::: مـنتدى قبيلـة الـدواسـر الـرسمي ::: - عرض مشاركة واحدة - حديث الشيــــــخ !
عرض مشاركة واحدة
قديم 11-07-2005, 05:15 PM   #10
 
إحصائية العضو







هند غير متصل

هند is on a distinguished road


افتراضي




تابع .. الجزء الثالث .،

وهمَّ يسار بالانصراف ، فلم يكن يرغب في البقاء طويلاً في مثل هذا السوق ، ولم يكن يلبث إلا بمقدار ما يتناول حاجته من العطر ثم يعود سريعًا ..
قال أبو العرفان : فالتفتت إليه الجارية وقالت بصوت ناعم :
- إنني متأسفة يا سيدي .
والتفت إليها ، ولم يكن قد وقع عليها نظره حتى هذه الساعة ، فلما التقت العينان ، أسبلت جفونها في خفر العذارى ، وقالت بصوت هامس :
- إنني متأسفة يا سيدي .. لم أستطع أن أكتب مشكلتي .. ليتك تسمعها . فغض بصره ، وقد تذكر الرقعة التي حملها إليه مريد ، وقال :
- تكلَّمي :
قالت .. وبصوت كأنين الوتر الحزين :
- الآن يا سيدي ؟
قال ، ودون أن يلتفت إليها ، أو يرفع نظره مرة أخرى :
- نعم .
قالت .. وهي تحاول أن تجره للحديث :
- هنا في السوق ؟
قال : نعم .
وعاد العطَّار وهو يمسح جبينه من العرق وينفخ ، وقال متعذرًا :
- لم يبق لديه شيء يا سيدتي .
وتنهَّدت الجارية وقالت :
- سأعود مرة أخرى .
ثم انصرف بعد أن ألقت على يسار نظرة ، جعلته يطرق خجلاً .
ثم انتبه إلى صوت العطَّار يقول :
- إن هذه الجارية ليست فارسية .
والتفت يسار ، وكأنه يسأله .. فأضاف العطَّار قائلاً :
- إنها ليست فارسية .. علمت ذلك من لهجتها .
قال أبو العرفان : أبو علي العطَّار أعلم بلهجات القوم من غيره .
قال أبو الحسن الورَّاق : لم تنل الجارية من يسار ، إلا كما ينال التراب من السحاب ، كيف لا .. وهو الفتى الذي لم يترك ثغرة ينفذ منها الشيطان إلى نفسه إلا أغلقها .
وعندما عاد تلك الليلة ، بعد صلاة العشاء ، وقبل أن يقف للصلاة لقيام الليل ، خيل إليه كأنه يسمع همسة ، أو لحنًا ، أو صوتًا أليفًا ..! ولم يفكر في ذلك ، وإنما انصرف إلى صلاته ، لا يشغله عنها شاغل ، فالليل مركب الصالحين ، ومطيَّة العباد ، وأقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل .
وبعد أن صلى ثماني ركعات ، وختمها بصلاة الوتر ، استلقى على فراشه ، وأخذ يردد بصوت خافت خاشع .. باسمك ربي وضعت جنبي ، وبك أرفعه ، إن أمسكت نفسي فاغفر لها ، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين .. وقبل أن يلفه النوم بين أحضانه ، تذكر أين سمع ذلك الهمس ، أو اللحن .. سمعه عصر اليوم ، عند دكان العطَّار ، سمعه من الجارية الفارسية التي ذكرت أن لديها مشكلة تريد أن تعرضها عليه .
وأسرع يسار فصرف هذه الخواطر ، وشعر أنها دخيلة عليه ، دخيلة على محرابه الآمن الذي تعمره التقوى ، إنها ليست من مدد السماء . وانتقل إلى جو الآية التي كان يرددها أثناء الصلاة : } إن لدينا أنكالاً وجحيمًا وطعامًا ذا غصة وعذابًا أليمًا { . كل هذا العذاب ينتظر الإنسان الضال ، الإنسان الآبق من رحمة الله ! إن الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا . وتدحرجت دمعة كبيرة على خده ، وتبعتها دموع ، حتى بلَّلت الوسادة ، ثم راح في نوم هادئ عميق .
الرسالة

قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي :
في مساء يوم الثلاثاء ، في الأسبوع الذي تلا لقاء الجارية يسار في سوق العطَّارين ، انعقد المجلس في بيت حكيم بن محمود ، كانت غرفة الاستقبال التي أعدت للطرب كبيرة واسعة ، مضاءة بعدد من الشموع الطويلة البيضاء ، وقد أحالت الليل إلى مثل النهار ، وكانت الستائر الشامية موشَّاة بالخيوط اليمانية ، وقد رتب الأثاث بشكل بديع ، ووقف طير الببغاء على رفٍ مرتفع وراح يردد بعض الأصوات والكلمات التي يسمعها من الحاضرين !
قال أبو العرفان : وكان أبو محمود يروح ويجيء ، وهو يلقي بالنكتة اللطيفة ، فيقهقه سيعد بن منصور ، وتطوق فم حسَّان ابتسامة خفيفة ، أما حبيب بن مسعود ، فقد جلس كعادته في بدء اللقاء ، معتمدًا على المائدة بكوعه ، محتضنًا وجهه براحتيه ، وقد خيَّم عليه ما يشبه الحزن .
فالتفت إليه حسَّان بن معيقيب وقال له :
- مالك يا ابن مسعود ؟ إنك في كل مرة نلتقي بها تبدأ حزينًا كئيبًا كأن هموم الدنيا قد نزلت على رأسك ، فإذا بدأنا اللهو والشراب كنت أغرقنا لهوًا وعربدة !
فضحك حبيب بن مسعود ضحكة تشبه النحيب .. وقال وهو يعتدل في جلسته ويطلق زفرة حارة .
- كالطير يرقص مذبوحًا من الألم .
وهمست الجارية :
- من الذي ذبحك يا حبيب ؟
فلم يبد عليه أنه سمع سؤالها ، ولكنه أشار إلى حسَّان وقال :
- اسمع يا حسَّان .. لقد كنت قبل أن ألتقي بحكيم ، قبل أن يعود من رحلته الأخيرة إلى بلاد شارلمان ، كنت أسير في الطريق المعبَّد ، كنت مع يسار ، أتردد على مجالس العلم ، وأصلي الأوقات في المسجد .. حتى صلاة الفجر .. وفي مثل هذا البرد ، كنت أستيقظ فأتوضأ بالماء البارد وأنا لا أشعر ببرودته ، وأذهب إلى المسجد ، كنت أحيا حياة أخرى ، أقرب إلى حياة الملائكة ، فلما التقيت بحكيم..
ونكس رأسه ، وأخذ يعصر يديه بيديه ، والجارية وحسَّان وسعيد بن منصور ، وحتى الببغاء كانت تصغي إليه ! ومضى حديثه فقال :
- انقدت إلى حكيم بلا تفكير .. سلمته الزمام فأوردني المورد الحرام .
أتدري يا حسَّان .. إننا نسير في طريق مسدود ، ليس له إلا منفذ واحد ، وهتفت الجارية بهمس أيضًا :
- إلى أين ؟
فتنهد حبيب وهو يدفع ظهره إلى الخلف وقال :
- إلى النار ..
- ثم شبك بين أصابع يديه وأضاف :
- هذا إذا لم يتداركنا الله برحمته .
وسكت حبيب ، وكانت عيون الجارية قد تعلَّقت به تسأله المزيد ، وكان يبدوا كالأسير الذي لا يستطيع الفرار من أسره . ورفع رأسه ، فرأى الجارية تنظر إليه كأنها ترثي لحاله ، فسرَّه ذلك ومضى يقول :
- لقد كنت أعيش في جو مملوء بالرياحين ، كنت في جنة وارفة والظلال أما الآن .. فأنى توجهت تطالعني هوة سحيقة فاغرة فاها تريد أن تبتلعني ، هذه هي المعيشة الضنك التي ذكرها القرآن الكريم } ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا { .
وأقبل أبو محمود ، فأخذ الببغاء إلى غرفة أخرى ثم قال :
- إذا انتهيت من وعظك فآذني ..
فضحك الجميع ضحكة اهتزت لها جنبات الغرفة ، وأراد ابن مسعود أن يجيب ، ولكنه سمع طرقًا خفيفًا على الباب .. فصاح أبو محمود ينادي العبد :
- انظر من الباب ..
وأقبل هذا بعد قليل ، وكان كبير السن تجاوز الخمسين من العمر يرتدي ملابس بيضاء ويضع على رأسه قلنسوة من صنع الأعاجم . وأخذ العبد يشير بيديه وعينيه ، ويتكلم بصوت لا يسمعه أحد من الحاضرين ، حتى خيَّم على الجميع صمت مبعثه الرغبة في معرفة ما يريد أن يقوله العبد .
وسأل أبو محمود وهو ينظر بعينيه الزرقاوين وقال :
- ما الخبر ؟
وعاد هذا يوشوش بصوت مبهم، وهو يؤشر بيده وعينه حتى ظن البعض أن أمرًا خطيرًا قد وقع.
وصاح أبو محمود وقد نفذ صبره :
- تكلم يا رجل .
فكوَّر يديه ، وأحاط بهما فمه ، وأحنى قامته ، وأدنى رأسه وقال :
- لقد حضر يسار ..
وهتف الجميع بصوت واحد :
- من ؟!!
وأجاب مرة أخرى وهو يكوّر يديه ويدني رأسه ، وقال بصوت خافت :
- لقد حضر يسار .
وتغير وجه حبيب بن مسعود ، ونهض منفعلاً وهو يهتف :
- عملتها يا أبو محمود ؟!
وأشار هذا بيده ، وهو ينفي ما دار في خلد حبيب ، وقال :
- ماذا دهاك يا حبيب .. إني والله لا أعلم ما الذي جاء به .
فهدَّأ حبيب بن مسعود ، وسرى عنه بعض ما به ، ولكنه قال :
- إذا أردت أن تدخله ، فيجب أن ننتقل إلى غرفة أخرى ، لأني لا أرغب أن يراني هنا .
وقدح ذهن حكيم بفكرة شيطانية ، وتبسم وهو يقول :
- كما تشاء يا حبيب .
ولما غادر الجميع إلى الغرفة المجاورة ، أشار إلى الجارية أن تبقى ، ثم اقترب منها وقال بهمس :
- لقد سعى الطائر إلى الفخ .
فنظرت إليه مستفهمة وقالت :




يتبع ..

 

 

 

 

 

 

التوقيع

    

رد مع اقتباس