مدخلها وعرا وكان يجب علي أن أزحف فوق نتوء حاد على شكل ظهر. ولم يكن أمامي خيار آخر غير مواصلة الزحف. كانت أصابعي تتمسك بأي نتوء من الحجر الرسوبي القابل للتفتت، وكان العرق يتصبب من يدي لينزل على ما كنت أتمسك به. لم يكن علوه يتجاوز أربعة أمتار فوق أنقاض الصخور، لكن السقوط المحتمل من هذا العلو على ظهر حاد سيكون خطيرا. لكن آمالي خابت عندما لم أعثر سوى على ثلاثة نقوش ضعيفة. إن التراجع إلى الخلف قد يحدد مصيري، لكنني كنت أصبحت أسيرا مثبتا على جدار المدخل كالبوم. لقد زرع العرق الذي كان بيدي وقدمي الحافيتين حالة من الاستنفار في الذباب الذي كان يحيط بالمكان، وهو كثير كثير. ومن حسن حظي أن نداءاتي الخجولة والمكتومة في بداية الأمر كانت قد وصلت إلى المخيم. وبعد الساعتين اللتين تم خلالهما قطع بعض النتوءات المعوقة وجدت نفسي فوق كتف أعرابي مما أدى إلى سقوطه هو نفسه فوق كومة من الحصى الذي كان قد جمعه رفقاؤه تحت قدميه.
كان قد بقي علي أن أفكر في جرح عميق أصاب قدمي. وخلال ثلاثة أيام بعد ذلك ستواصل نسخ النقوش بمعدل نقش ممتاز في اليوم. فقد كان الناس يترددون على مرتفع القارة بشكل كبير. وقد ركزنا بشكل خاص على عبور المناطق الشمالية والشرقية حتى لا يفوتنا أي خشم من خشومه الكثيرة، ومن ضمنها خشم الكوكب، وهو المكان الذي كانت تخزن فيه المياه بعد سقوط الأمطار. لكنه اليوم لا يوجد به أثر لخزن المياه، وإنما يوجد به 15 قبرا تتخذ شكلا دائريا فوق الرمال، مما يدل على ضعف جريان المياه.
كنا ننتشر فوق جميع مناطق القمة مقسمين إلى مجموعتين، نخرج عنها أحيانا لعبور المنحدرات المحاذية للسهل الرملي لنفود المصامة الذي كانت كل جهاته توحي بأنه مشهد على شكل مرتفع صخري لا يتجاوز علوه مئة متر، أما جنبات الهضاب فكانت متوسطة الرمال، ومجاري الوديان قليلة الأشجار ذات الشوك: الكل ينقطع تحت سماء تغطيها ضبابة كثيفة من الرمال التي تحجب امتداد الرؤية في الأفق على الأقل لمسافة فرسخ كامل. ومن بعيد كان يظهر لنا قطيع من الجمال يمر من بعيد، خلف ضباب الرمال التي تجعل رؤيتنا له ضعيفة. كنا ندور حول المخيم، حيث كان فيلبي يدور في مكانه كما يلاحق الكلب ذنبه باحثا عن لوحة رسمت عليها نعامة كان قد تعرف على مكانها سنة 1936 وقد عثر عليها فعلا في شعيب صاحي.
هل يتعلق الأمر بتوارد الخواطر عندما قال لي فيلبي: كم هو جميل أن يكون المرء حرا طليقا، يذهب حيثما شاء ويفعل ما يريد كان هذا هو ما كنت أفكر فيه بالضبط في الوقت نفسه.
وقد قدمت لريكمان نسخة من نقش مختصر به أربعة أسطر له علاقة بأحد ملوك قحطان، وقد أبدى اهتماما خاصما به عوضني عما بذلته من أجل الحصول عليه.
ونظرا لنفاد زادنا من السجائر البلجيكية فقد شرعت في تدخين السجائر الإنجليزية. ونظرا أيضا لعدم وجود التبغ الذي كان يضعه فيلبي في غليونه فقد شرع هو الآخر في تدخين عشبة يظهر أنها خفيفة، ورائحتها تذكرني ونحن نعبر شعيب أم خرق برائحة قطاراتنا ومكاتبنا في بلجيكا.
لقد قضينا يوما آخر برفقة ريكمان الذي جعلت منه مساواته لنا في المزاج وتجلده وتلهفه للعمل بحق رئيسا مثاليا لفريقنا البلجيكي الثلاثي. وفيما كان هو ينسخ اللوحات المهمة كنت ألتقط العلب الصغيرة في محيطنا وأجتهد في اكتشاف أخرى جديدة "ثمودية أو حميرية جوهرية وخالصة" التي يمكنني أن أقوده نحوها.
كان مجموع النقوش التي جمعتها الرحلة يدور حول عشرة آلاف نقش، وهو عدد ضخم. ويظهر أن صاحب الجلالة الملك ابن سعود سيسعد بهذا النبأ ربما أكثر منا، لأننا لا نهتم إلا بالجانب العلمي.
هذا المساء سنقيم وليمة على أرنب اصطاده مسفر، رئيس فريق مرافقينا، وعلى فرخ من الحجل الذي تعبت في اصطياده طول اليوم.
وخلال الليل هبت عاصفة عنيفة غطت كل شيء بطبقة من الرمال، وفي فجر ليلة 15 يناير كان غراب وأحد أنواع الصقور يحومان بهدوء فوق رؤوسنا على مرمى البندقية ينتظران سحب مخيمنا ليسارعا إلى التقاط الفضلات. كان في نيتنا مغادرة مرتفع القارة لنتجه شمالا، لكن اكتشافا غير متوقع أخر رحيلنا عن هذه المنطقة لمدة 36 ساعة.
وعيا منا بمسؤوليتنا قررنا السير فوق آخر المرتفعات الشرقية للقارة، وبينما كنت برفقة فيلبي إذا بي أشاهد عن بعد صفيحة طلبت منه أن نتوجه إليها. وعندما سلط عليها مكبرته ظهر لنا أنها مشكوك في أمرها، إذ غالبا ما يضللنا نور يلمع هناك، أو ظل يرقد خلف شيء مبهم. وكلما اقتربنا كان ظننا يتحول إلى حقيقة، وفعلا كان نقشا عظيما.
كان هذا النقش قريبا من الكوكب الذي يحمل اسمه، وهو واحد منها، وجهه إلى الشمال، وعلوه حوالي ثمانية أمتار. يقع فوق إحدى جنباته انحدار غير حاد على هضبة صخرية وهو مفتت ومتآكل. إنه يتضمن نصوصا مهمة نقلها وحللها ريكمان فوجد أن محتواها يخبر عن الملك السبئي يوسف عزار، وهو اسم آخر للملك دهونواس الذي قاد حملة انتصر فيها على الأثيوبيين سنة 518 م. وكانت الحصيلة لصالحه: 13000 من القتلى و 9500 سجين، و 280.000 رأس من الحيوان، منها الكبير ومنها الصغير. يتحدث هذا النقش عن الحملة نفسها التي رويت في حمى. وبعد لأي التقطنا صورة للنص طبعا تحت أنظار بعض الطيور التي كان من بينها العقعق.
أما المرشد تركي بن حجاب الذي لا يزال كفئاً ومتأنيا، فقد أصبح عصبيا بعد ساعات، فقد علم عن طريق أحد البدو أن أخاه قتل أحد الأفراد من قبيلته في بئر الحصينية بعد وقت قليل من مغادرتنا له. ويظهر أنه أطلق عليه النار خلال خصومة بينهما. إن الأمر خطير ليس فقط للقاتل ولكن أيضا لأخيه أي مرشدنا. وتحاول السلطة في البلد طمس بعض العادات السلبية مثل الثأر، ووضع القضايا المتنازع حولها في يد الشرع ويساعدها على ذلك أن الشرع الإسلامي يسمح لعائلة الضحية قبول دية، وقيمتها 800 ريال، وهي قيمة كبيرة بالنسبة لأي بدوي، لأنها تعادل 500 دولار أمريكي. وهذه العملية تضع حدا للنزاع. وعلى العكس من هذا فإن القبيلة يمكنها أن تطالب بدم ابنها.
كان لدى المرشد تخوف مزدوج، من جهة أن يسقط ضحية التقاليد القبلية العتيقة، ومن جهة أخرى أن توقفه الشرطة، وذلك من أجل حمايته أولا، ثم من أجل ضمان أن يقدم أخاه الهارب نفسه للشرطة ثانيا. فداخل كل بدوي يسكن خوف غريب من السجن حيث إنه يضيع وبسرعة لمجرد سماعه لهذه الكلمة. وكان فيلبي يحاول تهدئته شارحا له أنه كان برفقتنا في الوقت الذي وقع فيه الحادث، كما أنه عضو فاعل في بعثة ملكية تقوم بمهمتها برعاية سامية. أما الأخ الذي كان هاربا فسيتحتم عليه التمسك بتقليد قبلي آخر، وهو ما يعرف بالحماية، وهي التماس حماية تحت خيمة أحد أفراد القبيلة. وهذا طلب لا يرد عادة للمتهم، وخاصة إذا قدمه أب المتهم. وتمتد صلاحية الحماية لمدة ثلاثة أيام تجعل حاميه بعد ذلك يقود ضيفه إلى المكان الذي يحدده. وبعد ذلك تبدأ مهمة السلاح الذي يتحكم في الوضع. وقد حدث لبعض القتلة أن نفوا إلى فيافي الصحراء إما ليبقوا خارج القانون، أو ليجدوا قبيلة أخرى تتبناهم.
غادرنا مرتفع القارة متوجهين شمالا. ومن الممكن أن تكون قد مرت من هنا إحدى البعثات الاستكشافية التابعة لأرامكو، لكننا لا نعرف شيئا عن هذا بالضبط.
كانت شاحنتنا تسير متبعة الطرق المرسومة في الأخاديد العميقة التي تؤدي من نجران إلى الرياض، فيما كانت الجيب تعبر الهضاب الصغيرة ذات الشعف الصخرية. وقد عثر جاك بهذه الشعف على رسم لرجل ووعل منحوت استثناء بشكل مفرغ، وقد جرت العادة أن يكتفى بحفر جوانب الرسم في الصخرة. في هذه الأثناء مر فوقنا صقر، وكان قريبا من رأسي، وأتوقع أن عشه سيكون قريبا من هنا.
وقريبا من هنا كان يوجد سهل متموج ولون عشبه أشقر، هذا العشب هو الخرطال الموجود بكثرة في المملكة العربية السعودية والذي تلتهمه الجمال. أخذنا بدورنا الطريق الذي يمر بالأخاديد المغبرة والوردية. وكانت بعض أشجار السمر وبعض الصخور تلوح في بقع السراب أمامنا. وبعد ثلاثين كيلومتر من انطلاقنا توقفت القافلة في سفح يشبه القوارب الصخرية التي صادفناها سابقا. يبلغ علو سفح هذه القمة المسطحة 1340 مترا، وكان يجب علينا السير مسافة 13 كيلومتر للإحاطة بأجرافه الوعرة. أما النقوش فهي نادرة هنا على الرغم من وجود بعضها فوق قالب محفور من وجهه الشمالي، وهي عبارة عن بقايا رسم بدائي لبعض الجمال.
وبعد فراغنا من هذا النقش حاولت إقناع مسفر بأن يقودني إلى مجموعة مؤلفة من خمس صخور يطلق عليها حريات. لكنه كان يتعلل بعدم وجود البنزين. وكنا نتحاور بجوار سبع خيام سوداء متجمعة تسير حولها نسوة ببدلهن المصبوغة بنبات الفوة حيث وضع ظهورهن أمامنا حدا لنقاشاتنا. فإذا لم تكن الحجة عند مسفر هي البنزين؛ فإنه سيختلق أخرى كأن يقول مثلا: إنه يخشى من عطب يصيب إحدى العجلات. وبما أن العجلة الاحتياطية كانت قد بقيت فوق الشاحنة فلم يبق لنا إلا أن نتأمل إحدى السمفونيات الحمراء والزرقاء التي كانت تحيط بالشمس: كانت أشعة الشمس تلون السهل بلونيها البنفسجي والوردي. وهاهو خليط الغبار الذي تثيره الشاحنات يلوث الأفق أخيرا.
وعند عبورنا نفقا شوكيا كنا قد بلغنا نهاية هذه المرحلة التي انتهت في جبال حراضة، وكان الوقت وقت ظلمة. أشعل المرشد نارا فوق مرتفع صخري علوه 20 مترا حيث كان خياله ينعكس على اللهب. ترى هل كان هذا مشهدا من مشاهد أعياد البربر؟ أم هو علامة خطر؟ في هذه الأثناء كانت إذاعة بي بي سي قد أعلنت عن تغيير حكومة بلجيكا وهو ما لم يثر أي تعليق. كانت شعورنا تطول، وأحذيتنا تستهلك، وجرحي الذي في قدمي ممتلئا صدأ. كانت هذه هي اهتماماتنا الحالية.
اقترب أحد البدو الغرباء عنا إلى النار ويده مفتوحة، وكفه إلى الأعلى متكئا بهما على خديه، كانت هذه هي الحركة التقليدية لطلب الماء. كان المساء معتدلا، حيث كانت العواصف قد هدأت بينما كنت ألتقط عددا من الفراشات الليلية من الفانوس.
وفي الصباح الباكر حينما خرجت لأغتسل شاهدت رجلين يقفان جنبا إلى جنب فوق قمة حراضة، إنه فيلبي الذي دفع بمرشده لأخذ القياسات الخرائطية. ويجب القول إنه بالغ في استغلال طيبة هذا البدوي الذي أغمي عليه بعد وصوله، لكن فيلبي تسامح معه وظل بانتظاره حتى يتمالك نفسه، متعللا بأن عمره 66 سنة.
نظرا لإعاقتي من قدمي بقيت مع ريكمان نعبر المنحدر الجنوبي للجبال. لكن السيارة غرقت في رمال مجرى شعيب صغير، فتطلب منا إخراجها ساعتين. وبينما كان ريكمان يبحث عن النقوش كنت أبحث عن الحشرات، وقد كان صيدي أحسن منه.
من المحتمل جدا أننا كنا نسير خارج الممرات التي تعبرها القوافل، فالنقوش بدأت تقل إلى حد الانقراض خالقة بذلك "مناطق حقيقية للصمت ".
ومباشرة بعد مغادرة القافلة كانت الأرض مليئة بالثقوب الصغيرة حيث كانت تختبئ الفئران والجرابيع. وفي سفح هضاب دردحة كان يشاهدنا باندهاش قط وحشي جميل، فهرب بعيدا عنا بحوالي أربعين مترا، منقذا بذلك جلده الرمادي. كان رجالنا يلتقطون الأعواد اليابسة: الأعراب يجمعون لنارهم، والزنوج لنارهم. ما الذي يؤدي بهم إلى هذه النزاعات، ترى هل هو التسابق حول بعض الأعواد أم سرقتها؟ كانت تثار دائما خصومات يصحبها ارتفاع الأصوات. كان يوجد بفريق مرافقينا ثلاثة أشخاص اسمهم مسفر بالاسم نفسه، مسفر الأول كان يحاول تهدئة الوضع، ومسفر الثاني هاوي النزاعات، يضرب يمينا وشمالا بفرع شجرة، بينما كان مسفر الثالث الأكثر انفعالا وتعصبا قد أخرج خنجره. وكان علينا في هذه الحالة أن نتدخل، وقد تمكنا من تهدئته بصعوبة، لكنه كان دائما يمسك بخنجره مهددا ومتوعدا بينما كنا نكبحه أنا وجاك.
توقفت الجيب في وسط الطبيعة حيث أعلن فيلبي أن وقت الأكل قد حان. كانت العواصف تنشر الرمال فوق الطعام، بينما كان ريكمان يرسل نظره بعيدا حول صخور قريبة منا. وبعد مغادرتنا تراب يام بقليل دخلنا في تراب قحطان، فمررنا ثلاث أو أربع مرات ببعض الخيام. فاقترب منا أحد الرجال وهو أحد مرشدي فيلبي القدماء. وقريبا منه كانت إحدى زوجاته تختلس النظر إلينا من خلال ثقب خمارها الأسود، وكانت تلبس سروالا أبيض، يضيق فويق الأخمصين فاصلا بين عباءتها الواسعة وحذائها ذي اللون الزنجفوري. وكان سلوقي يتبع السيارة مشجعا بدعوات يا لله التي كان يرسلها إليه البدوي بصوت متحشرج. وكان هناك خروف ضائع يدلي أنفه إلى الأرض، نأمل أن يتمكن الراعي من رؤيته فيما بعد قبل أن يراه الذئب الذي لا يعد مجرد أسطورة في المملكة العربية السعودية.
نصب المخيم فوق مرتفع في سفح جبل ضدا الذي يظهر اسمه على خرائط أرامكو. أهل علينا الفجر بسحابة من الضباب القليل الكثافة، حيث وجدت صعوبة في رؤية فيلبي وجاك على بعد 120 مترا فوق القمة التي تقع فوق المخيم.
جاءت بدويتان لتجلسا حول النار طالبتين أعواد الكبريت مما جعلهما تقبلان الحوار معنا في الوقت الذي كانتا ترضعان طفليهما.
وبمجرد انطلاقنا اخترقنا قطيعا من الجمال من 150 رأسا كانت تنتشر في سهل المدبغ الغني بالخرطال، وعندما مررنا بقرب إحداها ابتعد عنا مصدرا صوت الاستنكار، إن فرحة رجالنا لا تعرف حدودا عندما يتعلق الأمر بحيوان تركبه امرأتان. وفي المنطقة نفسها كان يوجد قبر على شكل دائري مبني من الأحجار الطبيعية يرتمي منه ذنب طوله 21 مترا، يقبع في صمته بينما يرقد هيكله العظمي فوق كتلة من الأحجار الرسوبية السوداء.
وهناك سلسلة جبلية صغيرة نصفها رملي تسمى: أبرق أبو جمعة وهو اسم منطقي، لأن أبرق تعني (الحجر الرملي الذي تعلوه الرمال)، وهو ما كان عليه الوضع، فاللغة العربية لا تقارن في ثرائها المعجمي عندما يتعلق الأمر بالتفريق بين جزئيات الصحراء الرتيبة وغير القابلة للوصف. فالحيوانات وطبيعة الصخور وأشكال الرمال كلها هذه فصول تدققها المصطلحات التي يعرفها الجميع. ويحكى أنه في عهد بني أمية كان بعض علماء المصطلحات يقضون سنوات بين البدو من أجل إدماج مفرداتهم في اللغة العربية، التي ما زالت تزخر بها إلى اليوم. وبكل سهولة التقطنا أنا وجاك خلال ساعة حوالي مئة نقش ثمودي من فوق نتوءات صخور النصيلة المعزولة.
هناك حيوانات سيئة الحظ مثل هذه الغزالة التي كانت ترعى في أحد المنحدرات التي وصلنا إليها بالسيارة. وبعد مطاردة قصيرة بالسيارة بسرعة 70 كلم/ س أصبتها قبيل تناول وجبة العشاء. إنها غزالة من فصيلة عربية، وهناك نوعان آخران في هذا البلد، مريكا التي سنراها فيما بعد، وسعودية سنتعرف عليها في إحدى الملكيات الخاصة في الرياض.
تشير خريطة أرامكو المؤرخة بسنة 1950م إلى وجود منطقتين صخريتين تميزان هذه المنطقة، يطلق عليهما التامتين التي تعني التوأمين، وهما على مرمى البصر، وقد قررنا الذهاب إليهما، نظرا لوجود النقوش بهما. وبعد أن حفرنا مساحة أربعين مترا وقمنا بمسح المنحنيات عثرنا على حوالي خمسة عشر نقشا. إنها حصيلة هزيلة حقا تدل على أن الجيولوجيين الذين سبقونا لهذه المنطقة لم يكونوا سعيدين برحلتهم، أو أنهم كانوا يولون أهمية للآثار بالأهمية نفسها التي نوليها نحن لعلمهم. لن نستطيع إعطاءهم الحجر الأول، فذلك سيكون بدون فائدة لنا، لأنهم سيلتقطونه من أجل أن يختبروه لحسابهم.
كان هناك ثلاثة طيور من فصيلة طويل الساق بمنقارها المقوس. بالإضافة إلى بعض الطيور الأخرى التي كانت تعبر فوق الرمال قرب المخيم، كان خيال ظلهم يزداد طولا كلما مالت الشمس نحو الغروب. ويظهر أنها كانت تولي اهتماما لإصلاحنا مربط مقطورة الجيب. وبعد انطفاء آخر مصباح نمنا تحت تلال بني رمح. وكانت الحرارة تصل إلى ثلاث درجات تحت الصفر، أما الرجال فكانوا يجلسون حول النار ملفوفين في كل كانوا يملكون من الأغطية. وعند طلوع الشمس عنت لنا قافلة مكونة من 60 جملا مقسمة إلى قسمين، خرجت من بين التلال تسير بخطى وئيدة. لم نر شيئا أغرب من هذا الاستعراض الصامت الذي كان يبعد عنا بمئتي متر، كانت الحيوانات تسير في شكل صف هندي وعلى متنها نسوة يرتدين اللباس الأحمر، ورجال يحركون أجسامهم في انسجام مع حركات ما يركبون عليه. كنا نتابعهم بأعيننا، بينما كانت نظراتهم متجهة نحو مخيمنا. ولم نسمع منهم إلا بعض الأصوات المبحوحة التي كانوا يتبادلونها ولا شيء غير هذا. ومهما كانت سلمية هذا اللقاء المفاجئ؟ فإنه يعبر عن الأهمية التي كان من المفروض أن يحظى بها الخفر في أيام الفوضى السابقة.
وهو حالنا نحن كذلك، فها نحن ننصب الخيام بطريقة مختلفة عما لو كانت في زمن الفوضى. غادرنا تراب قحطان لندخل أرض الدواسر الواسعة.
أما التلال القريبة من خيمتنا. فإنها يمكن أن تكون مصدر إلهام للرسام الذي يحب الخطوط الصافية دون أن يبحث عن معناها. فقد شكلتها العواصف وما زالت تعيد تشكيلها بدون توقف.
يعبر السهل الذي نجتازه ذو التموجات الخفيفة عن سيمفونية ذات لون الباستيل. كانت بعرائش الخرطال الأبيض المفضض تزين الرمال تحت سماء زرقاء. يضاف إلى هذا تفاصيل شاعرية أخرى فالأرض مليئة بروث الجمال الذي جففته الشمس مع تعاقب السنين محولة لونه إلى اللون الأبيض، وكانت الرياح تعبث بها لتنتهي بها إلى غبار. وكنا نعثر على طبقات سميكة من آثار الأيدي في بعض المنحنيات، وبين الصخور التي يفضل البدو بناء مخيماتهم بها.
وبينما كنا نحيط بتلال بني رمح إذا بامرأة توقفنا وفي يدها قربة فارغة تعرب عن قصدها. وعندما شرع رجالنا في تعبئة القربة بالماء أدارت المرأة العفيفة ظهرها إلينا، وعلى الرغم من ارتدائها العباءة السوداء ذات الثقب؛ فإنها لم تكن توحي بشيء.
وعلى الرغم من سيرنا مسافة أربعين كلم بعد ذلك، فإننا لم نبتعد أكثر من مسافة طائر عن مخيمنا لليلة أمس. بينما كان مظهر التلال قد تغير نهائيا. بالأمس كنا نتأمل المنحنيات الخفيفة الواقعة في وجه العواصف، واليوم ها نحن أسفل نتوءات ذات حافات شبه حادة وأكثر احتماء يتراوح علوها ما بين عشرة إلى خمسة عشر مترا والصعود إليها صعب، ذلك لأننا مهددون بالاندفاع نحو الأعماق في حالة عدم التمسك بإحدى الشقوق المحفورة. أما القمة التي قدت على شكل أقواس فتنتهي بخليط من الرمال التي تثيرها العواصف باستمرار لتحولها إلى غبار. يبلغ علو أعلى قمة في هذه التلال نحو خمسين مترا، وهو حال إحداها التي كانت قمة هرمها تلمع بنور الشمس. وكان فيلبي قد شاهد هناك بعض القمم التي يصل علوها إلى 300 متر، ويذكر أن أعلاها يوجد في تخوم عمان.
وبعد مغادرتنا جبال بني حرب المجاورة للتلال عبرنا سهلا تسير فيه السيارات بسهولة. كانت الأشجار نادرة بينما كانت الجمال كثيرة. كانت حوالي عشرة منها بيضاء تلوح وسط سراب، كما يلوح يخت فوق بحيرة. وأحيانا كثيرة كنا نزيل بصعوبة بعض الأعشاب التي كانت تعلق بالسيارات.
كانت طرق الجمال تتكاثر وتتداخل مع بعضها لتأخذ في النهاية اتجاها واحدا نحو بئر سرمدا التي يصل عمقها إلى 75 مترا لينتهي بحفرة كثيرة الماء. أنهينا يومنا بعيدا عن هناك بحوالي 15 كيلو متر قرب بئر أخرى اسمها بئر الطويلة الذي لا يتجاوز عمقها 39 مترا. إن هذا الفرق في كمية المياه بين بئرين متجاورتين يبدو أمرا غريبا.
كان هناك بعض البدو بلباسهم الأحمر يركبون على جمالهم البيض التي كانوا ينقلون عليها حطبا أصفر اللون. كان هذا الاستعراض وقت الغروب تحت سماء متعددة الألوان. وهي عبارة عن صور تجعل المرء يحب الصحراء ولياليها. وقد نهض بعض البدو من حول النار لأداء الصلاة في الوقت الذي كانت الشمس بصدد الغروب. بينما كانت جمالهم ترقد حولهم تجتر العشب الذي التقطته محملقة فيهم بعيونها.
إن الصلوات الخمس عبادة مقدسة عند البدوي، فهو يمكنه أن يتخلى عن مطاردة حيوان عندما يحين وقت الصلاة. يؤذن الفجر عندما كنا نتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، بينما تقام صلاة الظهر عندما يصل الظل إلى حد يعرفه كل واحد منهم، لكن بدقة تقريبية نظرا للتغيرات الجغرافية والفصلية. والمرأة البدوية تصلي كذلك لكنها تفضل الصلاة داخل خيمتها.
وخلال توقفي شاهدت ناقة تلوك عظمة طويلة. كان نصفها لا يزال يبرز من بين فكيها. وإذا كان الأطباء يقدمون وصفات الكالسيوم للنساء الشابات. فإن الطبيعة هي الأخرى في حاجة إلى المادة نفسها.
يمتد طريق نجران- الرياض على شكل حية تجعلنا نعبرها مرارا خلال أيام. لكننا سنبتعد عنها متجهين شرقا من أجل نصب خيمتنا في سفح سلسلة جبال طويق.
اجتزنا بشكل مريح السهل الذي كان سطحه مكونا من طبقة من الجير الأبيض كالثلج. وبعد عبور سلسلة الجبال المكونة من الصخور الرسوبية على شكل نتوء بارز يشبه ظهر سمك الشبوط يبرز من بركة غير عميقة شاهدنا جرف طويق الملون ماسكا بالأرض بعد أن رفرف طويلا فوق السراب. ها قد بلغنا قرية الفاو. إنها عبارة عن بئر مهمة، وقد كانت مركزا سبئيا متقدما في الصحراء في شمال المملكة. وكان أول من وصف مكانه هو الأمريكي أوين Owens بعدما ذهب إليه سنة 1948م، ونحن ثالث بعثة تزور هذه الأطلال الغريبة. تعد قرية الفاو آخر بئر في المنطقة قبل الربع الخالي. فهل كان يتردد عليه الناس كثيرا؟ سيكون من الصعب القول إنه كان مقصودا من قبل الكثيرين، وذلك نظرا لوجود ثلاثة آبار أخرى قريبة من هذه المنطقة مجاورة لبعضها.
كانت تنتشر في هذه المنطقة حوالي خمسمئة رأس من الجمال مقسمة إلى مجموعات فوق الربى المحيطة بكل ثقب (بئر). وكان عدد من البدو نساء ورجالا يقومون بسحب الماء من البئر التي يصل عمقها إلى 38 مترا. وكنت أجد صعوبة في فهم الطريقة التي يتعرفون بها على إبلهم، ويجمعون بها بهائمهم مع التأكد من أن كل واحد منها قد تزود بما يكفيه من الماء. فهل هناك شغل أقل صعوبة من إيراد قطيع من الجمال؟ علما بأن كل جمل يشرب ما بين 50 إلى 60 لتراً من الماء. إنها رياضة قوية وخاصة في فصل الإخصاب. وكان بجوار البئر عدد من الحمام القادمة من المجارف المجاورة من أجل أن تطفئ عطشها.
نصبنا الخيمة في بداية حقل الأنقاض. وقد فضل رجالنا البقاء قرب البئر رغم بعدهم عنه بمسافة 300 متر، ويجب عليهم المجيء إلينا كلما دعوناهم. إنهم يخافون الجن والأشباح التي تسكن الأنقاض وخاصة بالليل. وفعلا لا يوجد أثر لنصب الخيام في المكان الذي كنا به على الرغم من أن الكثير من البدو كانوا يمرون بالقرية.
هذا المساء سنشاهد انغلاقا حقيقيا للأفق. كان هناك ثلاثة أو أربعة قطعان من الجمال ترعى في السهل، بعضها يقفز وبعضها الآخر يسرع الخطى. كان بعضها قد قدم من اتجاهات مختلفة وهي كلها مطلية بغبار وردي، وكلها كانت تقصد هدفا واحدا ألا وهو الشرب. كنا نسمع صوت بكرة وهي تسحب الماء، ومعها صوت أحد البدو الذي يخرجه من أعماق حنجرته، بالإضافة إلى صوت جمل منعزل، في الوقت الذي كانت طلائع النيران تظهر في الجرف يتردد لون لهيبها بين الأصفر والبنفسجي وبياض الصخور الرسوبية.
وباستثناء الإطار المتوحش لقرية الفاو. فإن أنقاضها لا تمثل أية إثارة قوية، فهي مدكوكة جدا بفعل الزمن، وفي غربها تقع مساحة شاسعة تمتد على هكتارات كثيرة، حيث يمكننا أن نتصور بسهولة أنها كانت مخصصة للسكن. إن أبسط نبش يقوم به المرء سيسمح له بتتبع مسارات الحيطان الغارقة في الأرض. لقد قدمت لنا هذه الأنقاض التي لا تزال مصبوغة حوالي خمسين من النقوش السبئية التي كانت مرسومة على شكل أنابيب فوق الجص. وبما أنه لم يكن من مهمة البعثة حفر الأنقاض فقد اكتفينا بتعرية بعض الأمتار المربعة. لقد عثرنا على كوتين مجصصتين على شكل دائري وما زالتا ناعمتين كما وضعتا في الأصل تعلوهما طبقة من الرمل الناعم. ومن كثرة تحريكنا للأحجار واختبارنا لها، ومن كثرة دوراننا فوق الأرض فقد كانت تتناثر الآلاف من قطع الخزف والأحجار التي كانت تنتشر فوق الأرض، وقد جمعنا منها حصيلة قليلة من القطع السبئية من بينها رأس ثور ومبخرة وقطعتان من شواهد القبور.
كانت المنطقة الشرقية من حقل الأنقاض تحتفظ بعلامات ما زالت واضحة نوعا ما تدل على مالكها الأصلي، كما توجد من ثمانية إلى عشرة شقوق على الحائط المبني من اللبن المجفف ترسم آثارها الأبيض على جرف طويق الملون، أما علوها فلا يتجاوز ستة أمتار وسمكها يجعل منها سلة من الفطر ذات القاعدة المتينة التي جعل منها المناخ أشكالا لولبية. وفي جهة الشمال الشرقي يوجد تل اصطناعي أعلى من سقف الحائط تمتد قامته إلى 60 مترا فوق 30 نتوءا مغطى بقطع الخزف. هل هي قلعة أم سكن أميري؟ لا يعلم بهذا أحد. كان لباس جاك قد امتلأ بقعا من كثرة أخذ قياسات الأطلال عندما عثر على إحدى قنوات الماء التي كانت تستخدم بلا شك في جر مياه السيول نحو الخزانات المدفونة تحت الأرض. وخلال الليلة الأولى هبت عاصفة هوجاء كادت تقتلع الخيام. وبعد استنفار دام نصف ساعة عادت الأمور إلى مجاريها.
من بين الأسباب، إن لم تكن السبب الرئيس لوجود قرية الفاو هي كونها معبرا واسعا في جرف طويق الوعر الواقع في سلسلة طويق، فعن طريق هذا الممر كانت القوافل والبدو الرحل ينفذون إلى الربع الخالي متخذين منه طريقهم.
وعلى كل حال؛ فإن كلمة فاو تعني في اللغة العربية "منافذ"، ومن بين هذه المنافذ كان يهمنا منها واحد يمتد من خشم قرية إلى خشم لحيان. وتوجد في وسطه المنعزل في الرمال مجموعة صخور العبيد التي كان يستخدمها الرسامون الثموديون كثيرا بطبيعة الحال. كنا نصادف في طريقنا آثار مرور سيارات قد تكون لبعض الأمريكان التابعين لمجموعة أوين OWENS.
وبعد التقاطنا لعدد من الآثار الحجرية التي كانت على شكل مثلثات ذات ملاحق على شكل ذنب، شرعنا في عبور الضفة الشمالية للمضيق خلال نصف ساعة. وقريبا من مضيق روضة العضرسية وجدنا مكاناً مرتفعا كان مخصصا للصلاة فوق إحدى الهضاب. إلى هنا كنا لا نزال نعثر على هذه المثلثات الحجرية المذنبة في أعلاها المختلف الطول. كان الأمر غريبا بالنسبة لنا. تصوروا شارعا واسعا محاطا من جميع جوانبه مبلطا بهذه المثلثات المتقابلة كما يصطف الجنود في الاستعراض. كانت هذه المثلثات تتداخل فيما بينها بنسق منتظم، حيث إن الذنب يلحق بالصخرة المجاورة له من جهة الشمال، ثم يندثر في الرمال من جهة الجنوب. لا بد أن يكون وراء هذا الاستعراض الحجري الصامت والعتيق المنسي لغز قد لا يتمكن الناس من حله.
وفي العودة قمنا بزيارة مهمة لخشم قرية كانت قد سبقتنا إليه البعثة الأمريكية فجمعت منه بعض الألواح من النقوش. وكانت هناك تشققات في منتصف الحافة، وكأنها مقطوعة بخنجر، بعضها أبيض وبعضها الآخر قطيفي اللون أو بلون العنب. إن الدخول إليها كان صعبا فكان علينا حفر سلسلة من الأدراج، وفي نهايتها التي كانت تشرف على متسع عرضه 25 مترا وجدنا خمس لوحات من النقوش عوضتنا عن المجهود الذي بذلناه من أجلها. وعلى واحدة منها ذات اللون الأبيض كالثلج كان يظهر محارب مسلح بالرمح وآخر يحمل في يده قطعة حديدية موجهة إلى السماء وهو يقف إلى جانب الأول. كان فوقنا منبع للأحجار، وكنا نتخذه مطية للتنقل في هذه المنطقة، وهو يؤدي إلى جرف ممتد على شكل عمودي تتخلله حفر عميقة. وقد حاولت تدريب مسفر الثاني المحارب المقدام على طريقة البحث عن الحفر المتحجرة. لكن يظهر أن هذا الاتجاه العلمي لا يحمسه كثيرا. فقد عثر على واحد، لكنه تعب بعد ذلك ثم انطلق في غنائه متوجها إلى النوم تحت ظل السيارة.
وبعد رجوعنا للمخيم جاءني المرشد يشكو من ارتفاع درجة الحرارة في رأسه حيث يظهر أنه اشتغل كثيرا في عشرة الأيام الأخيرة، أي منذ أن قتل أخوه أحد البدو. وإني لأضع نفسي مكانه وآخذ الأمر بجدية. كنا نشرب ماء القرية الذي لا طعم له، كما أن لونه يذكرني بنوع الماء الذي كنا نغطس فيه ونحن أطفال نلعب على جنبات الوادي، حيث كنا نشرب الماء الملوث بالوحل عندما كنا نتبادل الضربات بكرات الوحل.
وفي الصباح قدم لنا رجالنا حلوى تعرف باسم الحنيني، وهي ذات لون أسمر وسميكة وكثيرة الدهون، مكونة من خليط من التمر والخبز المسحوق وزبدة الغنم والماء.
قرر فيلبي تخصيص اليوم الثالث للتعمق في نقطة في اتجاه الجنوب على امتداد جرف طويق. بينما بقي جاك في المكان نفسه لإنهاء عملية البحث في الأطلال. وقد أخذنا مرشدا بدويا من الدواسر ظهر لنا أنه ممتاز، لكن عيبه الوحيد أنه أصم، وكان ينام فوق العفش ملقيا برأسه بين فيلبي وريكمان. وكان يعرف أننا نسأل عن أسماء الأماكن التي كان يحفظها عن ظهر قلب. وقد انبهر فيلبي بهذا السيل من التدقيقات حول الأماكن التي كنا نسأله عنها، بينما كان ريكمان يصارع شيئين: مراقبة عداد الكيلومترات وتسجيل أسماء الأماكن من خلال قراءته لحركات يد المرشد التي كانت تمسح الأفق أمام وجهه.
منذ البداية عبرنا متسعا مليئا بالجير الأبيض المستوي، كانت ألوانه البيضاء مثيرة، فهو يظهر تماما كما يطهر ثلج شهر فبراير في جبال الألب. إنه يتكئ على صديقنا القديم الجرف الذي يبلغ طوله ألف كيلومتر. كانت ألوان طويق تتغير باستمرار: اللون الأسمر، يليه اللون الرمادي المائل إلى الفضي، يليه الأخضر الفستقي الذي يتناوب مع الأبيض بلون الكريمة، والرمل الأحمر يخالط اللون البنفسجي، وفي شبه بفتاة جميلة يقطع هذا الجرف بخمار أصفر بلون التبن، وقد زاده جمالا كثرة الخنادق والتشققات والمنثنيات، حيث تتراقص ظلال عمره الجيولوجي.
قبر هنا وجثوة هناك إلى أن وصلنا إلى بئر الزفر التي انتهت مهمتها حيث إنها كان قد جفت منذ ست سنوات. وعلى عرض حوالي عشرة أمتار كانت الرمال قد غزت الجرف بأكمله، فأنزلت علوه الذي يصل إلى سبعين مترا جاعلة منها منحنى ممتدا على مسافة نصف كيلو متر زارعة بها روث البهائم، لأنه يعد من بين المنافذ القليلة إلى المرتفعات والى الصحراء. دخلنا هذا الطريق الذي كان عبارة عن مزلجة ذات منعرجات خفيفة وذات حافات عمودية تقريبا. وكان المرشد يجلس فوق القمة. إنه بدوي نموذجي، شعره أسود وكثيف يحيط بوجه ذي الجلد القوي، ورجلاه القويتان لا تخشيان الشوك، ابتسامته تظهر من تحت عينيه الكثيرة الانثناءات تخفي دهاء وتعصبا في الوقت نفسه. كان يعبر سهل شرقة مجانبا قطيعا من الجمال التي كانت تنتشر فوق السهل وترعى العشب، كان لونها معتما أحيانا يشبه انعكاس خيال السحب فوق الماء. وفي جهة الجنوب كانت النظرة تصل إلى خشم حويجة، أما خلفنا فكانت توجد بداية الربع الخالي بتلاله المسننة التي تبدأ بفراش من الحصى الأملس الذي صقلته العواصف.
وعند العودة وبموازاة خشم دشلة قرر فيلبي التوقف من أجل تقييم الوضع، لقد توقف تحت العواصف قرب الجيفة الوحيدة التي صادفناها في رحلتنا. وبعد خمس دقائق من الشغل المستمر، قال لنا: "هناك رائحة كريهة". وكانت هناك عائلة بدوية ترعى بهائمها، الأولاد والأمهات يمتطون جمالهم، بينما كان هناك ثلاثة أطفال يقفزون حولهم حسب هواهم.
وفي بئر إحدى القرى أوقفني أحد البدو بعنف عندما التقطت صورا لزوجاته أو بناته اللواتي كن يرتدين الثوب الأحمر. كان قد أثير بما فعلت صائحا في وجهي بصوت حاد. لكن مسفرا الأول تدخل فأخرجني من هذه الورطة مهدئا الرجل الذي لم يتحرك من مكانه. لقد جاء مسفر في الوقت المناسب، حيث كان سيصعب عليه أن يلتزم الهدوء، إنه مسفر الذي ينهال باللكمات بلا توقف. وأظن أنني أيضا كنت على وشك أن أفقد زمامي. لقد أنسانا ما كنا فيه طبق من الشوربة الممتازة المعدة بالحمام والبصل الطازج والأرز وقطع من رأس الخروف.
هذا الصباح سمعت أصوات عدد من الجمال التي تترنح كالأسود في عرينها. لقد حان وقت التهافت على جمع المتاع الذي يصاحب عادة بهذه الموسيقا التي تخرج من الأعماق. كانت الشاحنات التي سبقتنا في الرحيل قد قررت الطريق الذي ستتخذه، ومع الأسف فإنها لم تكن الطريق التي كنا ننوي اتباعها، وكان يتحتم علينا اتباعها بدقة خلال ثلاثين كيلومتر. كما أن الاتصال بهم كان صعبا. أما مسفر الأول فكان قد ضرب بركلته العنيفة إبريقا من فوق النار أبعده لمسافة ثلاثة أمتار، وبعد أن شحن الخروفين اللذين كانا معنا أرجع الجميع جهة الغرب. وبهذا التحقنا بالجيب في الوقت المناسب، حيث كانت قد غرقت في الرمال. كان هناك ضبان صغيران قد حفرا الأرض بمخالبهما واختفيا تحت عريشة من نبتة الثمام محاطين بساقيهما وأصابعهما الغليظة، فانصرفا هاربين فوق الرمال حيث سيختفيان مرة أخرى في أعماق الرمال. وكانت سيارة الجيب قد قطعت مسافة 68 كلم، بينما كنا نحن قد قطعنا 142 كلم عندما بلغنا بئر وعيفرة. هذا الفرق بين العدادين يرجع إلى القرار السابق الذي كان اتخذه أصحاب الشاحنات، وهو يترجم بالنسبة إلينا بضياع البنزين.
في هذه الأثناء كان قد وصلت حوالى ستين جملا لتشرب من البئر، وهي تابعة للأمير فيصل نائب الملك في الحجاز. وحسب قول البدو؟ فإن قبيلة عتيبة هي التي كانت مكلفة بها، وكان للأمير أربعون قطعة من الجمال في المنطقة. وكان سعر الناقة يصل إلى 800 إلى 1000 جنيه إسترليني، فالأمر يتعلق إذن برأسمال محترم جد ا.
وعلى بعد دقائق مشيا كانت هناك بئر معزولة تقدم دليلا قاطعا على صعوبة القوانين والحياة البدوية. فهذه البئر هي كل ما يملكونه، يصلون إليها بعد مسافة طويلة، ليرتووا منها، وهي ليست بشيء في هذه المنطقة المكتظة والكثيرة الحفر. كما تبزغ الأعواد من الثلج نجد هنا فرعين من الأشجار تغطي هذه الكوة. وما يحيط بها يشهد على نوع الحياة بها: أسمال ممزقة سوداء أو حمراء، وأشلاء الحبال وقيعان السلال المهترئة، وأطراف من الجلد، وأثافي منزلية، وأظلاف الجمال، وعظام وقرون المعز. وقد ميزنا بصعوبة انعكاس الماء في قعر البئرعلى عمق 20 مترا. نعرف ذلك من خلال الصوت الضعيف الذي يحدثه سقوط حجرة في أعماق البئر.
وأحيانا كان يسقط بدوي أو إحدى بهائمه في البئر. وكانت هذه العملية تحتاج إلى جهد كبير لانتشال الضحيه الميتة طبعا من البئر. فهو يسقط على علو يساوي علو سبعة أو ثمانية أدوار في عمارة. وعندما نشاهد هذه الحفر المحيطة بأحجار شفة البئر التي لا يوجد فيها إلا الوحل نستغرب من قلة مثل هذه الحوادث. وبعيدا عن البئر بحوالي نصف كيلومتر كانت تتجمع آثار السير نحو البئر مشكلة في مجموعها طريقا يؤدي إلى المراعي البعيدة.
انتهت هذه المرحلة مع غروب الشمس، وفجأة رأينا ثعلبا كبيرا عملاقا يهرب فوق الحصى التي لا نتذكر لونها هل هي سوداء أم وردية. نصبنا خيمتنا على بعد نحو فرسخين جنوب اللدام ووادي الدواسر التي كنا نراها عن بعد لكننا تجنبنا الاقتراب منها في الظلام.


العماني
يتبع

 

 

 

 

    

رد مع اقتباس
قديم 29-10-2009, 09:56 PM   #3
 
إحصائية العضو







ابومبخوت الدوسري غير متصل

وسام الدواسر الذهبي: للأعضاء المميزين والنشيطين - السبب: لنشاطه الكبير وجهوده الطيبه في خدمة الموقع
: 1

ابومبخوت الدوسري has a spectacular aura aboutابومبخوت الدوسري has a spectacular aura aboutابومبخوت الدوسري has a spectacular aura about


افتراضي رد: رحلة استكشافية في الجزيرة العربية(8-من نجران إلى اللدام-وادي الدواسر)

لاهنت وبيض الله وجهك يالعماني على المجهود الرائع ,,,

تقبل تحياتي ,,,

 

 

 

 

    

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 8 ( الأعضاء 0 والزوار 8)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
قبيلة الدواسر ومحاولات التأليف عنها مسفر بن محمد الشرافي :: قسم تاريـخ قــبـيـلة الــدواسـر :: 40 29-05-2012 02:11 PM
التغطية المصورة لحفل المسابقة الشعرية الأولى لموقع قبيلة الدواسر الرسمي الإداره :: قسم المسابقة الشعرية السنوية للموقع الرسمي لقبيلة الدواسر :: 17 11-12-2010 11:09 PM
التغطية المصوّرة لحفل إفتتاح مبرة قبيلة الدواسر الخيريّة بدولة الكويت. الإداره :: قسم اللقــاءات والفعاليات والتغطيات الخاصة:: 16 22-11-2010 09:44 AM
التغطية الـمصّورة للحـفل الثـاني لموقع الدواسر الرسمي برعاية الغرره الإداره :: قسم اللقــاءات والفعاليات والتغطيات الخاصة:: 29 18-08-2007 06:40 PM

 


الساعة الآن 10:36 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
---