::: مـنتدى قبيلـة الـدواسـر الـرسمي ::: - عرض مشاركة واحدة - كشف شبهات الرافضة ، للشيخ سليمان الخراشي.
عرض مشاركة واحدة
قديم 08-02-2007, 10:33 AM   #21
 
إحصائية العضو







الفتى السديري غير متصل

الفتى السديري is on a distinguished road


افتراضي رد: كشف شبهات الرافضة ، للشيخ سليمان الخراشي.

الشبهة(20): ادعاؤهم منع أبي بكر فاطمة ميراثها

والجواب من وجوه:

أحدها: أن ما ذكر من قول فاطمة – رضي الله عنها -: أترث أباك ولا أرث أبي؟ لا يُعلم صحته عنها، وإن صحّ فليس فيه حجة، لأن أباها صلوات الله عليه وسلامه لا يُقاس بأحد من البشر، وليس أبو بكر أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم [كأبيها]، ولا هو ممن حرَّم الله عليه صدقة الفرض والتطوع كأبيها، ولا هو أيضاً ممن جعل الله محبته مقدمة على محبة الأهل والمال، كما جعل أباها كذلك.

والفرق بين الأنبياء وغيرهم أن الله تعالى صان الأنبياء عن أن يورِّثوا دنيا، لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وخلَّفوها لورثتهم. وأما أبو الصديق وأمثاله فلا نبوة لهم يُقدح فيها بمثل ذلك، كما صان الله تعالى نبينا عن الخط والشعر صيانة لنبوّته عن الشبهة، وإن كان غيره لم يحتج إلى هذه الصيانة.

الثاني: أن قوله: «والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها» كذب؛ فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نُورَثُ ما تركنا فهو صدقة» رواه عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو هريرة، والرواية عن هؤلاء ثابتة في الصحاح والمسانيد، مشهورة يعلمها أهل العلم بالحديث، فقول القائل: إن أبا بكر انفرد بالرواية، يدل على فرط جهله أو تعمده الكذب.

الثالث: قوله «وكان هو الغريم [لها]» كذب، فإن أبا بكر – رضي الله عنه – لم يدع هذا المال لنفسه ولا لأهل بيته، وإنما هو صدقة لمستحقها، كما أن المسجد حق للمسلمين. [والعدل] لو شهد على رجل أنه وصَّى بجعل بيته مسجداً، أو بجعل بئره مسبلة، أو أرضه مقبرة، ونحو ذلك، جازت شهادته باتفاق المسلمين، وإن كان هو ممن يجوز له أن يصلي في المسجد، ويشرب من تلك البئر، ويدفن في تلك المقبرة. فإن هذا شهادة لجهة عامة غير محصورة، والشاهد دخل فيها بحكم العموم لا بحكم التعيين، ومثل هذا لا يكون خصماً.

ومثل هذا شهادة المسلم بحق لبيت المال مثل كون هذا الشخص لبيت المال عنده حق، وشهادته بأن هذا ليس له وارث إلا بيت المال، وشهادته على الذميّ بما يوجب نقض عهده وكون ماله فيئاً لبيت المال، ونحو ذلك.

ولو شهد عدل بأن فلاناً وقّف ماله على الفقراء والمساكين قُبلت شهادته، وإن كان [الشاهد] فقيراً.

الرابع: أن الصديق – رضي الله عنه – لم يكن من أهل هذه الصدقة، بل كان مستغنياً عنها، ولا انتفع هو ولا أحد من أهله بهذه الصدقة؛ فهو كما لو شهد قوم من الأغنياء على رجل أنه وصَّى بصدقة للفقراء؛ فإن هذه شهادة مقبولة بالاتفاق.

الخامس: أن هذا لو كان فيه ما يعود نفعه على الراوي له من الصحابة لقُبلت روايته لأنه من باب الرواية لا من باب الشهادة، والمحدِّث إذا حدَّث بحديث في حكومة بينه وبين خصمه قُبلت روايته للحديث، لأن الرواية تتضمن حكماً عاماً يدخل فيه الراوي وغيره. وهذا من باب الخير، كالشهادة برؤية الهلال؛ فإن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم يتناول الراوي وغيره، وكذلك ما نهى عنه، وكذلك ما أباحه.

وهذا الحديث تضمَّن رواية بحكم شرعي، ولهذا تضمن تحريم الميراث على ابنة أبي بكر عائشة – رضي الله عنها -، وتضمن تحريم شرائه لهذا الميراث من الورثة واتِّهابه لذلك منهم، وتضمن وجوب صرف هذا المال في مصارف الصدقة.

السادس: أن قوله: «علي أن ما رووه فالقرآن يخالف ذلك، لأن الله تعالى قال: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ{ [سورة النساء: 11] ولم يجعل الله ذلك خاصًّا بالأُمَّة دونه صلى الله عليه وسلم.

فيقال: أولاً : ليس في عموم لفظ الآية [ما يقتضي] أن النبي صلى الله عليه وسلم يورث، فإن الله تعالى قال: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ{ [سورة النساء: 11]، وفي الآية الأخرى: }وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ{ إلى قوله: }مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ{ [سورة النساء: 12]، وهذا الخطاب شامل للمقصودين بالخطاب وليس فيه ما يوجب أن النبي صلى الله عليه وسلم مخاطب بها.

و«كاف» الخطاب يتناول من قصده المخاطب، فإن لم يعلم أن المعين مقصود بالخطاب لم يشمله اللفظ، حتى ذهبت طائفة من الناس إلى أن الضمائر مطلقاً لا تقبل التخصيص [فكيف بضمير المخاطب؟] فإنه لا يتناول إلا من قُصد بالخطاب دون من لم يُقصد. ولو قُدِّر أنه عام يقبل التخصيص، فإنه عام للمقصودين بالخطاب، وليس فيها ما يقتضي كون النبي صلى الله عليه وسلم من المخاطبين بهذا.

فإن قيل: هب أن [الضمائر] ضمائر التكلم والخطاب والغيبة لا تدل بنفسها على شيء بعينه، لكن بحسب ما يقترن بها؛ فضمائر الخطاب موضوعة لمن يقصده المخاطِب بالخطاب، وضمائر التكلم لمن يتكلم كائناً من كان. لكن قد عرف أن الخطاب بالقرآن هو للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين جميعاً، كقوله تعالى: }كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ{ [سورة البقرة: 183] وقوله: }إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ{ [سورة المائدة: 6] ونحو ذلك. وكذلك قوله تعالى: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ{ [سورة النساء: 11].

قيل: بل «كاف» الجماعة في القرآن تارة تكون للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وتارة تكون لهم دونه. كقوله تعالى: }وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ{ [سورة الحجرات: 7]؛ فإن هذه «الكاف» للأمة دون النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك قوله تعالى: }لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ{ [سورة التوبة: 128].

وكذلك قوله تعالى: }أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ{ [سورة محمد:33]، وقوله تعالى: }كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ{ [سورة آل عمران: 31] ونحو ذلك؛ فإن كان الخطاب في هذه المواضع لم يدخل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، بل تناولت من أُرسل إليهم. فلم لا يجوز أن تكون الكاف في قوله تعالى: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ{ [سورة النساء: 11] مثل هذه الكافات، فلا يكون في السنة ما يخالف ظاهر القرآن.

ومثل هذه الآية قوله تعالى: }وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ * وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا{ [سورة النساء: 3 – 4]، فإن الضمير هنا في «خفتم» و«تقسطوا» و«انكحوا» و«طاب لكم» و«ما ملكت أيمانكم» إنما يتناول الأمة دون نبيها صلى الله عليه وسلم، فإن [النبي صلى الله عليه وسلم] له أن يتزوج أكثر من أربع، وله أن يتزوج بلا مهر، كما ثبت ذلك بالنص والإجماع.

فإن قيل: ما ذكرتموه من الأمثلة فيها ما يقتضي اختصاص الأمة، فإنه لما ذكر ما يجب من طاعة الرسول وخاطبهم بطاعته ومحبته، وذكر بعثه إليهم، عُلم أنه ليس داخلاً في ذلك.

قيل: وكذلك آية الفرائض لما قال: }آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً{ [سورة النساء: 11]، وقال: }مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ{ [سورة النساء: 11]، ثم قال: }تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ{ [سورة النساء: 13- 14]، فلما خاطبهم بعدم الدراية التي لا تناسب حال الرسول، وذكر بعد هذا ما يجب عليهم من طاعته فيما ذكره من مقادير الفرائض، وأنهم إن أطاعوا الله ورسوله في هذه الحدود استحقوا الثواب، وإن خالفوا الله والرسول استحقُّوا العقاب، وذلك بأن يعطوا الوارث أكثر من حقه، أو يمنعوا الوارث ما يستحقه – دلّ ذلك على أن المخاطبين المسلوبين الدراية [لما ذكر]، الموعودين على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، المتوعدين على معصية الله ورسوله وتعدّى حدوده فيما قدره من المواريث وغير ذلك، لم يدخل فيهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه، كما لم يدخل في نظائرها.

ولما كان ما ذكره من تحريم تعدّى الحدود عقب ذكر الفرائض المحدودة، دلّ على أنه لا يجوز أن يزاد أحد من أهل الفرائض على ما قُدِّر له، ودلّ على أنه لا تجوز الوصية لهم، وكان هذا ناسخاً لما أُمر به أولاً من الوصية للوالدين والأقربين.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» رواه أهل السنن كأبي داود وغيره، [ورواه أهل السير]، واتفقت الأمة عليه، حتى ظن بعض الناس أن آية الوصية إنما نُسخت بهذا الخبر، لأنه لم ير بين استحقاق الإرث وبين استحقاق الوصية منافاة، والنسخ لا يكون إلا مع تنافي الناسخ والمنسوخ.

وأما السلف والجمهور فقالوا: الناسخ هو آية الفرائض، لأن الله تعالى قدَّر فرائض محدودة، ومنع من تعدّي حدوده، فإذا أعطى الميت لوارثه أكثر مما حدَّه الله له، فقد تعدّى حدّ الله، فكان ذلك محرّماً، فإن ما زاد على المحدود يستحقه غيره من الورثة أو العصبة، فإذا أخذ حق العاصب فأعطاه لهذا كان ظالماً له.

ولهذا تنازع العلماء فيمن ليس له عاصب: هل يردّ عليه أم لا؟ فمن منع الردّ قال: الميراث حق لبيت المال، فلا يجوز أن يعطاه غيره. ومن جوَّز الرد قال: إنما يوضع المال في بيت المال، لكونه ليس له مستحق خاص، وهؤلاء لهم رحم عام ورحم خاص، كما قال ابن مسعود – رضي الله عنه -: «ذو السهم أَوْلى ممن لا سهم له».

والمقصود هنا أنه لا يمكنهم إقامة دليل على شمول الآية للرسول صلى الله عليه وسلم أصلاً.

فإن قيل: فلو مات أحد من أولاد النبي صلى الله عليه وسلم ورثه، كما ماتت بناته الثلاث في حياته، ومات ابنه إبراهيم؟

قيل: الخطاب في الآية للموروث دون الوارث، فلا يلزم إذا دخل أولاده في كاف الخطاب لكونهم موروثين أن يدخلوا إذا كانوا وارثين.

يوضح ذلك أنه قال: }وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ{ [سورة النساء: 11]، فذكره بضمير الغَيْبة لا بضمير الخطاب، وهو عائد على المخاطب بكاف الخطاب وهو الموروث، فكل من سوى النبي صلى الله عليه وسلم من أولاده وغيرهم موروثون شملهم النص وكان النبي صلى الله عليه وسلم وراثاً لمن خوطب، ولم يخاطب هو بأن يورث أحداً شيئاً، وأولاد النبي صلى الله عليه وسلم ممن شملهم كاف الخطاب فوصَّاهم بأولادهم للذكر مثل حظ الأنثيين، ففاطمة – رضي الله عنها - وصَّاها الله في أولادها للذكر مثل حظ الأنثيين، ولأبويها لو ماتت في حياتهما لكل واحد منهما السدس.

فإن قيل: ففي آية الزوجين قال: (ولكم)، (ولهن).

قيل: أولاً: الرافضة يقولون: إن زوجاته لم يرثنه ولا عمه العباس، وإنما ورثته البنت وحدها.

الثاني: أنه بعد نزول الآية لم يُعلم أنه ماتت واحدة من أزواجه ولها مال حتى يكون وارثاً لها. وأما خديجة – رضي الله عنها – فماتت بمكة، وأما زينب بنت خزيمة الهلالية فماتت بالمدينة، لكن من أين نعلم أنها خلَّفت مالاً، وأن آية الفرائض كانت قد نزلت. فإن قوله تعالى: }وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ{ [سورة النساء: 12] إنما تناول من ماتت له زوجة ولها تركة، فمن لم تمت زوجته أو ماتت ولا مال لها لم يخاطب بهذه الكاف.

وبتقدير ذلك فلا يلزم من شمول إحدى الكافين له شمول الأخرى، بل ذلك موقوف على الدليل.

فإن قيل: فأنتم تقولون: إن ما ثبت في حقه من الأحكام ثبت في حق أمته وبالعكس. فإن الله إذا أمره بأمر تناول الأمة، وإن ذلك قد عرف بعادة الشرع. ولهذا قال تعالى: }فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا{ [سورة الأحزاب: 37]، فذكر أنه أحل ذلك له، ليكون حلالاً لأمته. ولما خصّه بالتحليل قال: }وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ{ [سورة الأحزاب: 50] فكيف يقال إن هذه الكاف لم تتناوله؟

قيل: من المعلوم أن من قال ذلك قاله لما عرف من عادة الشارع في خطابه، كما يعرف من عادة الملوك إذا خاطبوا أميراً بأمر أن نظيره مخاطَب بمثل ذلك، فهذا يُعلم بالعادة والعرف المستقر في خطاب المخاطب، كما يُعلم معاني الألفاظ بالعادة المستقرة لأهل تلك اللغة: أنهم يريدون ذلك المعنى.

وإذا كان كذلك فالخطاب بصيغة الجمع قد تنوعت عادة القرآن فيها: تارة تتناول الرسول صلى الله عليه وسلم، وتارة لا تتناوله، فلا يجب أن يكون هذا الموضع مما تناوله، وغاية ما يدّعي المدّعي أن يقال: الأصل شمول الكاف له، كما يقول: الأصل مساواة أمته له في الأحكام، ومساواته لأمته في الأحكام، حتى يقوم دليل التخصيص. ومعلوم أن له خصائص كثيرة خُصَّ بها عن أمته. وأهل السنة يقولون: من خصائصه أنه لا يورث، فلا يجوز أن يُنكر اختصاصه بهذا الحكم إلا كما ينكر اختصاصه بسائر الخصائص، لكن للإنسان أن يطالب بدليل الاختصاص. ومعلوم أن الأحاديث الصحيحة المستفيضة، بل المتواترة [عنه] في أنه لا يورث، أعظم من الأحاديث المروية في كثير من خصائصه، مثل اختصاصه بالفيء وغيره.

وقد تنازع السلف والخلف في كثير من الأحكام: هل هو من خصائصه؟ كتنازعهم في الفيء والخمس، هل كان ملكاً له أم لا؟ وهل أُبيح له من حُرِّم عليه من النساء أم لا؟

ولم يتنازع السلف في أنه لا يُورث، لظهور ذلك عنه واستفاضته في أصحابه. وذلك أن الله تعالى قال في كتابه: }يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ{ [سورة الأنفال: 1]، وقال في [كتابه]: }وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ{ [سورة الأنفال: 41]، وقال في كتابه: }مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ{ [سورة الحشر: 7]. ولفظ آية الفيء كلفظ آية الخمس، وسورة الأنفال نزلت بسبب بدر، فدخلت الغنائم في ذلك بلا ريب، وقد يدخل في ذلك سائر ما نفله الله للمسلمين من مال الكفار. كما أن لفظ «الفيء» قد يُراد به كل ما أفاء الله على المسلمين، فيدخل فيه الغنائم، وقد يختص ذلك بما أفاء الله عليهم مما لم يُوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب.

ومن الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخُمُس، والخمس مردود عليكم». فلما أضاف هذه الأموال إلى الله والرسول رأى طائفة من العلماء أن [هذه] الإضافة تقتضي أن ذلك ملك للرسول صلى الله عليه وسلم كسائر أملاك الناس، ثم جعلت الغنائم بعد ذلك للغانمين، وخُمُسها لمن سمى، وبقي الفيء، أو أربعة أخماسه، ملكاً للرسول صلى الله عليه وسلم، كما يقول ذلك الشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد، وإنما ترددوا في الفيء، فإن عامة العلماء لا يخمِّسون الفيء، وإنما قال بتخميسه الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد كالخرقي. وأما مالك وأبو حنيفة وأحمد وجمهور أصحابه وسائر أئمة المسلمين فلا يرون تخميس الفيء، وهو ما أُخذ من المشركين بغير قتال، كالجزية والخراج.

وقالت طائفة ثانية من العلماء: بل هذه الإضافة لا تقتضي أن تكون الأموال ملكاً للرسول، بل تقتضي أن يكون أمرها إلى الله والرسول، فالرسول ينفقها فيما أمره الله [به].

كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني والله لا أُعطي أحداً ولا أمنع أحداً، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت».

وقال أيضاً في الحديث الصحيح: «تسُّموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي، فإنما أنا قاسم أُقسم بينكم».

فالرسول مبلِّغ عن الله أمره ونهيه، فالمال المضاف إلى الله ورسوله، هو المال الذي يُصرف فيما أمر الله به ورسوله من واجب ومستحب، بخلاف الأموال التي ملَّكها الله لعباده، فإن لهم صرفها في المباحات.

ولهذا لما قال الله في المكاتبين:}وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ{ [سورة النور:33] ذهب أكثر العلماء، كمالك وأبي حنيفة وغيرهما، إلى أن المراد: آتاكم [الله] من الأموال التي ملَّكها الله لعباده، فإنه لم يضفها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، بخلاف ما أضافه إلى الله والرسول، فإنه لا يُعطي إلا فيما أمر الله به ورسوله.

فالأنفال لله والرسول، لأن قسمتها إلى الله والرسول ليست كالمواريث التي قسمها الله بين المستحقين. وكذلك مال الخُمس ومال الفيء.

وقد تنازع العلماء في الخمس والفيء، فقال مالك [وغيره من العلماء]: مصرفهما واحد، وهو فيما أمر الله به ورسوله، وعيَّن ما عيَّنه من اليتامى والمساكين وابن السبيل تخصيصاً لهم بالذكر. وقد رُوي عن أحمد بن حنبل ما يوافق ذلك، وأنه جعل مصرف الخُمس من الركاز مصرف الفيء، وهو تبع لخمس الغنائم. وقال الشافعي، وأحمد في الرواية المشهورة: الخمس يقسم على خمسة أقسام. وقال أبو حنيفة: على ثلاثة، فأسقط سهم الرسول وذوي القربى بموته صلى الله عليه وسلم. وقال داود بن على: بل مال الفيء [أيضاً] يُقسَّم [على خمسة أقسام]. والقول الأول أصح [الأقوال] كما قد بُسطت أدلته في غير هذا الموضع، وعلى ذلك تدل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين.

فقوله: (لله وللرسول) في الخمس والفيء، كقوله في الأنفال: (لله والرسول) فالإضافة للرسول لأنه هو الذي يقسِّم هذه الأموال بأمر الله، ليست ملكاً لأحد. وقوله صلى الله عليه وسلم: «إني والله لا أعطي أحداً ولا أمنع أحداً، وإنما أنا قاسم أضع حيث أُمرت» يدل على أنه ليس بمالك للأموال، وإنما هو منفذ لأمر الله عز وجل فيها، وذلك لأن الله خيَّره بين أن يكون ملكاً نبيًّا وبين أن يكون عبداً رسولاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً، وهذا أعلى المنزلتين، فالملك يصرف المال فيما أحب ولا إثم عليه، والعبد الرسول لا يصرف المال إلا فيما أُمر به، فيكون فيما يفعله عبادة لله وطاعة له، ليس في قسمه ما هو من المباح الذي لا يُثاب عليه، بل يُثاب عليه كله.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» يؤيد ذلك، فإن قوله: «لي» أي أمره إليّ، ولهذا قال: «والخمس مردود عليكم». وعلى هذا الأصل فما كان بيده من أموال بني النضير وفَدَك وخُمس خيبر وغير ذلك، هي كلها من مال الفيء الذي لم يكن يملكه فلا يورث عنه، وإنما يورث عنه ما يملكه.

بل تلك الأموال يجب أن تُصرف فيما يحبه الله ورسوله من الأعمال. وكذلك قال [أبو بكر] الصديق – رضي الله عنه -. وأما ما قد يظن أن مَلَكَه، كمال أوصى له به [مخيريق] وسهمه من خيبر، فهذا إما أن يُقال: حُكمه حكم المال الأول، وإما أن يُقال: هو ملكه، ولكن حكم الله في حقه أن يأخذ من المال حاجته، وما زاد على ذلك يكون صدقة ولا يُورث.

كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقتسم ورثتي ديناراً ولا درهماً، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة». وفي الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث، ما تركناه فهو صدقة» أخرجه البخاري عن جماعة منهم أبو هريرة – رضي الله عنه-، ورواه مسلم عنه وعن غيره.

يبيِّن ذلك أن هذا مذكور في سياق قوله تعالى: }وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ * وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا{ [ سورة النساء: 3، 4] إلى قولـه: }يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ{ [ سورة النساء: 11].

ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخاطب بهذا، فإنه ليس مخصوصاً بمثنى ولا ثلاث ولا رباع، بل له أن يتزوج أكثر من ذلك، ولا مأموراً بأن يوفِّي كل امرأة صداقها، بل له أن يتزوج من تهب نفسها له بغير صداق. كما قال تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ{ [سورة الأحزاب: 50] إلى قوله: }وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا{ [سورة الأحزاب: 50].

وإذا كان سياق الكلام إنما هو خطاب للأمة دونه لم يدخل هو في عموم هذه الآية.

فإن قيل: بل الخطاب متناول له وللأمة في عموم هذه الآية، لكن خُصَّ هو من آية النكاح والصداق.

قيل: وكذلك خص من آية الميراث، فما قيل في تلك يقال مثله في هذه وسواء قيل: إن لفظ الآية شمله وخُصَّ منه، أو قيل: إنه لم يشمله لكونه ليس من المخاطبين: يقال مثله هنا.

السابع: أن يقال: هذه الآية لم يُقصد بها بيان من يورث [ومن لا يورث]، ولا بيان صفة الموروث والوارث، وإنما قُصد بها أن المال الموروث يقسم بين الوارثين على هذا التفصيل. فالمقصود هنا بيان مقدار أنصبة هؤلاء المذكورين إذا كانوا ورثة. ولهذا لو كان الميت مسلماً وهؤلاء كفّاراً لم يرثوا باتفاق المسلمين، وكذلك لو كان كافراً وهؤلاء مسلمين لم يرثوا بالسنة وقول جماهير المسلمين، وكذلك لو كان عبداً وهم أحرار، أو كان حرًّا وهم عبيد. وكذلك القاتل عمداً عند عامة المسلمين، وكذلك القاتل خطأ من الدية. وفي غيرها نزاع.

وإذا علم أن في الموتى من يرثه أولاده، وفيهم من لا يرثه أولاده، والآية لم تفصِّل: من يرثه ورثته ومن لا يرثه، ولا صفة الوارث والموروث، عُلم أنه لم يُقصد بها بيان ذلك، بل قُصد بها بيان حقوق هؤلاء إذا كانوا ورثة.

وحينئذ فالآية إذا لم تبيِّن من يورث ومن يرثه، لم يكن فيها دلالة على كون [غير] النبي صلى الله عليه وسلم يرث أو لا يورث، فلأن لا يكون فيها دلالة على كونه هو يورث بطريق الأَوْلَى والأحرى.

وهكذا كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء العُشر، فيما سُقِيَ بالدوالي والنواضح فنصف العُشر» فإن قصد به الفرق بين ما يجب فيه العشر وبين ما يجب فيه نصف العشر، ولم يقصد به بيان ما يجب فيه أحدهما وما لا يجب واحد منهما، فلهذا لا يحتج بعمومه على وجوب الصدقة في الخضروات.

وقوله تعالى: }وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا{ [سورة البقرة: 275] قصد فيه الفرق بين البيع والربا: في أن أحدهما حلال والآخر حرام، ولم يقصد فيه بيان ما يجوز بيعه وما لا يجوز، فلا يُحتج بعمومه على جواز بيع كل شيء. ومن ظن أن قوله: }وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ{ يعم بيع الميتة والخنزير والخمر والكلب وأم الولد والوقف وملك الغير والثمار قبل بدو صلاحها ونحو ذلك – كان غالطاً.

الوجه الثامن: أن يقال: هب أن لفظ الآية عام، فإنه خصَّ منها الولد الكافر والعبد والقاتل بأدلة هي أضعف من الدليل الذي دلّ على خروج النبي صلى الله عليه وسلم منها؛ فإن الصحابة الذين نقلوا عنه أنه لا يورث أكثر وأجل من الذين نقلوا عنه أن المسلم لا يرث الكافر، وأنه ليس لقاتل ميراث، وأن من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع.

وفي الجملة فإذا كانت الآية مخصوصة بنص أو إجماع، كان تخصيصها بنص آخر جائزاً باتفاق علماء المسلمين. بل قد ذهب طائفة إلى أن العام المخصوص يبقى مجملاً. وقد تنازع العلماء في تخصيص عموم القرآن إذا لم يكن مخصوصاً [بخبر الواحد]، فأما العام المخصوص فيجوز تخصيصه بخبر الواحد عند عوامهم، لاسيما الخبر المتلقى بالقبول؛ فإنهم متفقون على تخصيص عموم القرآن به.

وهذا الخبر تلقته الصحابة بالقبول، وأجمعوا على العمل به، كما سنذكره [إن شاء الله تعالى].

والتخصيص بالنص المستفيض والإجماع متفق عليه. ومن سلك هذا المسلك يقول: ظاهر الآية العموم، لكنه عموم مخصوص. ومن سلك المسلك الأول لم يسلم ظهور العموم إلا فيمن عُلم أن هؤلاء يرثونه، ولا يُقال: إن ظاهرها متروك، بل نقول: لم يُقصد بها إلا بيان نصيب الوارث، لا بيان الحال التي يثبت فيها الإرث، فالآية عامة في الأولاد والموتى، مطلقة في [الموروثين. وأما] شروط الإرث فلم تتعرض له الآية، بل هي مطلقة فيه: لا تدل عليه بنفي ولا إثبات.

كما في قوله تعالى:}فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ{ [سورة التوبة: 5] عام في الأشخاص، مطلق في المكان والأحوال. فالخطاب المقيِّد لهذا المطلق يكون خطاباً مبتدأً مبيِّناً لحكم شرعي لم يتقدم ما ينافيه، لا يكون رافعاً لظاهر خطاب شرعي، فلا يكون مخالفاً للأصل.

الوجه التاسع: أن يقال: كون النبي صلى الله عليه وسلم لا يُورث ثبت بالسنة المقطوع بها وبإجماع الصحابة، وكل منهما دليل قطعي، فلا يُعارض ذلك بما يُظن أنه عموم، وإن كان عموماً فهو مخصوص، لأن ذلك لو كان دليلاً لما كان إلا ظنياً، فلا يعارض القطعي؛ إذ الظني لا يعارض القطعي.

وذلك أن هذا الخبر رواه غير واحد من الصحابة في أوقات ومجالس، وليس فيهم من ينكره، بل كلهم تلقَّاه بالقبول والتصديق. ولهذا لم يُصرّ أحد من أزواجه على طلب الميراث، ولا أصرّ العم على طلب الميراث، بل من طلب من ذلك شيئاً فأُخبر بقول النبي صلى الله عليه وسلم رجع عن طلبه. واستمر الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين إلى عليّ، فلم يغير شيئاً من ذلك ولا قسم له تركة.

الوجه العاشر: أن يقال: إن أبا بكر وعمر قد أعطيا عليًّا وأولاده من المال أضعاف، أضعاف ما خلَّفه النبي صلى الله عليه وسلم من المال. والمال الذي خلّفه صلى الله عليه وسلم لم ينتفع واحد [منهما] منه بشيء، بل سلَّمه عمر إلى عليّ والعباس – رضي الله عنهم ـ يليانه ويفعلان فيه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله. وهذا مما يوجب انتفاء التهمة عنهما في ذلك.

الوجه الحادي عشر: أن يقال: قد جرت العادة بأن الظلمة من الملوك إذا تولوا بعد غيرهم من الملوك الذين أحسنوا إليهم أو ربُّوهم، وقد انتزعوا الملك من بيت ذلك الملك، استعطفوهم وأعطوهم ليكفُّوا عنهم منازعتهم، فلو قُدِّر – والعياذ بالله – أن أبا بكر وعمر – رضي الله عنهما – متغلبان متوثِّبان، لكانت العادة تقضي بأن لا يزاحما الورثة المستحقين للولاية والتركة [في المال]، بل يعطيانهم ذلك وأضعافه ليكفوا عن المنازعة في الولاية. وأما منع الولاية والميراث بالكلية فهذا لا يُعلم أنه فعله أحد من الملوك، وإن كان من أظلم الناس وأفجرهم. فعُلم أن الذي فعلوه مع النبي صلى الله عليه وسلم أمر خارج عن العادة الطبيعية في الملوك، كما هو خارج عن العادات الشرعية في المؤمنين، وذلك لاختصاصه صلى الله عليه وسلم بما لم يخص الله به غيره من ولاة الأمور وهو النبوة، إذ الأنبياء لا يورثون.

الوجه الثاني عشر: أن قوله تعالى: }وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ{ [سورة النمل: 16]، وقوله تعالى [عن زكريا]: }فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ{ [سورة مريم: 5، 6] لا يدل على محل النزاع؛ لأن الإرث اسم جنس تحته أنواع، والدال على ما به الاشتراك لا يدل على ما به الامتياز. فإذا قيل: هذا حيوان، لا يدل على أنه إنسان أو فرس أو بعير.

وذلك أن لفظ «الإرث» يُستعمل في إرث العلم والنبوة والملك وغير ذلك من أنواع الانتقال، قال تعالى: }ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا{ [سورة فاطر: 32].

وقال تعالى: }أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{ [سورة المؤمنون: 10، 11].

وقال تعالى: }وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ{ [الزخرف: 72].

وقال تعالى: }وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا{ [سورة الأحزاب: 27].

وقال تعالى: }إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ{ [سورة الأعراف: 128].

وقال تعالى: }وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا{ [سورة الأعراف: 137].

وقال تعالى: }وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ{ [سورة الأنبياء: 105].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» رواه أبو داود وغيره.

وهكذا لفظ «الخلافة» ولهذا يقال: الوارث خليفة الميت، أي خلفه فيما تركه. والخلافة قد تكون في المال، وقد تكون في الملك، وقد تكون في العلم، وغير ذلك.

وإذا كان كذلك فقوله تعالى: }وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ{ [سورة النمل: 16]، وقوله: }يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ{ [سورة مريم: 6] إنما يدل على جنس الإرث، لا يدل على إرث المال. فاستدلال المستدل بهذا الكلام على خصوص إرث المال جهل منه بوجه الدلالة، كما لو قيل: هذا خليفة هذا، وقد خلفه – كان دالاً على خلافة مطلقة، لم يكن فيها ما يدل على أنه خلفه في ماله أو امرأته أو ملكه أو غير ذلك من الأمور.

الوجه الثالث عشر: أن يقال: المراد بهذا الإرث إرث العلم والنبوة ونحو ذلك لا إرث المال. وذلك لأنه قال: }وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ{ [سورة النمل: 16]، ومعلوم أن داود كان له أولاد كثيرون غير سليمان، فلا يختص سليمان بماله.

وأيضاً فليس في كونه ورث ماله صفة مدح، لا لداود ولا لسليمان، فإن اليهودي والنصراني يرث أباه ماله، والآية سيقت في بيان المدح لسليمان، وما خصّه الله به من النعمة.

وأيضاً فإرث المال هو من الأمور العادية المشتركة بين الناس، كالأكل، والشرب، ودفن الميت. ومثل هذا لا يُقصُّ عن الأنبياء إذ لا فائدة فيه، وإنما يُقص ما فيه عبرة وفائدة تُستفاد، وإلا فقول القائل: «مات فلان وورث ابنُه ماله» مثل قوله: «ودفنوه» ومثل قوله: «أكلوا وشربوا وناموا» ونحو ذلك مما لا يحسن أن يُجعل من قصص القرآن.

وكذلك قوله [عن زكريا]: }يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ{ [سورة مريم: 6] [ليس المراد به إرث المال؛ لأنه لا يرث من آل يعقوب شيئاً من] أموالهم بل إنما يرثهم ذلك أولادهم وسائر ورثتهم لو ورثوا، ولأن النبي لا يطلب ولداً ليرث ماله؛ فإنه لو كان يورث لم يكن بد من أن ينتقل المال إلى غيره: سواء كان ابناً أو غيره، فلو كان مقصوده بالولد أن يرث ماله، كان مقصوده أنه لا يرثه أحد غير الولد.

وهذا لا يقصده أعظم الناس بخلاً وشحًّا على من ينتقل إليه المال، فإنه لو كان الولد موجوداً وقصد إعطاء الولد وأما إذا لم يكن له ولد، وليس مراده بالولد إلا أن يحوز المال دون غيره، كان المقصود أن لا يأخذ أولئك المال، وقصد الولد بالقصد الثاني، وهذا يقبح نم أقل الناس عقلاً وديناً.

وأيضاً فزكريا - عليه السلام - لم يُعرف له مال، بل كان نجاراً. ويحيى ابنه - عليه السلام – كان من أزهد الناس.

وأيضاً فإنه قال: }وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي{ [سورة مريم: 5] ومعلوم أنه لم يخف أن يأخذوا ماله [من بعده] إذا مات، فإن هذا ليس بمخوف.

فصل

قال الرافضي: «ولما ذكرت فاطمة أن أباها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبها فدك قال [لها]: هات أسود أو أحمر يشهد لك بذلك، فجاءت بأم أيمن، فشهدت لها بذلك، فقال: امرأة لا يقبل قولها. وقد رووا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أم أيمن امرأة من أهل الجنة، فجاء أمير المؤمنين فشهد لها بذلك، فقال: هذا بعلك يجرّه إلى نفسه ولا نحكم بشهادته لكِ وقد رووا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عليٌّ مع الحق، والحق معه يدور [معه] حيث دار لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فغضبت فاطمة – عليها السلام – عند ذلك وانصرفت، وحلفت أن لا تكلمه ولا تصاحبه حتى تلقى أباها وتشكو إليه، فلما حضرتها الوفاة أوصت عليًّا أن يدفنها ليلاً ولا يدع أحداً منهم يصلِّي عليها، وقد رووا جميعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا فاطمة! إن الله تعالى يغضب لغضبك ويرضى لرضاك. ورووا جميعاً [أنه قال]: فاطمة بضعة مني، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله. ولو كان هذا الخبر صحيحاً حقًّا لما جاز له ترك البغلة التي خلَّفها النبي صلى الله عليه وسلم وسيفه وعمامته عند أمير المؤمنين عليّ، ولما حكم له بها لما ادّعاها العباس، ولكان أهل البيت الذين طهّرهم الله في كتابه من الرجس مرتكبين ما لا يجوز، لأن الصدقة عليهم محرَّمة. وبعد ذلك جاء إليه مال البحرين وعنده جابر بن عبد الله الأنصاري، فقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لي: «إذا أتى مال البحرين حثوت لك، ثم حثوت لك، [ثلاثاً]، فقال له: تقدم فخذ بعددها، فأخذ [من بيت] مال المسلمين من غير بيِّنة بل بمجرد قوله».

والجواب: أن في هذا الكلام من الكذب والبهتان والكلام الفاسد ما لا يكاد يحصى إلا بكلفة، ولكن سنذكر من ذلك وجوهاً [إن شاء الله تعالى].

أحدها: أن ما ذكر من ادّعاء فاطمة – رضي الله عنها – فَدَك فإن هذا يناقض كونها ميراثاً لها، فإن كان طلبها بطريق الإرث امتنع أن يكون بطريق الهبة، وإن كان بطريق الهبة امتنع أن يكون بطريق الإرث، ثم إن كانت هذه هبة في مرض الموت، فرسول الله صلى الله عليه وسلم منزّه، إن كان يُورث كما يورث غيره، أن يوصي لوارث أو يخصه في مرض موته بأكثر من حقه، وإن كان في صحته فلا بد أن تكون هذه هبة مقبوضة، وإلا فإذا وهب الواهب بكلامه ولم يقبض الموهوب شيئاً حتى مات الواهب كان ذلك باطلاً عند جماهير العلماء، فكيف يهب النبي صلى الله عليه وسلم فَدَك لفاطمة ولا يكون هذا أمراً معروفاً عند أهل بيته والمسلمين، حتى تختص بمعرفته أم أيمن أو علي رضي الله عنهما؟

الوجه الثاني: أن ادّعاء فاطمة ذلك كذب على فاطمة، [وقد قال الإمام أبو العباس بن سريج في الكتاب الذي صنَّفه في الرد على عيسى بن أبان لما تكلم معه في باب اليمين والشاهد، واحتجّ بما احتجّ، وأجاب عما عارض به عيسى بن أبان، قال: وأما حديث البحتري بن حسَّان عن زيد بن عليّ أن فاطمة ذكرت لأبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها فَدَك، وأنها جاءت برجل وامرأة، فقال: رجل مع رجل، وامرأة مع امرأة، فسبحان الله ما أعجب هذا‍ قد سألت فاطمة أبا بكر ميراثها وأخبرها عن رسول الله عليه وسلم أنه قال: لا نُورث، وما حكى في شيء من الأحاديث أن فاطمة ادّعتها بغير الميراث، ولا أن أحداً شهد بذلك.

ولقد روى جرير عن مغيرة عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في فَدَك: «إن فاطمة سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلها لها فأبى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفق منها ويعود على ضَعَفَة بني هاشم ويزوّج منه أَيِّمَهُمْ، وكانت كذلك حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر صدقة وقبلت فاطمة الحق، وإني أُشهدكم أني رددتها إلى ما كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم».

ولم يُسمع أن فاطمة – رضي الله عنها – ادّعت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها إياها في حديث ثابت متصل، ولا أن شاهداً شهد لها. ولو كان ذلك لحُكي، لأنها خصومة وأمر ظاهر تنازعت فيه الأمة وتحادثت فيه، فلم يقل أحد من المسلمين: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها فاطمة ولا سمعت فاطمة تدّعيها حتى جاء البحتري بن حسَّان يحكي عن زيد شيئاً لا ندري ما أصله، ولا من جاء به، وليس من أحاديث أهل العلم: فضل بن مرزوق عن البحتري عن زيد، وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب أن يكف عن بعض هذا الذي لا معنى له، وكان الحديث قد حسن بقول زيد: لو كنت أنا لقضيت بما قضى به أبو بكر. وهذا مما لا يثبت على أبي بكر ولا على فاطمة لو لم يخالفه أحد، ولو لم تجر فيه المناظرة ويأتي فيها الرواية، فكيف وقد جاءت؟ وأصل المذهب أن الحديث إذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال أبو بكر بخلافه، إن هذا من أبي بكر - رحمه الله - كنحو ما كان منه في الجدّة، وأنه متى بلغه الخبر رجع إليه.

ولو ثبت هذا الحديث لم يكن فيه حجة، لأن فاطمة لم تقل: إني أحلف مع شاهدي فمنعت. ولم يقل أبو بكر: إني لا أرى اليمين مع الشاهد.

قالوا: وهذا الحديث غلط؛ لأن أسامة بن زيد يروي عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحَدَثَان، قال: كان مما احتج به عمر أن قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا: بنو النضير، وخيبر، وفدك. فأما بنو النضير فكانت حُبساً لنوائبه. وأما فَدَك فكانت حُبُساً لأبناء السبيل، وأما خيبر فجزَّأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء: جزئين بين المسلمين، وجزءً نفقة لأهله، فما فَضَلَ عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين جزئين.

وروى الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عُروة عن عائشة أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفَدَك وما بقي من خُمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نُورَث ما تركنا صدقة، وإنما يأكل آل محمد من هذا المال، وإني والله لا أغيّر شيئاَ من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً.

ورواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال: حدثني عُروة: أن عائشة أخبرته بهذا الحديث. قال: وفاطمة – رضي الله عنها – حينئذ تطلب صدقة رسول الله التي بالمدينة وفَدَك وما بقي من خًمس خيبر. قالت عائشة: فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة، وإنما يأكل آل محمد في هذا المال، يعني مال الله - عز وجل -، ليس لهم أن يزيدوا على المال.

ورواه صالح عن ابن شهاب عن عروة أن عائشة قالت فيه: فأبى أبو بكر عليها ذلك، وقال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئاَ من أمره أن أزيغ. فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى عليّ وعباس، فغلب عليّ عليها. وأما خيبر وفَدَك فأمسكها عمر، وقال: هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرها إلى من وَلِيَ الأمر. قال: فهما على ذلك إلى اليوم.

فهذه الأحاديث الثابتة المعروفة عند أهل العلم، وفيها ما يبيّن أن فاطمة – رضي الله عنها – طلبت ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانت تعرف من المواريث، فأُخبرت بما كان من رسول الله فسلّمت ورجعت، فكيف تطلبها ميراثاً وهي تدّعيها مِلْكاً بالعطيّة؟ هذا ما لا معنى فيه. وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب أن يتدبّر، ولا نحتج بما يوجد في الأحاديث الثابتة لرده وإبانة الغلط فيه، ولكن حبك الشيء يعمي ويصم.

وقد روي عن أنس أن أبا بكر قال لفاطمة وقد قرأت عليه إني أقرأ مثل ما قرأت ولا يبلغن علمي أن يكون قاله كله. قالت فاطمة: هو لك ولقرابتك؟ قال: لا وأنت عندي مصدَّقة أمينة، فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليك في هذا، أو وعدك فيه موعداً أو أوجبه لكم حقًّا صدَّقتك. فقالت: لا غير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين أُنزل عليه: «أبشروا يا آل محمد وقد جاءكم الله عز وجل بالغنى». قال أبو بكر: صدق الله ورسوله وصدقت، فلكم الفيء، ولم يبلغ علمي بتأويل هذه أن استلم هذا السهم كله كاملاً إليكم، ولكن الفيء الذي يسعكم. وهذا يبيّن أن أبا بكر كان يقبل قولها، فكيف يرده ومعه شاهد وامرأة؟ ولكنه يتعلق بكل شيء يجده.

الوجه الثالث: أن يقال: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم يورث فالخصم في ذلك أزواجه وعمه، ولا تُقبل عليهم شهادة امرأة واحدة ولا رجل واحد بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتفاق المسلمين، وإن كان لا يُورث فالخصم في ذلك المسلمون، فكذلك لا يقبل عليهم شهادة امرأة واحدة ولا رجل واحد باتفاق المسلمين، ولا رجل وامرأة. نعم يُحكم في [مثل] ذلك بشهادة ويمين الطالب عند فقهاء الحجاز [وفقهاء أصحاب] الحديث. وشهادة الزوج لزوجته فيها قولان مشهوران للعلماء، هما روايتان عن أحمد: إحداهما: لا تُقبل، وهي مذهب أبي حنيفة ومالك والليث بن سعد والأوزاعي وإسحاق وغيرهم.

والثانية: تُقبل، وهي مذهب الشافعي وأبي ثور وابن المنذر وغيرهم. فعلى هذا لو قُدِّر صحة هذه القصة لم يجز للإمام أن يحكم بشهادة رجل واحد ولا امرأة واحدة باتفاق المسلمين، لاسيما وأكثرهم يجيزون شهادة الزوج، ومن هؤلاء من لا يحكم بشاهد ويمين، ومن يحكم بشاهد ويمين لم يُحكم للطالب حتى يحلّفه.

الوجه الرابع: قوله: «فجاءت بأم أيمن فشهدت لها بذلك، فقال: امرأة لا يُقبل قولها. وقد رووا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أم أيمن امرأة من أهل الجنة».

الجواب: أن هذا احتجاج جاهل مفرط في الجهل يريد أن يحتج لنفسه فيحتج عليها، فإن هذا القول لو قاله الحجَّاج بن يوسف والمختار بن أبي عبيد وأمثالهما لكان قد قال حقًّا، فإن امرأة واحدة لا يقبل قولها في الحكم بالمال لمدعٍ يريد أن يأخذ ما هو في الظاهر لغيره، فكيف إذا حُكي مثل هذا عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -؟!

وأما الحديث الذي ذكره وزعم أنهم رووه جميعاً، فهذا الخبر لا يعرف في شيء من دواوين الإسلام ولا يُعرف عالم من علماء الحديث رواه. وأم أيمن هي أم أسامة بن زيد، وهي حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من المهاجرات، ولها حق وحرمة، لكن الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تكون بالكذب عليه وعلى أهل العلم. وقول القائل: «رووا جميعاً» لا يكون إلا في خبر متواتر، فمن ينكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يُورث، وقد رواه أكابر الصحابة، ويقول: إنهم جميعاً رووا هذا الحديث، إنما يكون من أجهل الناس وأعظمهم جحداً للحق.

وبتقدير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنها من أهل الجنة، فهو كإخباره عن غيرها أنه من أهل الجنة، وقد أخبر عن كل واحد من العشرة أنه في الجنة، وقد قال: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» وهذا الحديث في الصحيح ثابت عند أهل العلم بالحديث، وحديث الشهادة لهم بالجنة رواه أهل السنن من غير وجه، من حديث عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد. فهذه الأحاديث المعروفة عند أهل العلم بالحديث. ثم هؤلاء يكذِّبون من عُلِمَ أن الرسول شهد لهم بالجنة، وينكرون عليهم كونهم لم يقبلوا شهادة امرأة زعموا أنه شهد لها بالجنة، فهل يكون أعظم من جهل هؤلاء وعنادهم؟!

ثم يُقال: كون الرجل من أهل الجنة لا يوجب قبول شهادته، لجواز أن يغلط في الشهادة. ولهذا لو شهدت خديجة وفاطمة وعائشة ونحوهن، ممن يُعلم أنهن من أهل الجنة، لكانت شهادة إحداهن نصف شهادة رجل، كما حكم بذلك القرآن. كما أن ميراث إحداهن نصف ميراث رجل، وديَّتها نصف ديّة رجل. وهذا كله باتفاق المسلمين، فكون المرأة من أهل الجنة لا يُوجب قبول شهادتها لجواز الغلط عليها، فكيف وقد يكون الإنسان ممن يكذب ويتوب من الكذب ثم يدخل الجنة؟

الوجه الخامس: قوله: «إن عليًّا شهد لها فردّ شهادته لكونه زوجها» فهذا مع أنه كذب لو صح ليس يقدح، إذ كانت شهادة الزوج مردودة عند أكثر العلماء، ومن قبلها منهم لم يقبلها حتى يتم النصاب إما برجل آخر وإما بامرأة مع امرأة، وأما الحكم بشهادة رجل وامرأة مع عدم يمين المدّعي فهذا لا يسوغ.

الوجه السادس: قولهم: إنهم رووا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عليٌّ مع الحق، والحق معه يدور حيث دار، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» من أعظم الكلام كذباً وجهلاً، فإن هذا الحديث لم يروه أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا بإسناد صحيح ولا ضعيف. فكيف يقال: إنهم جميعاً رووا هذا الحديث؟ وهل يكون أكذب ممن يروي عن الصحابة والعلماء أنهم رووا حديثاً، والحديث لا يعرف عن واحد منهم أصلاً؟ بل هذا من أظهر الكذب. ولو قيل: رواه بعضهم، وكان يمكن صحته لكان ممكناً، فكيف وهو كذب قطعاً على ا لنبي صلى الله عليه وسلم؟!.

بخلاف إخباره أن أيمن في الجنة، فهذا يمكن أنه قاله، فإن أم أيمن امرأة صالحة من المهاجرات، فإخباره أنها في الجنة لا يُنكر، بخلاف قوله عن رجل من أصحابه أنه مع الحق [وأن الحق] يدور معه حيثما دار لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض؛ فإنه كلام ينزَّه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما أولاً: فلأن الحوض إنما يَرِدُه عليه أشخاص، كما قال للأنصار: «اصبروا حتى تلقوني على الحوض» وقال: «إن حوضي لأبعد ما بين أيلة إلى عدن، وإن أول الناس وروداً فقراء المهاجرين الشعث رؤوساً الدنس ثياباً الذين لا ينكحون المتنعّمات ولا تفتح لهم أبواب السدد، يموت أحدهم وحاجته في صدره لا يجد لها قضاء» رواه مسلم وغيره.

وأما الحق فليس من الأشخاص الذين يردون الحوض. وقد رُوي [نه قال]: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض». فهو من هذا النمط وفيه كلام يذكر في موضعه [إن شاء الله].

ولو صح هذا لكان المراد به ثواب القرآن. أما الحق الذي يدور مع شخص ويدور الشخص معه فهو صفة لذلك الشخص لا يتعداه ومعنى ذلك أن قوله صِدْقٌ وعمله صالح، ليس المراد به أن غيره لا يكون معه شيء من الحق.

وأيضاً فالحق لا يدور مع شخص غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولو دار الحق مع عليّ حيثما دار لوجب أن يكون معصوماً كالنبي صلى الله عليه وسلم، وهم من جهلهم يدَّعون ذلك، ولكن من عُلم أنه لم يكن بأَوْلى بالعصمة من أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم، وليس فيهم من هو معصوم، عُلم كذبهم، وفتاويه من جنس فتاوى عمر وعثمان ليس هو أَوْلى بالصواب منهم، ولا في أقوالهم من الأقوال المرجوحة أكثر مما في قوله، ولا كان ثناء النبي صلى الله عليه وسلم ورضاه عنه بأعظم من ثنائه عليهم ورضائه عنهم، بل لو قال القائل: إنه لا يعرف من النبي صلى الله عليه وسلم أنه عتب على عثمان في شيء، وقد عتب على عليّ في غير موضع لما أَبْعَدَ، فإنه لما أراد أن يتزوج بنت أبي جهل اشتكته فاطمة لأبيها وقالت: إن الناس يقولون إنك لا تغضب لبناتك، فقام [رسول الله صلى الله عليه وسلم] خطيباً وقال: «إن بني المغيرة استأذنوني أن يزوِّجوا ابنتهم عليَّ بن أبي طالب، وإني لا آذن ثم لا آذن، ثم لا آذن: إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم، فإنما فاطمة بضعة مني [يريبني ما رابها] ويؤذيني ما آذاها» ثم ذكر صهراً له من بني عبد شمس فقال: «حدثني فصدَّقني ووعدني فوفى لي» والحديث ثابت صحيح أخرجاه في الصحيحين.

وكذلك في الصحيحين لما طرقه وفاطمة ليلاً، فقال: «ألا تصليان؟» فقال له عليّ: إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا، فانطلق وهو يضرب فخذه ويقول: «وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً».

وأما الفتاوى فقد أفتى بأن المتوفى عنها زوجها وهي حامل تعتد أبعد الأجلين، وهذه الفتيا كان قد أفتى بها أبو السنابل بن بعكك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كذب أبو السنابل» وأمثال ذلك كثير. ثم بكل حال فلا يجوز أن يحكم بشهادته وحده، كما لا يجوز له أن يحكم لنفسه.

الوجه السابع: أن ما ذكره عن فاطمة أمر لا يليق بها، ولا يحتج بذلك إلا رجل جاهل يحسب أنه يمدحها وهو يجرحها؛ فإنه ليس فيما ذكره ما يوجب الغضب عليه، إذ لم يحكم – لو كان ذلك صحيحاً – إلا بالحق الذي لا يحل لمسلم أن يحكم بخلافه. ومن طلب أن يُحكم له بغير حكم الله ورسوله فغضب وحلف أن لا يكلم الحاكم ولا صاحب الحاكم، لم يكن هذا مما يُحْمد عليه ولا مما يذم به الحاكم، بل هذا إلى أن يكون جرحاً أقرب منه إلى أن يكون مدحاً. ونحن نعلم أن ما يُحكى عن فاطمة وغيرها من الصحابة من القوادح كثير منها كذب وبعضها كانوا فيه متأولين. وإذا كان بعضها ذنباً فليس القوم معصومين، بل هم مع كونهم أولياء الله ومن أهل الجنة لهم ذنوب يغفرها الله لهم. وكذلك ما ذكره من حلفها أنها لا تكلمه ولا صاحبه حتى تلقى أباها وتشتكي إليه، أمر لا يليق أن يُذكر عن فاطمة – رضي الله عنها -؛ فإن الشكوى إنما تكون إلى الله تعالى، كما قال العبد الصالح: }إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ{ [سورة يوسف: 86]، وفي دعاء موسى - عليه السلام -: اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله»، ولم يقل: سلني ولا استعن بي.

وقد قال تعالى: }فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ{ [سورة الشرح: 7، 8].

ثم من المعلوم لكل عاقل أن المرأة إذا طلبت مالاً من ولي أمر فلم يعطها [إياه] لكونها لا تستحقه عنده، وهو لم يأخذه ولم يعطه لأحد من أهله ولا أصدقائه، بل أعطاه لجميع المسلمين، وقيل: إن الطالب غضب على الحاكم – كان غاية ذلك أنه غضب لكونه لم يعطه مالاً، وقال الحاكم: إنه لغيرك لا لك، فأي مدح للطالب في هذا الغضب؟ لو كان مظلومًا محضًا لم يكن غضبه إلا للدنيا. وكيف والتهمة عن الحاكم الذي لا يأخذ لنفسه أبعد من التهمة عن الطالب الذي يأخذ لنفسه، فكيف تحال التهمة على من لا يطلب لنفسه مالاً، ولا تحال على من يطلب لنفسه المال؟

وذلك الحاكم يقول: إنما أمنع لله؛ لأني لا يحل لي أن آخذ المال من يستحقه فأدفعه إلى غير مستحقه فأدفعه إلى غير مستحقه، والطالب يقول: إنما أغضب لحظي القليل من المال. أليس من يذكر [مثل] هذا عن فاطمة ويجعله من مناقبها جاهلاً؟!

أوليس الله قد ذم المنافقين الذين قال فيهم: }وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ{ [سورة التوبة: 58، 59] فذكر الله قوماً رضوا إن أُعطوا، وغضبوا إن لم يعطوا، فذمهم بذلك، فمن مدح فاطمة بما فيه شبه من هؤلاء ألا يكون قادحاً فيها؟ فقاتل الله الرافضة، وانتصف لأهل البيت منهم؛ فإنهم ألصقوا بهم من العيوب والشين ما لا يخفى على ذي عين.

ولو قال قائل: فاطمة لا تطلب حقها، لم يكن هذا بأولى من قول القائل: أبو بكر لا يمنع يهوديًّا ولا نصرانيًّا حقه فكيف يمنع سيدة نساء العالمين حقها؟ فإن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم قد شهدا لأبي بكر أنه ينفق ماله لله، فكيف يمنع الناس أموالهم؟ وفاطمة – رضي الله عنها - قد طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم مالاً، فلم يعطها إياه. كما ثبت في الصحيحين عن عليّ – رضي الله عنه – في حديث الخادم لما ذهبت فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً، فلم يعطها خادماً وعلَّمها التسبيح. وإذا جاز أن تطلب من النبي صلى الله عليه وسلم ما يمنعها [النبي صلى الله عليه وسلم] إياه ولا يجب عليه أن يعطيها إياه، جاز أن تطلب ذلك من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعُلم أنها ليست معصومة أن تطلب ما لا يجب إعطاؤها إياه. وإذا لم يجب عليه الإعطاء لم يكن مذموماً بتركه ما ليس بواجب وإن كان مباحاً. فأما إذا قدّرنا أن الإعطاء ليس بمباح، فإنه يستحق أن يُحمد على المنع. وأما أبو بكر فلم يُعلم أنه منع أحداً حقه، ولا ظلم أحد حقه: لا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بعد موته.

وكذلك ما ذكره من إيصائها أن تُدفن ليلاً ولا يُصلِّي عليها أحد منهم، لا يحكيه عن فاطمة ويحتج به إلا رجلٌ جاهل يطرق على فاطمة ما لا يليق بها، وهذا لو صح لكان بالذنب المغفور أَوْلى منه بالسعي المشكور، فإن صلاة المسلم على غيره زيادة خير تصل إليه، ولا يضر أفضل الخلق أن يصلي عليه شر الخلق، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي [ويسلم عليه] الأبرار والفجار بل والمنافقون، وهذا إن لم ينفعه لم يضره، وهو يعلم أن في أمته منافقين، ولم ينه أحداً من أمته عن الصلاة عليه، بل أمر الناس كلهم بالصلاة والسلام عليه، مع أن فيهم المؤمن والمنافق، فكيف يُذكر في معرض الثناء عليها والاحتجاج لها مثل هذا الذي لا يحكيه ولا يحتج به إلا مفرط في الجهل، ولو وصَّى موصٍ بأن المسلمين لا يصلون عليه لم تنفَّذ وصيته، فإن صلاتهم عليه خيرٌ له بكل حال.

ومن المعلوم أن إنساناً لو ظلمه ظالم، فأوصى بأن لا يصلِّي عليه ذلك الظالم، لم يكن هذا من الحسنات التي يُحمد عليها، ولا هذا مما أمر الله به ورسوله. فمن يقصد مدح فاطمة وتعظيمها، كيف يذكر مثل هذا الذي مدح فيه، بل المدح في خلافه، كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة والإجماع؟!.

وأما قوله: «ورووا جميعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا فاطمة! إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك» فهذا كذب منه، ما رووا هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُعرف هذا في شيء من كتب الحديث المعروفة، ولا له إسناد معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا صحيح ولا حسن. ونحن إذا شهدنا لفاطمة بالجنة، وبأن الله يرضى عنها، فنحن لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعيد وعبد الرحمن [بن عوف] بذلك نشهد، ونشهد بأن الله تعـالى أخبر برضاه عنهم في غـير مـوضع، كقـوله تعـالى: }وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ{ [سورة التوبة: 100]، وقوله تعالى: }لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ{ [سورة الفتح: 18]. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راضٍ، ومن رضي الله عنه ورسوله لا يضره غضب أحد من الخلق عليه كائناً من كان، بل من رضي الله عنه ورضي عن الله، يكون رضاه موافقاً لرضا الله، فإن الله راضٍ عنه، فهو موافق لما يرضي الله، وهو راضٍ عن الله، فحكم الله موافق لرضاه، وإذا رضوا بحكمه غضبوا لغضبه، فإن من رضي بغضب غيره لزم أن يغضب لغضبه، فإن الغضب إذا كان مرضياً لك، فعلت ما هو مرضٍ لك، وكذلك الرب [تعالى – وله المثل الأعلى] – إذا رضي عنهم غضب لغضبهم، إذ هو راضٍ بغضبهم.

وأما قوله: «رووا جميعاً أن فاطمة بضعة مني من آذاها آذاني، ومن آذاني آذى الله» فإن هذا الحديث لم يرو بهذا اللفظ، بل [روي] بغيره، كما روي في سياق حديث خطبة عليّ لابنة أبي جهل، لما قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: «إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن يُنكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، وإني لا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن، إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها، إلا أن يريد أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم» وفي رواية: «إني أخاف أن تفتن في دينها» ثم ذكر صهراً له من بني عبد شمس فأثنى عليه مصاهرته إياه فقال: «حدَّثني فصدقني، ووعدني فوفى لي. وإني لست أحلّ حراماً، ولا أحرم حلالاً، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله مكاناً واحداً أبداً» رواه البخاري ومسلم [في الصحيحين] من رواية عليّ بن الحسين والمسور بن مخرمة، فسبب الحديث خِطبة علي – رضي الله عنه – لابنة أبي جهل، والسبب داخل في اللفظ قطعاً، إذ اللفظ الوارد على سبب لا يجوز إخراج سببه منه، بل السبب يجب دخوله بالاتفاق.

وقد قال في الحديث: «يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها» ومعلوم قطعاً أن خطبة ابنة أبي جهل عليها رابها وآذاها، والنبي صلى الله عليه وسلم رابه ذلك وآذاه، فإن كان هذا وعيداً لاحقاً بفاعله، لزم أن يلحق هذا الوعيد عليَّ بن أبي طالب، وإن لم يكن وعيداً لاحقاً بفاعله، كان أبو بكر أبعد عن الوعيد من عليّ.

وإن قيل: إن عليًّا تاب من تلك الخطبة ورجع عنها.

قيل: فهذا يقتضي أنه غير معصوم. وإذا جاز أن من راب فاطمة وآذاها، يذهب ذلك بتوبته، جاز أن يذهب بغير ذلك من الحسنات الماحية، فإن ما هو أعظم من هذا الذهب تذهبه الحسنات الماحية والتوبة والمصائب المكفِّرة.

وذلك أن هذا الذنب ليس من الكفر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة، ولو كان كذلك لكان عليٌّ – والعياذ بالله – قد ارتد عن [دين] الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن الله تعالى نزَّه عليًّا من ذلك والخوارج الذين قالوا: إنه ارتد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقولوا: إنه ارتد في حياته، ومن ارتد فلا بد أن يعود على الإسلام أو يقتله النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لم يقع. وإذا كان هذا الذنب هو مما دون الشرك فقد قال تعالى: }إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء{ [سورة النساء: 48].

وإن قالوا بجهلهم: إن هذا الذنب كفر ليكفِّروا بذلك أبا بكر، لزمهم تكفير عليّ، واللازم باطل فالملزوم مثله. وهم دائماً: يعيبون أبا بكر وعمر وعثمان، بل ويكفِّرونهم بأمور قد صدر من عليّ ما هو مثلها أو أبعد عن العذر منها، فإن كان مأجوراً أو معذوراً فهم أَوْلى بالأجر والعذر، وإن قيل باستلزام الأمر الأخف فسقاً أو كفراً، كان استلزام الأغلظ لذلك أَوْلى.

وأيضاً فيقال: إن فاطمة – رضي الله عنها – إنما عظم أذاها لما في ذلك من أذى أبيها، فإذا دار الأمر بين أذى أبيها وأذاها كان الاحتراز عن أذى أبيها أوجب. وهذا حال أبي بكر وعمر، فإنهما احترزا عن أن يؤذيا أباها أو يريباه بشيء، فإنه عهد عهداً وأمر بأمر، فخافا إن غيّرا عهده وأمره أن يغضب لمخالفة أمره وعهده ويتأذى بذلك. وكل عاقل يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حكم بحكم، وطلب فاطمة أو غيرها ما يخالف ذلك الحكم، كان مراعاة حكم النبي صلى الله عليه وسلم أََوْلى، فإن طاعته واجبة، ومعصيته محرّمة، ومن تأذَّى لطاعته كان مخطئاً في تأذِّيه بذلك، وكان الموافق لطاعته مصيباً في طاعته. وهذا بخلاف من آذاها لغرض نفسه لا لأجل طاعة الله ورسوله.

ومن تدبَّر حال أبي بكر في رعايته لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه إنما قصد طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا أمراً آخر يحكم أن حاله أكمل وأفضل [وأعلى] من حال عليّ – رضي الله عنهما -، وكلاهما سيد كبير من أكابر أولياء الله المتقين، وحزب الله المفلحين، [وعباد الله الصالحين]، ومن السابقين الأوَّلين، ومن أكابر المقربين، الذين يشربون بالتسنيم. ولهذا كان أبو بكر – رضي الله عنه – يقول: «والله لَقَرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ إليَّ أن أصلْ من قرابتي». وقال: «ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته» رواه البخاري عنه.

لكن المقصود أنه لو قُدِّر أن أبا بكر آذاها، فلم يؤذها لغرض نفسه بل ليطيع الله ورسوله، ويوصِّل الحق إلى مستحقه. وعليٌّ – رضي الله عنه – كان قصده أن يتزوج عليها، فله في أذاها غرض، بخلاف أبي بكر. فعُلم أن أبا بكرٍ كان أبعد أن يُذمَّ بأذاها من عليّ، وأنه إنما قصد طاعة الله ورسوله بما لاحظ له فيه، بخلاف عليّ؛ فإنه كان له حظ فيما رابها به. وأبو بكر كان من جنس من هاجر إلى الله ورسوله، وهذا لا يشبه من كان مقصوده امرأة يتزوجها. والنبي صلى الله عليه وسلم يؤذيه ما يؤذي فاطمة إذا لم يعارض ذلك أمر الله تعالى، فإذا أمر الله تعالى بشيء فعله، وإن تأذَّى من تأذَّى من أهله وغيرهم، وهو في حال طاعته لله يؤذيه ما يعارض طاعة الله ورسوله. وهذا الإطلاق كقوله: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني» ثم قد بيّن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف». فإذا كانت طاعة أمرائه أطلقها ومراده بها الطاعة في المعروف، فقوله: «من آذاها فقد آذاني» يحمل على الأذى في المعروف بطريق الأَوْلى والأحرى، لأن طاعة أمرائه فرض، وضدها معصية كبيرة. وأما فعل ما يؤذي فاطمة فليس هو بمنزلة معصية أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا لزم أن يكون عليّ قد فعل ما هو أعظم من معصية الله ورسوله، فإن معصية أمرائه معصيته، ومعصيته معصية الله. ثم إذا عارض معارض وقال: أبو بكر وعمر وليا الأمر، والله قد أمر بطاعة أولي الأمر، وطاعة ولي الأمر طاعة لله ومعصيته معصية لله، فمن سخط أمره وحكمه فقد سخط أمر الله وحكمه.

ثم أخذ يشنِّع على عليّ وفاطمة – رضي الله عنهما – بأنهما ردّا أمر الله، وسخطا حكمه، وكرها ما أرضى الله، لأن الله يرضيه طاعته وطاعة ولي الأمر، فمن كره طاعة ولي الأمر فقد كره رضوان الله، والله يسخط لمعصيته، ومعصية ولي الأمر معصيته، فمن اتّبع معصية ولي الأمر فقد اتبع ما أسخط الله وكره رضوانه. وهذا التشنيع ونحوه على عليّ وفاطمة – رضي الله عنهما – أوجه من تشنيع الرافضة على أبي بكر وعمر، وذلك لأن النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في طاعة ولاة الأمور، ولزوم الجماعة، والصبر على ذلك مشهورة كثيرة، بل لو قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطاعة ولاة الأمور وإن استأثروا، والصبر على جَوْرهم، وقال: «إنكم ستلقون بعدي أَثَرَة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» وقال: «أدُّوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم» وأمثال ذلك. فلو قُدِّر أن أبا بكر وعمر – رضي الله عنهما – كانا ظالمين مستأثرين بالمال لأنفسهما، لكان الواجب مع ذلك طاعتهما والصبر على جورهما.

ثم لو أخذ هذا القائل يقدح في عليّ وفاطمة – رضي الله عنهما – ونحوهما بأنهم لم يصبروا ولم يلزموا الجماعة، بل جزعوا وفرَّقوا الجماعة، وهذه معصية عظيمة – لكانت هذه الشناعة أوجه من تشنيع الرافضة على أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما -، فإن أبا بكر وعمر لا تقوم حجة بأنهما تركا واجباً، ولا فعلا محرماً أصلاً، بخلاف غيرهما، فإنه قد تقوم الحجة بنوع من الذنوب التي لم يفعل مثلها أبو بكر ولا عمر. وما ينزَّه علي وفاطمة – رضي الله عنهما - عن ترك واجب أو فعل محظور، إلا وتنزيه أبي بكر وعمر أَوْلى بكثير، ولا يمكن أن تقوم شبهة بتركهما واجباً أو تعدّيهما حدًّا، إلا والشبهة التي تقوم في عليّ وفاطمة أقوى وأكبر، فطلب الطالب مدح عليّ وفاطمة – رضي الله عنهما - إما بسلامتهما من الذنوب، وإما بغفران الله لهما، مع القدح في أبي بكر وعمر بإقامة الذنب والمنع من المغفرة، من أعظم الجهل والظلم، وهو أجهل وأظلم ممن يريد مثل ذلك في عليّ ومعاوية – رضي الله عنهما -، إذا أراد مدح معاوية – رضي الله عنه -، والقدح في عليّ – رضي الله عنه -.

الوجه الثامن: أن قوله: «لو كان هذا الخبر صحيحاً حقًّا لما جاز له ترك البغلة والسيف والعمامة عند عليّ والحكم له بها لما ادّعاها العباس».

فيقال: ومن نقل أن أبا بكر وعمر حكما بذلك لأحد، أو تركا ذلك عند أحد، على أن ذلك ملك له، فهذا من أبْيَن الكذب عليهما، بل غاية ما في هذا أن يُترك عند ما يُترك عنده، كما تركا صدقته عند عليّ والعباس ليصرفاها في مصارفها الشرعية.

وأما قوله: «ولكان أهل البيت الذين طهَّرهم الله في كتابه مرتكبين ما لا يجوز».

فيقال له: أولاً إن الله لم يخبر أنه طهَّر جميع أهل البيت وأذهب عنهم الرجس، فإن هذا كذب على الله. كيف ونحن نعلم أن في بني هاشم من ليس بمطهّر من الذنوب، ولا أذهب عنهم الرجس، لاسيما عند الرافضة، فإن عندهم كل من كان من بني هاشم يحب أبا بكر وعمر – رضي الله عنهما – فليس بمطهَّر، والآية إنما قال فيها: }إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ{ [سورة الأحزاب: 33]. وقد تقدم أن هذا مثل قوله: }مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{ [سورة المائدة:6]، وقوله: }يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ{ [سورة النساء: 26]، ونحو ذلك مما فيه بيان أن الله يحب ذلك لكم، ويرضاه لكم، ويأمركم به، فمن فعله حصل له هذا المراد المحبوب المرضي، ومن لم يفعله لم يحصل له ذلك.

وقد بُسط هذا في غير هذا الموضع، وبُيِّن أن هذا ألزم لهؤلاء الرافضة القدرية؛ فإن عندهم [أن] إرادة الله بمعنى أمره، لا بمعنى أنه يفعل ما أراد، فلا يلزم إذا أراد الله تطهير أحد أن يكون ذلك قد تطهّر، ولا يجوز عندهم أن يطهِّر الله أحداً، [بل من أراد الله تطهيره، فإن شاء طهّر نفسه، وإن شاء لم يطهرها]، ولا يقدر الله عندهم على تطهير أحد.

وأما قوله: «لأن الصدقة محرَّمة عليهم».

فيقال له: أوّلا المحرّم عليهم صدقة الفرض، وأما صدقات التطوع فقد كانوا يشربون من المياه المسبَّلة بين مكة والمدينة، ويقولون: إنما حُرِّم علينا الفرض، ولم يحرَّم علينا التطوع. وإذا جاز أن ينتفعوا بصدقات الأجانب التي هي تطوع، فانتفاعهم بصدقة النبي صلى الله عليه وسلم أَوْلى وأحرى؛ فإن هذه الأموال لم تكن زكاة مفروضة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أوساخ الناس التي حُرِّمت عليهم، وإنما هي من الفيء الذي أفاءه الله على رسوله، والفيء حلال لهم، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل ما جعله الله له من الفيء صدقة، إذ غايته أن يكون ملكاً للنبي صلى الله عليه وسلم تصدَّق به على المسلمين، وأهل بيته أحق بصدقته؛ فإن الصدقة [على المسلمين صدقة، والصدقة] على القرابة صدقة وصلة.

الوجه التاسع: في معارضته بحديث جابر – رضي الله عنه – فيقال: جابر لم يدع حقًّا لغيره يُنتزع من ذلك الغير ويُجعل له، وإنما طلب شيئاً من بيت المال يجوز للإمام أن يعطيه إياه، ولو لم يعده به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا وعده به كان أَوْلى بالجواز، فلهذا لم يفتقر إلى بيِّنة. ومثال هذا أن يجئ شخص إلى عقار بيت المال فيدَّعيه لنفسه خاصة، فليس للإمام أن ينزعه من بيت المال فيدَّعيه لنفسه خاصة، فليس للإمام أن ينزعه من بيت المال ويدفعه إليه بلا حجة شرعية، وآخر طلب شيئاً من المال المنقول الذي يجب قسمه على المسلمين [من مال بيت المال]؛ فهذا يجوز أن يُعطى بلا بيِّنة. ألا ترى أن صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الموقوفة، وصدقة غيره من المسلمين لا يجوز لأحد [من المسلمين] أن يملك أصلها، ويجوز أن يُعطى من ريعها ما ينتفع به، فالمال الذي أُعطى منه جابر هو المال الذي يقسَّم بين المسلمين، بخلاف أصول المال.

ولهذا كان أبو بكر وعمر – رضي الله عنهما – يعطيان العباس [وبنيه] وعليًّا والحسن والحسين وغيرهم من بني هاشم أعظم مما أعطوا جابر [بن عبد الله] من المال الذي يقسم بين الناس، وإن لم يكن معهما وعد من النبي صلى الله عليه وسلم.

فقول هؤلاء الرافضة الجهّال: إن جابر [بن عبد الله] أخذ مال المسلمين من غير بيّنة بل بمجرد الدعوى، كلام من لا يعرف حكم الله، لا في هذا ولا في ذاك؛ فإن المال الذي أُعطى [منه] جابر مال يجب قسمته بين المسلمين. وجابر أحد المسلمين، وله حقٌّ فيه، وهو أحد الشركاء، والإمام إذا أعطى أحد المسلمين من مال الفيء ونحوه من مال المسلمين، لا يقال: إنه أعطاه مال المسلمين من غير بيّنة؛ لأن القسم بين المسلمين وإعطاءهم لا يفتقر إلى بيِّنة بخلاف من يدَّعي أن أصل المال له دون المسلمين.

نعم الإمام يقسم المال باجتهاده في التقدير، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم المال بالحثيات. وكذلك رُوي عن عمر رضي الله عنه، وهو نوع من الكيل باليد. وجابر ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم وعده بثلاثة حثيات، وهذا أمر معتاد مثله من النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يذكر إلا ما عُهد من النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وما يجوز الإقتداء به فيه، فأعطاه حثية، ثم نظر عددها فأعطاه بقدر مرتين، تحرياً لما ظنه موافقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم في القسم، فإن الواجب موافقته بحسب الإمكان، فإن أمكن العلم وإلا اتبع ما أمكن من التحرّي والاجتهاد.

أما قصة فاطمة – رضي الله عنها فما ذكروه من دعواها الهبة والشهادة المذكورة ونحو ذلك، لو كان صحيحاً لكان بالقدح فيمن يحتجون له أشبه منه بالمدح .

( المرجع : منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، 4 / 194-264


 

 

 

 

    

رد مع اقتباس