::: مـنتدى قبيلـة الـدواسـر الـرسمي ::: - عرض مشاركة واحدة - حديث الشيــــــخ !
عرض مشاركة واحدة
قديم 09-08-2005, 10:55 AM   #29
 
إحصائية العضو







هند غير متصل

هند is on a distinguished road


افتراضي




( الجزء الأخير )

ومضى في طريقه إلى المسجد ..
إنه يريد أن يرى الشيخ ..
أن يجلس بين يديه ..
أن يعترف بتقصيره ..
وكان الطريق طويلاً ، والمنعطفات كثيرة ، والبيوت تقف على الجانبين .. ولم يسمع أصوات المسلمين عليه ..
ولا الفقير الذي مد يده يسأله الصدقة ..
ولا أحدًا من الناس ..
كان يريد أن يصل إلى المسجد ..
أن يعود إلى سابق عهده ..
أن يعود إلى الله بقلب تائب خاشع منيب ..
لم يكن يظن أنه يستطيع أن يفارق أحدًا من أصحابه ..
لم يكن يظن انه يستطيع أن يبتعد عنهم ..
كيف ابتعد كل هذه المدة ؟
لقد كان في رحلة خطرة .. المحظوظ فيها من يعود منها سالمًا .. لا له ولا عليه ..
لقد كان صغيرًا يوم بدأ يعتاد المساجد .
وكان صغيرًا يوم أخذ يتردد على حديث الشيخ .
كان أبو الذهب يطرق عليه الباب كل يوم .. يوقظه ، ثم يقوده من يده في طريقه إلى المسجد . كان يحنو عليه ، كما يحنو الأخ الكبير على أخيه الصغير ..
إنه يتذكر تلك الأيام ، وتلك اللحظات .
لقد كانت ملء السمع وملء البصر ..
وعبود .. الفتى الطويل الأسمر ، الذي أمضى سنوات عديدة وهو يحاول العثور على فتاة لكي يخطبها لنفسه . فلم يوفق !
لأنه لم يجد الفتاة التي تناسبه ، أو التي تناسب أمه كما يقول أخوه !!
وعبدالله بن الشيخ إبراهيم ، الفتي الطيب .. اللطيف الوديع ، الذي ذهب يدرس الطب .. والذي كان يراه يذرع ساحة المسجد ذهابًا وإيابًا وهو يحاول حفظ سورة التوبة ..
وأبو أنس .. وخلاصاته التي لا تنتهي ، ودعاباته ، وروحه المرحة ، ومشاريعه الكثيرة التي يبنيها في الهواء ، وحكاياته عن أمه ، وكم مرة تخطئ في العد .
وأبو الحسن .. علي بن حسين .. وسمته الهادئ اللطيف ، ودروسه الفقهية التي تعلمها في المدرسة المستنصرية .. وصاحبه جاسم الذي لم يكن يفارقه في ذهابه وإيابه ، وقصته مع الشاب الذي سخر من صلاته ، فرأى ذلك الشاب رجلاً يأتيه في المنام وينهال على ظهره ضربًا بالسياط ، حتى استيقظ وأثر السياط ظاهر على ظهره !!
وغيرهم .. وغيرهم ..
كانوا يحيطون به .. يحبونه .
بل يراه بعضهم قدوة له .. ويتمنى لو بلغ مبلغه !
أيستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟!!
ومضى يسار يريد أن يصل إلى المسجد قبل انفضاض الجماعة من صلاة العشاء .. إنه لا يريد أن يطرق على الشيخ باب بيته .. لأنه لم يتعود أن يزوره في الليل ..
وتمنَّى لو استطاع أن يطير .. أن يصل ..
وتذكر العم عثمان ( أبو البحر ) .. هذا الذي تجاوز المائة من العمر .. والذي وقف مرة يخاطبه ويقول :
- ليتني نشأت في طاعة الله كما نشأت يا يسار .. فهنيئًا لك ..
ثم رفع المنديل يسمح دمعة ترقرقت بها عينه وقال :
- لقد طال أجلي وقلَّ عملي ..
إنه لا ينسى هذا ..
ولا ينسى والده ، وكان يتمتم بعد صلاة الفجر فيقول :
- الحمد لله الذي رزقني ولدًا صالحًا تصل دعواته إلى قبري .
وأمه الحزينة المسكينة .. التي كانت تنظر إليه وتبكي بصمت ، والتي سمعها قبل أيام تقول لأبيه بصوت خافت :
- لا أدري ما الذي جرى ليسار .. كلمه يا رجل .. كلمه لعله يحدثك .
وأخته الصغيرة سناء .. لم يعد يداعبها .. ولا يسألها عن قطتها .. حتى شكت لأمها فقالت :
- لماذا لا يكلمني يسار ؟ هل هو مريض ؟
والشيخ ..
لقد كان يحبه كثيرًا ، كان لا يمل سماع حديثه . كان يرغب بالمزيد المزيد ..
وهل لدى الشيخ إلا كل نافع مفيد ؟ كان يتحدث وكأنه يغرف من بحر ليس له ساحل ..
إنه في طريقه إليه ..
سيقص عليه ما جرى ..
سيقول له ..
ماذا يقول ..؟
ورأى المسجد أمامه .. ببنائه القديم ، وجدرانه التي يخيل للناظر إليها أنها توشك على التداعي ، ومئذنته المتواضعة ..
وتقدم بخطوات بطيئة مترددة ..
لقد شعر كأن حجارة المسجد تنظر إليه بعتاب ..
وكأن جدرانه التي تتطلع إليه بصمت قد فرحت بقدومه ..
إن هذا المسجد يعرفه .. إن كل حجارة فيه تعرفه ..
كم مرة حضر إلى المسجد قبل أن يحضر أي إنسان ..
كم مرة قضى الساعات الطوال .. قائمًا مصليًا ، أو قارئًا للقرآن .. أو ذاكرًا لله تعالى ..
لقد كان مكانه في الصف الأول من صلاة الجماعة ..
ومع التكبيرة الأولى ..
وتعدى باب المسجد وهو يقدم رجله اليمنى ويقول :
- اللهم افتح لي أبواب رحمتك ..
إن أبواب رحمة الله مفتوحة دائمًا ، لم تغلق في ساعة من ليل أو نهار ..
أين التائبون .. الآيبون .. النادمون ..
هذه الشجرة الكبيرة في ساحة المسجد .. في مكانها لم تتحرك .
والفوانيس المضيئة ..
وزير الماء ..
وخادم المسجد .. حميد بن سلوم الرقاق .
وتقدَّم يسار ..
كان المصلون قد خرجوا ..
ولكنه لم ييأس .. فلعل الشيخ تخلَّف بعد صلاة العشاء ..
وصدق ظنه ..
كان الشيخ واقفًا ، مستندًا بظهره إلى الدعامة الوسطى من المسجد ، وكان ينظر إلى يسار ، بعين الوالد الرفيق الرحيم ..
وتقدم يسار ..
خجلاً مترددًا كأنه يحمل أوزار الدنيا ..
واقترب منه ..
فسلَّم عليه ..
وهيئ له كأنه سمع الشيخ يرد عليه ..
وشعر بيده توضع على كتفه ..
وسمع صوته المضمخ بعبير القرآن وهو يتلو :
} قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعًا . إنه هو الغفور الرحيم { .
وهشَّ قلبه لهذه الآية.. وشعر كأنه يسمعها لأول مرة.. تحملها الملائكة.. ويهتف بها المسجد..
وشعر كأن كل شيء ..
حتى الفوانيس الكبيرة ..
وحتى النخلة الواقفة هناك ..
وكل حجر في هذا البناء الطاهر ..
استقبله .. فرح به .. سر بعودته .. فتح ذراعيه له ..
وأراد يسار أن يقول شيئًا أن يتكلم ..
أن يقص على الشيخ ما جرى له ..
ولكنه لم يستطع ..
لقد تحوَّلت كلماته إلى دموع .
وعاد صوت الشيخ ، الهادئ الوقور يتلو من القرآن الكريم .. ما وجد فيه يسار ، شفاء ، وأملاً ، ورحمة ، ورغبة في العودة إلى الله : } وإني لغفَّارٌ لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى { .



تمت ولله الحمد


هند


 

 

 

 

 

 

التوقيع

    

رد مع اقتباس